الثلاثاء، 16 مايو 2017

الجزء الرابع - ( النار ) الأشياء التي تدمّر وتحطّم


الجزء الرابع

النار
الأشياء التي تدمّر وتحطّم







سليمان السكران



قونية، شباط (فبراير) 1246
          بتأثير الخمر، تنتابني أوهام كثيرة عندما أسكر، لكن رؤية الرومي العظيم وهو يدخل باب الخمارة كان أمراً لا يمكن تصديقه.  وبالرغم من أنني قرصت نفسي، لم تختف رؤيته تلك.
          صرخت، "خريستوس، ماذا قمت لي يا رجل؟  لا بد أن قنينة النبيذ الأخيرة تحتوي على نبيذ رائع.  فلا يمكنك أن تخمّن ما أراه الآن".
          "اسكت أيها الأحمق"، همس أحدهم من خلفي.
          تطلعت حولي لأرى من يحاول إسكاتي، فذهلت عندما رأيت جميع الرجال في الحانة، بمن فيهم خريستوس، يحدّقون نحو الباب.  وأطبق صمت مخيف على المكان، حتى ساكوي، كلب الحانة، الذي بدت عليه علائم الحيرة وهو رابض وقد التصقت أذناه المهدلتان بالأرض.  توقّف تاجر السجاد الفارسي عن إنشاد تلك الألحان السيئة التي يطلق عليها أغاني، ونهض، رافعاً ذقنه بجدية سكير يحاول أن يبدو أنه ليس كذلك.
          كان خريستوس أول من كسر الصمت، فقال: "أهلاً بك في حانتي





يا مولانا"، قال وصوته يقطر أدباً: "إنه لشرف عظيم ان نراك تحت هذا السقف.  كيف يمكنني أن أخدمك؟".
          رمشت عيناي عدة مرات وتأكدت أخيراً أن الرومي بلحمه وشحمه هو الواقف هناك.
          "شكراّ"، قال الرومي، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، لكن باردة، وأضاف: "أريد قليلاً من الخمر".
          فوجئ خريستوس المسكين عندما سمع ذلك وفغر فاه.  وعندما تمكّن من التحرّك ثانية، قاد الرومي إلى أول طاولة فارغة، صادف أنها تنصب إلى جانب الطاولة التي أجلس إليها.
          "السلام عليكم"، حيّاني الرومي عندما جلس.
          رددت: عليك السلام ورويت بضع دعابات، لكنني لم أكن واثقاً أن الكلمات التي انطلقت من فمي مناسبة.  بتعابيره الهادئة، وعباءته الغالية الثمن، وقفطانه البني الغامق الرائع، لم يعد الرومي يبدو أنه في المكان الملائم على الإطلاق.
          انحنيت إلى الأمام، وخفضت صوتي حتى كاد أن يصبح همساً، وقلت: "هل من الصفاقة أن أسألك ماذا يفعل رجل مثلك هنا؟".
          "إني أمرّ بتجربة صوفية"، قال الرومي، ورمش عينيه كما لو كنا صديقين قديمين، وأضاف: "لقد أرسلني شمس إلى هنا لتشويه سمعتي".
          "وهل هذا شيء جيد؟"، سألته.
          ضحك الرومي وقال: "حسناً، إن ذلك يتوقف على الطريقة التي تنظر فيها إلى الأمر.  ففي بعض الأحيان، يجب أن تحطّم كلّ






ارتباطاتك حتى تفوز بنفسك.  فإذا كانت علاقاتنا بعائلاتنا وثيقة، ومكانتنا في المجتمع رفيعة، حتى إذا كانت علاقتنا جيدة بمدرستنا المحليّة أو مسجدنا وتقف عائقاً في طريق اتحادنا مع الله، فإنه يتعين علينا حينئذ أن نحطّم هذه الارتباطات".
          لم أكن متأكّداً من أنني فهمته جيداً، لكن نوعاً ما، أراح هذا التفسير عقلي المضطرب والمشوّش.  فقد كان يخيل إليّ أن هؤلاء الصوفيين مجانين، مجموعة متباينة يمكنها أن تفعل كلّ الأشياء الغريبة.
          الآن، جاء دور الرومي لينحني ويسأل بنفس النبرة من الهمس: "هل من الصفاقة إن سألتك عن سبب وجود تلك الندبة على وجهك؟".
          فقلت: "إنها ليست قصّة مثيرة، فقد كنت عائداً إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل، واعترض طريقي ذلك الحارس وأوسعني ضرباً".
          "لكن لماذا؟"، سأل الرومي، وقد بدت على وجهه أمارات القلق.
          "لأني شربت الخمر"، قلت، مشيراُ إلى القنينة التي وضعها خريستوس للتو أمام الرومي.
          هزّ الرومي رأسه.  في البداية بدا مشوّشاً تماماً، وكأنه لم يصدق أن أشياء كهذه قد تحدث، لكنه سرعان ما لوى شفتيه بابتسامة ودّية.  وبهذه الطريقة واصلنا حديثنا.  وبينما كنا نتناول الخبز وجبن الماعز، تحدّثنا عن الإيمان والصداقة، وعن أشياء أخرى في الحياة خيّل إليّ أنني نسيتها منذ أمد بعيد، لكنني سعدت الآن لأنها انبعثت ثانية من قلبي.
          بعد الغروب بقليل، نهض الرومي متهيئاً للمغادرة.  ونهض جميع من في الحانة لوداعه.  كان مشهداً مؤثراً، فقلت: "لا يمكنك أن تغادر من دون أن تخبرنا لماذا حُرِّمت الخمر؟".





هرع خريستوس إلى جانبي متجهّم الوجه، وبدا قلقاً من أن يزعج سؤالي زبونه المحترم، وقال: "اسكت يا سليمان.  لماذا تسأل عن هذه الأشياء؟".
          "لا، بجد"، قلت مصرّاً، محدّقاً في الرومي، "لقد رأيتنا.  إننا لسنا أشراراً، لكن هذا ما يقولونه عنا طوال الوقت.  قل لي ما الضير في احتساء الخمر، شريطة أن نحسن التصرف، وألا يؤذي أحدنا الآخر؟".
          على الرغم من أن النافذة عند الزاوية كانت مفتوحة، أصبح الهواء داخل الحانة عفناً، مليئاً بالدخان، ومثقلاً بالتوقع.  كان الجميع متلهفين لسماع الجواب.  اقترب الرومي مني، مستغرقاً في التفكير، لطيفاً، صاحياً، وقال ما يلي:
                   "لو كان في شارب الخمر
                   رقة ولطف عميقان،
                   لبان ذلك عليه،
                   عندما يكون سكراناً،
                   لكن لو كان يخفي غضباً وغطرسة،
                   لظهر عليه ذلك أيضاً،
                   ولمّا كان معظم الناس يفعلون ذلك،
                   فقد حُرِّمت الخمر على الجميع".
          ساد الهدوء لفترة قصيرة بينما رحنا نفكّر في هذه الكلمات.
          "أصدقائي، إن الخمر ليست شراباً بريئاً"، خاطبنا الرومي بصوت






حيوي، آمراً، رزيناً، وصلباً، "لأنها تُخرج أسوأ ما فينا.  وأعتقد بأن من الأفضل لنا جميعاً الامتناع عن شربها.  لذلك لا يمكننا أن نلوم الكحول على ما نحن مسؤولون عن فعله.  والأهم من ذلك يجب أن نكبح غطرستنا وغضبنا.  وفي نهاية الأمر، ليشرب من أراد، وليمتنع عن الشراب من أراد، فلا يحق لنا أن نفرض أساليبنا على الآخرين.  ولا إكراه في الدين".
          تبعت ذلك إيماءات مرحبة من بعض الزبائن، أما أنا، فقد فضّلت أن أرفع كأسي لأنني أعتقد أنه يجب ألاّ تمر حكمة من دون أن أشرب نخبها.
          فقلت: "إنك رجل طيب تحمل قلباً عظيماً مهما قال الناس عما فعلته اليوم، لأني واثق من أنهم سيقولون الكثير عنك.  ولمّا كنت خطيباً، فإن مجيئك إلى الحانة والتحدث إلينا من دون أن تطلق علينا أحكاماً، شجاعة كبيرة".
          نظر إليّ الرومي نظرة ودّية، ثمّ حمل قنينتي النبيذ اللتين لم يلمسهما، وخرج ليستقبل نسيم المساء.








علاء الدين


قونية، شباط (فبراير) 1246
          أنتظر بلهفة منذ ثلاثة أسابيع اللحظة المناسبة لأسأل أبي أن يطلب يد كيميا للزواج مني.  وقد أمضيت عدة ساعات وأنا أحدّثه في مخيلتي، وأعيد صوغ الجمل نفسها مرات ومرات، باحثاً عن أفضل وسيلة لأعبّر فيها عن نفسي.  كان لديّ جواب جاهز من كلّ اعتراض محتمل قد يثيره.  فإذا قال إنني، أنا وكيميا، أخ وأخت، فإني سأذكّره بأنه لا توجد رابطة دم بيننا.  ولمّا كنت أعرف مقدار محبّة أبي لكيميا، فقد قررت أن أقول له أيضاً إننا إذا تزوجنا، فإنها تستطيع أن تقيم معنا في البيت طوال حياتها.  فقد حسبت حساباً لكلّ شيء في عقلي، لكنني لم أتمكن من الانفراد بأبي لحظة واحدة.
          لكني رأيته في أسوأ حالاته مساء هذا اليوم.  فقد كنت أتهيأ لمغادرة البيت لزيارة بعض أصدقائي، عندما فتح الباب ودخل أبي حاملاً قنينة خمر في كلّ يد.
          وجمت واقفاً، مشدوهاً، وسألته: "أبتي، ما الذي تحمله بيديك؟".
          "آه، هذا!"، ردّ أبي من دون أبي حرج، قال : "إنها خمرة يا بني".







"حقاً؟"، صحت، "أهكذا أصبح مولانا العظيم؟ رجل عجوز يشرب الخمر؟".
          "انتبه لما تقوله"، سمعت صوتاً غاضباً من ورائي.
          كان شمس يحدّق في وجهي من دون أن يرمش له جفن، وقال: "لا يمكنك أن تكلّم والدك بهذه الطريقة.  فأنا الذي طلبت منه أن يذهب إلى الحانة".
          "لا عجب"، قلت وظهرت ابتسامة متكلّفة على وجهي.
          ولئن كان شمس قد أهين من كلماتي، فلم يظهر عليه ذلك، وقال: "علاء الدين، يمكننا أن نتحدّث عن ذلك، إذا لم تدع غضبك يشوّه بصيرتك".
          ثمّ أمال رأسه وقال يجب أن أليّن قلبي.
          وقال: "هذه إحدى القواعد الأربعين: إذا أردت أن تقوّي إيمانك، فيجب أن تكون ليناً في داخلك.  لأنه لكي يشتد إيمانك، ويصبح صلباً كالصخرة، يجب أن يكون قلبك خفيفاً كالريشة.  فإذا أصبنا بمرش، أو وقعت لنا حادثة، أو تعرضنا لخسارة، أو أصابنا خوف، بطريقة أو بأخرى، فإننا نواجه جميعاً الحوادث التي تعلّمنا كيف نصبح أقل أنانية وأكثر حكمة، وأكثر عطفاً، وأكثر كرماً.  ومع أن بعضنا يتعلّم الدرس ويزداد رقة واعتدالاً، يزداد آخرون قسوة.  إن الوسيلة التي تمكنك من الاقتراب من الحقيقة أكثر تكمن في أن يتسع قلبك لاستيعاب البشرية كلها، وأن يظل فيه متسع لمزيد من الحبّ".
          فقلت: "كفّ عن هذا، فأنا لا أتلقى أوامري من دروايش سكارى، إلا من أبي.  هذا كل ما في الأمر".



          فتدخّل أبي قائلاً: "علاء الدين، إن ما تقوله عيباً".
          أحسست بذنب شديد، لكن الإحساس جاء متأخراً، وغمرني شعور بالاستياء والغضب ظننت أني نسيته منذ زمن بعيد.
          فقال شمس: "لا أشكّ في أنك تكرهني بقدر ما تقول وما تفعل، لكني لا أظن أنك لم تعد تحبّ والدك حتى للحظة.  ألا ترى أنك تجرحه في الصميم؟".
          فأجبته: "ألا ترى أنك تدمّر حياتنا؟".
          كان ذلك عندما انحنى أبي، زامّاً فمه، ورفع يده اليمنى فوق رأسه.  خلت أنه سيصفعني، لكنه عندما لم يفعل ذلك، اعتراني مزيد من الاضطراب.
          "إنك تجلب العار عليّ"، قال أبي من دون أن ينظر إلى وجهي.
          اغرورقت عيناي بالدموع.  أشحت بوجهي عنه فأصبحت فجأة وجهاً لوجه مع كيميا.  منذ متى كانت تقف هناك تراقبنا من زاوية الغرفة بعينين مليئتين بالخوف؟  ما مقدار ما سمعته من الشجار بيننا؟
          إن خجلي لأن أبي أهانني أمام الفتاة التي أريد أن أتزوّجها أثار ألماً في معدتي، وترك طعماً سيئاً في فمي.  أحسست بالغرفة تدور حولي، وبأنني على وشك الانهيار.
          لم أعد قادراً على البقاء هناك لحظة أخرى، فتناولت معطفي، ودفعت شمساً جانباً، وهرعت خارج البيت، بعيداً عن كيميا، بعيداً عنهم جميعاً.








شمس


قونية، شباط (فبراير) 1246
          كانت قناني الخمر تنتصب بيننا، مفعمة بروائح التراب الحار، والأعشاب البرّية، والتوت الأسود.  وبعد أن غادر علاء الدين البيت، غمر الرومي حزن شديد فلم ينبس ببنت شفة لوهلة.  خرجنا معاً إلى الفناء المغطى بالثلج.  كان ذلك في مساء أحد أيام شباط (فبراير) الكئيبة عندما يهب هواء ثقيل ويحلّ سكون غريب.  وقفنا نراقب الغيوم وهي تتحرك، ننصت إلى عالم لا يقدم لنا شيئاً سوى الصمت، وحملت إلينا الريح نفحة من الغابات من بعيد، عبق المسك، وللحظة، أحسسنا بالرغبة في مغادرة هذه المدينة إلى الأبد.
          ثمّ تناولتُ قنينة، وجثوت إلى جانب شجيرة ورد تنتصب عارية منبثقة من الأشواك في الثلج، وسكبت النبيذ على التراب تحتها.  شعّ وجه الرومي بالبهجة، وابتسم ابتسامته التي تمتزج بالحماسة والرصانة.
          بدأت الحياة تعود ببطء في شجرة الورد العارية، وأصبح لحاؤها طرياً ليناً مثل بشرة إنسان، ونبتت وردة أمام أعيننا.  وعندما واصلت صبّ النبيذ تحت الشجيرة، أظهرت الوردة ظلّ لون برتقالي دافئ جميل.
          ثم تناولتُ القنينة الثانية وصببت منها النبيذ بالطريقة ذاتها، فتحوّل




لون الوردة البرتقالي إلى قرمزي براق،  يتوهّج بالحياة.  وعندما بقي ملء كأس من النبيذ في قعر القنينةـ صببته في كأس، وتجرّعت نصفه، وقدمت النصف المتبقي إلى الرومي.
          أمسك الكأس بيدين مرتعشتين، مستجيباً لإيماءتي بابتسامة مشعّة مفعمة باللطف والرصانة، هذا الرجل الذي لم يلمس خمرة في حياته.
          وقال : "إن المبادئ والقيود الدينية مهمة، لكنها يجب ألاّ تتحول إلى محرّمات.  بهذا الفهم أجرع الخمر التي تعطيني إياها اليوم، مؤمناً من كلّ قلبي بأنه توجد رجاحة عقل ورزانة بعد ثمالة الحبّ".
          وبينما كان الرومي يدني الكأس من شفتيه، انتزعتها منه ورميتها على الأرض، فانسكب النبيذ على الثلج، مثل قطرات الدم.
          فقلت: "لا تشربه.  إذا لم تكن ترغب في مواصلة هذه التجربة".
          "إن كنت ستطلب مني ألاّ أحتسي هذه الخمر، فلماذا أرسلتني إلى الحانة أصلاّ؟"، سألني الرومي، بنبرة لم تكن فضولية بقدر ما كانت حنونة.
          فقلت مبتسماً: "إنك تعرف السبب.  فالنمو الرمي يكمن في وعينا، لا بتوجّسنا من أمور معينة.  وفي ما يلي القاعدة الثانية والثلاثون: يجب ألاّ يحول شيء بين نفسك وبين الله، لا أئمّة، ولا قساوسة، ولا أحبار، ولا أيّ وصي آخر على الزعامة الأخلاقية أو الدينية، ولا السادة الروحيون، ولا حتى إيمانك.  آمن بقيمك ومبادئك، لكن لا تفرضها على الآخرين، وإذا كنت تحطّم قلوب الآخرين، فمهما كانت العقيدة الدينية التي تعتنقها، فهي ليست عقيدة جيدة".


"ابتعد عن عبادة الأصنام بجميع أنواعها، لأنها تشوّه رؤيتك.  ليكن الله، والله وحده دليلك.  تعلّم الحقيقة، يا صديقي، لكن احرص على ألاّ تصنع من الحقائق التي تتكون لديك أوثاناً".
          بالرغم من إعجابي الشديد بشخصية الرومي، ومعرفتي بالعطف الذي يمتاز به والذي أفتر إليه في الحياة، فقد ازداد إعجابي به كثيراً. 
          يمتلئ هذا العالم بأشخاص مهووسين بالثروة أو الشهرة أو السلطة.  فكلما اكتسبوا المزيد من النجاح، شعروا بأنهم بحاجة إليها.  وبجشع وطمع شديدين، جعلوا الممتلكات الدنيوية قبلتهم، ولم يعودوا ينظرون إلا في ذلك الاتجاه، غير مدركين أنهم سيصبحون عبيداً للأشياء التي يسعون إليها بشره.  إن هذا نمط مشترك، يحدث دائماً.  ومن النادر، ندرة الياقوت، أن ترى رجلاً شقّ طريقه إلى الأعلى، أو رجلاً يمتلك قدراً كبيراً من الذهب، والشهرة، والسلطة، يتخلى عنها فجأة ويعرّض سمعته للخطر وينطلق في رحلة داخلية، لا يمكن لأحد أن يعرف أين أو كيف ستنتهي.  والرومي هو تلك الياقوتة النادرة.
          قلت: "يريدنا الله أن نكون معتدلين ومتواضعين".
          وأضاف الرومي برقة "وهو يريد أن يُعرف.  إنه يريدنا أن نعرفه بكل ذرة من وجودنا، لذلك يجب أن نكون يقظين وصاحين، وألاّ نكون سكارى وعقولنا مشوشة",
          وافقت.  جلسنا في الفناء لا تفصلنا سوى وردة حمراء حتى حلّ الظلام واشتدّ البرد.  وتحت برودة المساء، كنت تحسّ بشذا شيء ببهجة وامتنان أن الريح لم تعد تهمس باليأس.







إيلا


نورثامبتون، 24 حزيران (يونيه) 2008
          "حبيبتي، افتّتح مطعم تايلاندي جديد في البلدة"، قال ديفيد، "يقولون إنه مطعم جيد.  لماذا لا نذهب إليه الليلة؟  أنا وأنت فقط".
          كان آخر شيء تريد إيلا أن تفعله في يوم الثلاثاء هو أن تخرد لتناول طعام العشاء مع زوجها، لكن ديفيد أصرّ فلم يسعها أن ترفض.
          كان مطعم "القمر الفضي" مطعماً صغيراً تزيّنه مصابيح جميلة، فيه مقصورات مزودة بمقاعد جلدية ومناديل سود، وقد علّقت على جدرانه مرايا عديدة منخفضة كي يشعر الزبائن بأنهم يتناولون طعامهم بصحبة خيالاتهم المنعكسة في المرايا.  وسرعان ما اعترى إيلا شعور بالضيق، لم يكن المطهم هو الذي جعلها تشعر هكذا، بل زوجها.  فقد رأت في عينيّ ديفيد ألقاً غير عادي.  كان فيهما شيء غير عادي، وكان يبدو أنه يفكّر في شيء ما، بل حتى إنه كان قلقاً.  وما أزعجها حقاً هو أنه تلعثم مرات عدة.  كانت تعرف أنه عندما تظهر أثناء كلام ديفيد تلك التأتأة التي كان يعاني منعا في طفولته، فإن ذلك يعني أنه يعاني اكتئاباً شديداً.




تقدمت نادلة شابة ترتدي زيّاً تقليدياً لتأخذ طلبيهما.  فطلب ديفيد سرطان البحر بالريحان والفلفل الحار، وطلبت إيلا خضراوات وتوفو في صلصة جوزة الهند، التزاماً منها بالقرار الذي اتخذته في عيد ميلادها الأربعين والذي تعهدت فيه بالامتناع عن تناول اللحم، كما طلبا كأسين من النبيذ.
تحدّثا عن أناقة الديكور في المطعم لبضع دقائق، ثم ناقشا تأثير المناديل السود إزاء المناديل البيض، ثمّ ساد بينهما صمت مطبق.  عشرون سنة من الزواج، عشرون سنة من النوم في الفراش نفسه، والمشاركة في الحمّام ذاته، وتناول الطعام عينه، وتربية ثلاثة أطفال . . . فإن كلّ ما نجم عن ذلك الصمت، أو هكذا قالت إيلا في نفسها.
"أرى أنكِ تقرأين الرومي"، قال ديفيد.
هزّت إيلا رأسها، بشيء من الدهشة.  لم تعرف ما الذي أدهشها أكثر: سماعها أن ديفيد يعرف عن الرومي أن أنه يهتم لما تقرأه.
"بدأت أقرأ قصائده لمساعدتي في كتابة تقريري حول رواية "الكفر الحلو"، لكنني بدأت أهتم بها، فبدأت أقرأها لنفسي"، قالت إيلا مبررة.
سرح ديفيد وهو يحدّق في بقعة من النبيذ على مفرش المائدة، ثمّ ندت عنه أنّة، وقال: "إيلا، إني أعرف ماذا يجري.  أعرف كلّ شيء".
"عمَّ تتحدّث؟"، سألته إيلا، مع أنها لم تكن واثقة من أنها تريد أن تسمع الجواب.       
"عن . . . عن علاقتك الغرامية . . . "، قال ديفيد متلعثماً، "إني أعرف".





نظرت إيلا إلى زوجها بدهشة.  وفي وهج الشمعة التي أشعلتها لهما النادلة، بدا وجه ديفيد في حالة من اليأس الشديد.
"علاقتي الغرامية؟"، قالت إيلا، بسرعة وبصوت أعلى مما كانت تنوي.  ولاحظت أن الرجل والمرأة الجالسين إلى الطاولة بجانبهما قد التفتا نحوهما.  شعرت بالحرج وخفضت صوتها ليغدو همساً، وكرّرت سؤالها: "أيّ علاقة غرامية؟".
"أنا لست غبياً"، قال ديفيد، "لقد فتحت بريدك الإلكتروني وقرأت رسائلك مع ذلك الرجل".
"ماذا فعلت؟"، صاحت إيلا.
متجاهلاً السؤال، تلوّى وجه ديفيد مثقلاً بما كان على وشك أن يقوله: "لا ألومك يا إيلا.  فأنا أستحق ذلك.  فقد أهملتك، وبدأت تبحثين عن العاطفة في مكان آخر".
خفضت إيلا عينيها ونظرت إلى كأسها.  كان للنبيذ لون ساحر – ياقوتي عميق داكن. وخيّل إليها لوهلة أنها ترى على سطحه نقاطاً ذات ألوان قزحية متلألئة، مثل أثر من الأضواء يوجّهها.  لعله كان هناك أثر.  بدا كلّ ذلك سريالياً.
توقّف ديفيد الآن، وهو يفكّر بأفضل وسيلة، أم عليه أن يكشف ما يدور في خلده، وقال أخيراً: "إني مستعد لأن أسامحك وننسى ما حدث".
ثمة أمور عدة كانت إيلا تريد أن تقولها في تلك اللحظة.  كانت حادة وهازئة، متوترة ودراماتيكية، لكنها اختارت الأسهل.  وبعينين لامعتين، سألته: "وماذا عن علاقاتك الغرامية؟ هل ستنساها أيضاً وتخلّفها وراءنا؟".



أحضرت النادلة طلبيهما.  صمتت إيلا وديفيد وراحا يراقبانها وهي تضع الأطباق على المائدة وتعيد ملء كأسيهما بكياسة مبالغ فيها، وعندما تركتهما، نظر ديفيد إلى إيلا، وسألها: "هكذا إذاً؟ هل هذا انتقام؟".
"لا"، قالت إيلا، وهزّت رأسها محبطة، "إنه ليس انتقاماً، ولم يكن كذلك على الإطلاق".
"إذاً ما هو؟".
عقدت إيلا يديها، وانتابها شعور بأن كلّ شيء وكلّ من في المطعم – الزبائن والندل والطهاة، بل حتى السمك الاستوائي في حوض السمك – قد توقّف لسماع ما ستقوله.
"للأمر علاقة بالحبّ"، قالت أخيراً، "فأنا أحبّ عزيز".
توقّعت إيلا أن يضحك زوجها، لكنها عندما استجمعت أخيراً شجاعتها لتنظر في عينيه، لم تر في وجهه سوى رعب، تحوّل بسرعة إلى تعابير شخص يحاول أن يحلّ مشكلة بأقل قدر ممكن من الضرر.  وفجأة اعترتها لحظة من الوضوح، فقد كانت كلمة "حبّ" بالنسبة لها، جدّية، مشحونة، وليست عادية، امرأة اعتادت على التفوه بأمور سلبية كثيرة عن الحبّ في الماضي.
"لدينا ثلاثة أطفال"، قال ديفيد، وقد بدأ صوته يرتعش.
"نعم، وأنا أحبّهم كثيراً"، قالت إيلا، وهي تهزّ كتفيها، "لكني أحبّ عزيز أيضاً".
"كفّي عن ترديد هذه الكلمة"، قاطعها ديفيد، وتناول جرعة كبيرة من كأسه قبل أن يستأنف كلامه، فقال: "لقد ارتكبت أخطاء كبيرة،






لكني لم أكفّ عن حبّك يا إيلا، ولم أحبّ أحداً غيرك.  نستطيع أن نتعلّم كلانا من أخطائنا.  ومن ناحيتي أعدك بأن هذا الأمر لن يتكرر، ولستِ بحاجة للخروج والبحث عن الحبّ الآن".
"أنا لم أخرج لأبحث عن الحبّ"، همهمت إيلا محدّثة نفسها أكثر مما تحدّثه، "يقول الرومي إننا لسنا بحاجة للبحث عن الحبّ خارج أنفسنا، بل كلّ ما علينا عمله هو أن نتمكن من إزالة العقبات التي تبعدنا عن الحبّ في داخلنا".
فقال ديفيد: "يا إلهي! ماذا دهاك؟ هذا ليس أنتِ! ألن تكفّي عن أن تكوني شديدة الرومانسية؟ عودي إلى نفسك القديمة"، ثمّ أضاف: "أرجوك".
قطّبت إيلا حاجبيها ونظرت إلى أظافرها كما لو كان أمراً يثير قلقها.
وفي الواقع، فقد تذكرت لحظة أخرى من الزمن، عندما كانت هي نفسها تقول الكلمات ذاتها لابنتها، وشعرت بأن الدائرة قد اكتملت.  هزت رأسها ببطء وهي تضع منديل الطاولة جانباً.
ثمّ قالت: "هل يمكننا أن نذهب الآن من فضلك؟  فأنا لست جائعة".
في تلك الليلة، ناما في سريرين منفصلين.  وفي الصباح الباكر، كان أول شيء فعلته إيلا هو أنها كتبت رسالة إلى عزيز.









المتعصب


قونية، شباط (فبراير) 1246
"تهيأ للأسوأ! شيخ ياسين! شيخ ياسين!  هل سمعت الفضيحة؟".
صاح عبد الله، والد أحد تلاميذي، وهو يقترب مني في الشارع: "لقد شوهد الرومي البارحة في حانة في الحيّ اليهودي".
فقلت: "نعم، سمعت ذلك، لكني لم أفاجأ.  فزوجة هذا الرجل مسيحية، وأقرب أصدقائه زنديق، فماذا تتوقّع منه؟".
هزّ عبد الله رأسه بجدية، وقال: "أظنّك على حقّ.  كان يجب أن نتوقع ذلك".
تحلّق عدد من عابري السبيل حولنا، وراحوا ينصتون إلى حديثنا.  واقترح أحدهم عدم السماح للرومي بإلقاء خطبة في الجامع الكبير، حتى لو اعتذر على الملأ عما فعله.  ولمّا كنت قد تأخرت على تلاميذي في المدرسة، فقد تركتهم يتحدثون وابتعدت مسرعاً.
طالما شككت بأن للرومي جانباً مظلماً سيتكشّف ذات يوم، لكنني لم أتوقع قط أن يحتسي الخمر، لأن ذلك مثير للقرف.  ويقول الناس إن شمساً هو السبب الرئيسي لسقوط الرومي، ولو لم يكن لا يزال




بصحبته، لعاد الرومي إلى حياته الطبيعية، لكن لديّ رأي مختلف.  وهو أنني لا أشكّ في أن شمساً رجلاً شرّيراً – وهو كذلك – أو أنه لا تأثير سيئاً على الرومي – فله تأثير سيئ- لكن الأمر هو لماذا لا يضلل شمس علماء آخرين،  مثلي؟ ففي نهاية الأمر، يتشابه هذان الرجلان في مجالات كثيرة لا يعترف بها الناس.
          فهناك من سمع شمساً يقول: "يعيش عالم الدين على علامات القلم، أما الصوفي فإنه يحبّ ويعيش على آثار الأقدام.  ماذا يعني ذلك؟  من الواضح أن شمساً يعتبر أن العلماء يختبئون في أبراج عاجيّة، بينما ينغمس الصوفي في الحياة الحقيقية.  لكن أليس الرومي عالم دين أيضاً، أم أنه لم يعد يعتبر نفسه واحداً منا؟
          وإذا دخل شمس القاعة التي أدرّس فيها تلاميذي، فإني سأطرده مثل ذبابة، ولن أمنحه الفرصة ليتحدث عن ذلك الهراء أثناء حضوري.  لماذا لا يفعل الرومي الشيء نفسه؟  لا بدّ أن علة فيه.  فبادئ ذي بدء، لقد تزوج الرجل امرأة مسيحية، ولا يهمني هل اعتنقت الإسلام أم لا، لأن المسيحية تجري في دمها وفي دم طفلتها.  لكن أهالي المدينة، لسوء الحظ، لا يأخذون التهديد الذي تشكله المسيحية بجدية كافية، ويقولون إننا نستطيع أن نعيش معاً.  وأنا أقول دائماً لهؤلاء السذّج الذين يظنون ذلك: "هل يمكن أن يمتزج الماء والزيت؟  هذا هو المدى الذي يستطيع أن يمضي إليه المسلمون والمسيحيون".
          ولمّا كان الرومي متزوجاً من امرأة مسيحية، ولمّا كان شديد الطيبة والتسامح مع الأقلّيات، فهو رجل لا يمكن الوثوق به في نظري، فعندما أقام شمس التبريزي في بيته، انحرف تماماً عن الطريق





المستقيم.  وكما أقول لتلاميذي كلّ يوم،  يجب أن يتيقظوا من أحابيل الشيطان.  لأن شمساً هو الشيطان بعينه.  إني واثق من أن الرومي ذهب إلى الحانة بتشجيع منه، والله يعلم كيف تمكّن من إقناعه.  لكن أليس خداع الأتقياء وجعلهم ينتهكون المحرمات من الأمور التي يبرع فيها الشيطان؟
          لقد فهمت الجانب الشرّير في شمس منذ البدء، فكيف له أن يجرؤ على مقارنة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، بالبسطامي، ذلك الصوفي الكافر؟ أفلم يقل البسطامي: "انظروا إليّ! كم عظيم هو مجديّ"، وأليس هو القائل: "لقد رأيت الكعبة تطوف حولي؟".  بل ذهب شأواً بعيداً إلى حدّ القول: "أنا خالق نفسي".  فإذا لم يكن هذا مفراً، فماذا يكون؟  هذا هو مستوى الرجل الذي يقتبس منه شمس باحترام، وشأن البسطامي فهو زنديق أيضاً.
          إن الأمر الوحيد الجيد الآن هو أن أهالي المدينة قد بدأوا يفيقون على الحقيقة، وبدأ عدد منتقدي شمس يزداد يوماً بعد يوم، وبدأت أخاف كثيراً أحياناً من الأشياء التي كانوا يقولونها في الحمامات والمقاهي، وفي حقول القمح والبساتين، بأنهم سيمزّقونه إرباً إرباً.
***
          وصلت إلى المدرسة متأخراً أكثر من المعتاد، وكان رأسي مثقلاً بهذه الأفكار.  وما إن فتحت باب غرفة الدرس، حتى اعتراني شعور بأن شيئاً غير عادي يحدث.  فقد كان تلاميذي يجلسون في صف مستقيم، شاحبين وصامتين على نحو غريب، كما لو رأوا شبحاً.
          ثمّ فهمت السبب.  فلم يكن الرجل الجالس بالقرب من النافذة




المشرّعة، مسنداً ظهره إلى الحائط، ووجهه الأمرد يشع بابتسامة متعالية، سوى شمس التبريزي.
"السلام عليكم، يا شيخ يا سين"، قال، وهو يحدّق بي.
تردّدت، لأنني لم أعرف هل كان عليّ أن أرد التحية أم لا، فقرّرت ألا أردّها، بل التفت إلى تلاميذي وسألتهم: "ماذا يفعل هذا الرجل هنا؟ لماذا سمحتم له بالدخول؟".
بذهول واضطراب، لم يجرؤ أي تلميذ على الإجابة.  لكن شمساً كسر الصمت.
بنبرته الصفيقة، ونظرته الثابتة، قال لي: "لا توبّخهم، يا شيخ ياسين.  إنها فكرتي أنا.  فقد كنت ماراً بالقرب من هنا وقلت لنفسي لماذا لا أتوقّف عند المدرسة وأزور أشدّ الأشخاص كرهاً لي في هذه المدينة؟".











حسام التلميذ


قونية، شباط (فبراير) 1246
كنا جالسين جميعاً على الأرض في غرفة الدرس، عيوننا لامعة، متراصين بجانب بعضنا بعضاً، عندما فتح شمس التبريزي الباب ودخل.  تملكنا شعور بالذهول.  وبعد أن سمعت أموراً سيئة وغريبة كثيرة عنه، معظمها من معلّمنا، فقد أحسست بالانكماش أنا أيضاً عندما رأيته بلحمه ودمه في غرفة دروسنا، أما هو فقد بدا مسترخياً ودوداً.  وبعد أن حيّانا جميعاً، قال إنه جاء ليتحدّث إلى الشيخ ياسين. 
"معلمنا لا يحبّ قدوم غرباء لزيارته في المدرسة.  ربما كان عليك أن تراه في وقت آخر".  قلت له بأمل تفادي حدوث لقاء غير محمود بينهما.
"شكراً لاهتمامك أيها الشابّ، لكن اللقاءات السيئة ليست حتمية فقط في بعض الأحيان ، بل ضرورية"، أجاب شمس وكأنه قرأ أفكاري، وأشاف: "ومع ذلك لا تقلق، فلن يستغرق لقاؤنا وقتاً طويلاً".
تمتم إرشاد، الجالس إلى جانبي، بين أسنانه المطبقة، وقال: "انظر إلى أعصابه! إنه الشيطان بعينه".


هززت رأسي، مع أنني لم أر أن شمساً يشبه الشيطان.  وبالرغم من نفسي، أعجبت بصراحته وجرأته.
بعد بضع دقائق، دخل الشيخ ياسين، مقطّب الجبين متأملاً.  وما إن خطا بضع خطوات حتى توقّف ورمش بعينيه نحو الزائر المتطفّل.
"ماذا يفعل هذا الرجل هنا؟  لماذا سمحتم له بالدخول؟".
تبادلنا أنا وأصدقائي نظرات ملؤها الدهشة، وهمسات خائفة.  لكن قبل أن يستجمع أحد منا شجاعته ليقول شيئاً، قال شكس إنه كان ماراً بالقرب من المدرسة وأراد أن يزور أشدّ الأشخاص كرهاً له في قونية.
سهل عدد من التلاميذ بصوت منخفض ورأيت إرشاداً يأخذ نفساً عميقاً.  كان التوتّر بين الرجلين كثيفاً إلى درجة يمكن قطع الهواء بسكين.
"لا أعرف ماذا تفعل هنا، لكن لديّ أشياء أريد أن أفعلها افضل من التحدث إليك"، قال الشيخ ياسين موبّخاً، وأضاف: "الآن، لماذا لا تغادر حتى نواصل دروسنا؟".
فقال شمس: "تقول إنك لن تتكلّم معي، لكنك تتكلّم عني.  ولم تكفّ عن التكلم عني وعن الرومي بالسوء، وعن جميع الصوفيين، وكذلك عن الطريقة الصوفية".
تنفّس الشيخ ياسين من أنفه العظمي الكبير، وضيّق فمه مبرطماً، كأن شيئاً مرّاً على لسانه، "كما قلت، ليس لديّ شيء يمكنني أن أتحدث عنه معك.  إني أعرف ما أريد أن أعرفه، فلديّ آرائي الخاصة بي".
التفت شمس نحونا، ونظر إلينا نظرة تهكمية سريعة، وقال: "رجل لديه الكثير من الآراء لكن ليس لديه أسئلة! ثمة خطأ في ذلك".



"حقاّ"، قال الشيخ ياسين وقد استردّ حيويته، "إذاً لماذا لا نسأل الطلاب أياً من الاثنين يفضّلون أن يكونوا: الحكيم الذي يعرف الأجوبة، أم الرجل الحائر الذي لا يملك شيئاً سوى الأسئلة؟".
أيّد أصدقائي جميعاً الشيخ ياسين، لكني شعرت بأن الكثيرين منهم لم يفعلوا ذلك عن طيب خاطر، بل لكسب رضا معلّمهم واستحسانه، فآثرت الصمت.
"إن المرء الذي يعتقد بأن لديه جميع الأجوبة هو أكثر الناس جهلاً"، قال شمس، والتفت إلى معلّمنا، "لكن بما أنك تجيد الإجابات، فهل لي أن أطرح عليك سؤالاً".
هنا بدأ ينتابني القلق إلى أين سيتوجه هذا الحديث، لكن لم يكن بإمكاني أن أفعل شيئاً للحيلولة دون تصاعد حدة التوتر.
"بما أنك تدّعي أنني خادم الشيطان، فهل تتفضل وتخبرنا ما هي فكرتك عن الشيطان؟"، سأل شمس.
"بالتأكيد"، قال الشيخ ياسين، الذي لا يضيّع فرصة تسنح له للوعظ، "إن ديننا، الذي هو آخر الأديان الإبراهيمية وأهمها، يقول لنا إن الشيطان هو الذي تسبب في طرد آدم وحواء من الجنة، ولمّا كنا أبناء الأبوين المطرودين، فيجب أن نكون يقظين، لأن الشيطان يتبدّى في أشكال عدة، فهو يأتي أحياناً في شكل مقامر يدعونا للمقامرة، وفي أحيان أخرى، يأتي في هيئة شابّة جميلة تحاول إغواءنا . . . وقد يأتي الشيطان في أقلّ الأشكال توقّعاً، مثل درويش متجوّل".
وكما لو كان شمس يتوقّع هذه الملاحظة، ابتسم ابتسامة العارف، وقال: "أفهم قصدك.  لا بد أن فكرة أن الشيطان يقبع خارجنا تمنحنا إحساساً كبيراً بالراحة، ومخرجاً سهلاً".
       

"ماذا تقصد؟"، سأل الشيخ ياسين.
"حسناً، إن كان الشيطان شريراً ولا يمكن قهره كما تقول، فلا داعي لنا، نحن البشر أن نلوم أنفسنا على الأخطاء التي نرتكبها.  إذ إننا نعزو كلّ شيء جيد يحدث إلى الله، ونعزو كلّ شيء سيئ في الحياة إلى الشيطان.  وفي كلتا الحالتين، لن نكون معفيين من انتقاد الذات وفحصها.  ما أسهل ذلك".
أثناء حديثه أخذ شمس يذرع الغرفة، وكان صوته يعلو مع كلّ كلمة يقولها: "لكن لنتخيّل للحظة واحدة أن الشيطان غير موجود، وأنه لا توجد شياطين بانتظار أن تحرقنا في قدور تغلي.  فقد وضعت كلّ هذه الصور المرعبة لترينا شيئاً، لكنها تحولت إلى كليشيهات مكرورة وفقدت رسالتها الأصلية".
"وماذا يمكن أن تكون هذه الرسالة؟"، سأل الشيخ ياسين بضجر، وعقد ذراعيه على صدره.
فقال شمس: "إذاً لديك أسئلة"، وأضاف: "والرسالة هي أن العذاب الذي قد يوقعه المرء على نفسه لا نهاية له.  إن الجحيم يقبع في داخلنا، وكذلك الجنة.  إذ يقول القرآن إن الإنسان هو أكثر الكائنات تبجيلاً،  فنحن أعلى من أعلى الكائنات، لكننا كذلك أدنى من أدناها.  فلو تمكّنا من إدراك هذا المعنى جيداً، لكففنا عن التفكير بأن الشيطان يقبع في خارجنا، ونعترف بأنه موجود في أنفسنا.  إن ما نحتاج إليه هو أن نبحث في أنفسنا بصدق، لا أن نترصّد عيوب الآخرين ونتصيّدها
".
"اذهب وامتحن نفسك، وإن شاء الله تكفّر عن ذنوبك"، أجاب



الشيخ ياسين، "لكن رجل الدين الحقيقي هو الذي يحرص على مجتمعه".
"إذا اسمح لي أن أحكي لك قصّة"، قال شمس، بتلك الرقة التي لم نستطع أن نتأكد أكانت قصة حقيقية أم إنها للسخرية.  وهذا ما حكاه لنا:
كان أربعة تجار يصلّون في مسجد عندما رأوا المؤذّن يدخل.  فأوقف التاجر الأول صلاته وسأل: "أيها المؤذّن! هل نودي على الصلاة؟ أم لا يزال يوجد وقت؟".
وتوقّف التاجر الثاني عن الصلاة والتفت إلى صديقه، وقال: "يا صاح، لقد تكلّمت وأنت تصلّي.  فقد بطلت صلاتك، ويجب أن تبدأ من جديد".  عندما سمع التاجر الثالث ذلك، تدخّل قائلاً: "لماذا تلومه أيها الأحمق؟  يجب أن تركّز على صلاتك.  لقد بطلت صلاتك أنت أيضاً.  أما التاجر الرابع فابتسم وقال بصوت مرتفع: "انظر إليهم! لقد أخطأوا ثلاثتهم.  أما أنا فأحمد الله على أنني لم أضلّ السبيل".
بعد أن حكى شمس هذه القصّة، وقف أمام التلاميذ وسأل: "إذاً ماذا تظنون؟  صلاة أي من هؤلاء التجار، في رأيكم، غير جائزة؟".
حدثت جلبة قصيرة في القاعة عندما رحنا نناقش الجواب في ما بيننا، وأخيراً قال احدهم في المؤخرة: "إن صلاة التاجر الثاني والثالث والرابع باطلة، أما صلاة التاجر الأول فهي جائزة، لأن كلّ ما أراد أن يفعله هو أن يسأل المؤذّن".
"نعم، لكن ما كان عليه أن يترك صلاته هكذا"، قال إرشاد معترضاً،


"فمن الواضح أن هؤلاء التجار جميعاً كانوا مخطئين، ما عدا التاجر الرابع الذي كلّم نفسه فقط".
          أشحت بنظري، غير موافق على الجوابين كليهما، لكني عزمت على ألا أفتح فمي، لأني أحسست بأنهم لن يكترثوا لرأيي.  لكن في اللحظة التي خطرت هذه الفكرة في بالي التفت شمس التبريزي نحوي وسأل: "وأنت هناك! ما رأيك؟".
          ابتلعت ريقي بصعوبة قبل أن أجد صوتي، ثم قلت: "لو ارتكب هؤلاء التجار خطأً، فليس لأنهم تكلّموا أثناء الصلاة، بل لأنهم يبدون اهتماماً بما يجري حولهم، بدلاً من الاستغراق في الصلاة والاتصال بالله.  لكن إذا كان علينا أن نطلق عليهم حكماً، فإني أخشى أننا سنرتكب الخطأ الأساسي نفسه".
          "إذاً ما هو جوابك؟"، سأل الشيخ ياسين، الذي أبدى اهتماماً مفاجئاً بالحديث الدائر.
          "إن ردي هو أن التجار الأربعة جميعاً أخطأوا لسبب متشابه، لكن مع ذلك لا يمكن القول إن أحداً منهم قد أخطأ،  لأننا في نهاية الأمر، لا يحق لنا أن نطلق أحكاماً عليهم".
تقدّم شمس التبريزي خطوة نحوي ونظر إليّ بمودّة وعطف، فشعرت كأنني فتى صغير يحظى بحبّ أليه المتدفق، وسألني عن اسمي، وعندما أخبرته بذلك، قال: "إن لصديقكم حسام قلب صوفي".
عندما سمعت ذلك، تضرّج وجهي خجلاً.  فلا شكّ أن الشيخ ياسين سيوبّخني بعد انتهاء الدرس، وسيسخر مني رفاقي، لكن سرعان ما تلاشى قلقي.  فاستويت في جلستي وابتسمت لشمس.  غمزني وهو لا يزال يبتسم، وتابع تفسيره.


"يقول الصوفي: يجب أن أركّز على علاقتي الداخلية مع الله، بدلاً من أن أطلق أحكاماً على الآخرين.  إذ إن رجل الدين المتعصب يتسقّط أخطاء الآخرين على الدوام.  لكن لا تنسوا، أيها التلاميذ، أن الشخص الذي يتذمر من الآخرين في معظم الأحيان، يكون مخطئاً هو نفسه".
"توقف عن تشويش أفكار تلاميذي"، قال الشيخ ياسين مقاطعاً، "أما نحن، رجال الدين، فيجب أن نهتم بما يفعله الآخرون.  إذ يسألنا الناس أسئلة كثيرة وينتظرون منا الإجابة عليها، لكي يتمكنوا من ممارسة تعاليم دينهم بصورة كاملة وصحيحة.  فهم يسألوننا هل يتعين عليهم إعادة الوضوء إذا رعفوا، أم عليهم الصوم أثناء سفرهم، وما إلى ذلك.  وتختلف تعاليم المذاهب الشافعية والحنفية والحنبلية والمالكية حول هذه الأمور.  فقد وضع كلّ مذهب من هذه المذاهب مجموعة من الإجابات الدقيقة الخاصة به التي يجب دراستها وتعلّمها".
"هذا جيد، لكن لا تتمسك بالفروق الشكلية"، قال شمس متنهداً، "إن كلمة الله كاملة، لا تبحث عن التفاصيل على حساب الكلّ".
"تفاصيل؟"، ردّد الشيخ ياسين بنبرة مفعمة بالشك، وأضاف، "يأخذ المؤمنون هذه القواعد والمبادئ بجدية.  ونقوم نحن العلماء بتوجيههم في مسعاهم".
فقال شمس: "تابع عملية التوجيه، أي ما دمت لا تنسى أن يكون توجيهك محدداً، وألاّ توجد كلمة فوق كلمة الله"، ثم أضاف: "لكن لا تحاول أن تعظ من بلغوا مرحلة التنوير، فهم يستمدون متعة مختلفة من الآيات القرآنية، وليسوا بحاجة إلى توجيه أو إرشاد من شيخ".




عندما سمع الشيخ ياسين ذلك، استشاط غضباً إلى حد أن خدّيه الذابلتين بدآ يرتعشان بموجات قرمزية، وبرزت تفاحة آدم لديه بقوة، وقال: "لا يوجد شيء موقت في التوجيه الذي نقدّمه.  فالشريعة هي التي تقدم القواعد والأنظمة التي يجب على كلّ مسلم أن يتبعها ويلتزم بها من المعد إلى اللحد".
"ما الشريعة إلا مركب يبحر في محيط الحقيقة.  وإن الباحث الحقيقي عن الله سيغادر المركب إن عاجلاً أم آجلاً،  ويغوص في البحر".
"لكي تأكله أسماك القرش"، ردّ الشيخ ياسين، بضحكة مكتومة، "وهذا ما يحدث لكل من يرفض التوجيه".
شاركه عدد قليل من التلاميذ في الضحك، وجلس ما تبقى منا بهدوء، منزعجين.  كان الدرس على وشك أن ينتهي، ولم أتمكن من رؤية كيف يمكن لهذا الحديث أن ينتهي بصورة إيجابية.
لا بد أن شمس التبريزي قد اعتراه نفس الشعور بالحزن، لأنه بدا مستغرقاً في التفكير، بل يكاد أن يكون يائساً.  أغمض عينيه وكأنه تعب فجأة من الكلام، وتحرّك حركة خفيفة لا تكاد تكون ملحوظة.
"خلال رحلاتي، تعرّفت على الكثير من المشايخ"، قال شمس، "ففي حين كان البعض رجالاً مخلصين، وكان بعضهم الآخر متعالياً، لو يكونوا يعرفون شيئاً عن الإسلام، وأنا لست مستعداً لأن أبادل ذرة غبار على حذاء قديم عاشق حقيقي لله برؤوس مشايخ اليوم.  إن لاعبي خيال الظّل الذين يعرضون خيالات وراء الستائر أفضل منهم، لأنهم يعترفون، على الأقل، بأن ما يقدمونه مجرّد وهم".


فقال الشيخ ياسين: "هذا يكفي! أظن أننا سمعنا ما يكفي من لسانك المتشعّب.  الآن، اخرج من هنا".
"لا تقلق، كنت على وشك المغادرة"، قال شمس بخبث، ثم التفت نحونا وقال: "إن ما رأيتموه هنا اليوم ما هو إلا جدال قديم منذ عهد الرسول محمد، عليه الصلاة والسلام.  لكن هذا الجدال لا يرتبط بتاريخ الإسلام، بل يقبع في قلب جميع الأديان الإبراهيمية.  إنه الصراع بين رجل الدين والصوفي،بين العقل والقلب".
صمت شمس قليلاً ليدعنا نشعر بالتأثير الكامل لكلماته.  شعرت بنظراته تحطّ عليّ، وكان ذلك بمثابة تبادل سرّي للدخول في أخوّية غير معلنة، غير مدوّنة.
ثمّ أضاف: "في النهاية، لا يستطيع معلّمكم ولا انا أستطيع أن نعرف أكثر مما يسمح الله لنا بمعرفته.  فكلّ منا يؤدي دوره.  لكن المهم هو ألا يغمر ضوء الشمس عين الجاحد العمياء، المرء الذي يرفض أن يرى".
بذلك، وضع شمس التبريزي يده اليمنى على قلبه وودّعنا جميعاً،  حتى الشيخ ياسين، الذي تنحى جانباً، والذي تجهّم وجهه، لم يرد على تحيته.  خرج الدرويش وأغلق الباب وراءه، وتركنا غارقين في صمت عميق، ولم يعد بإمكاننا أن نتكلّم أو نتحرك لفترة طويلة.
كان إرشاد هو الذي أخرجني من ذهولي، فقد لاحظت أنه كان يحدّق بي بطريقة تشي بالاستهجان.  عندها أدركت أن يدي اليمنى مسترخية فوق قلبي تحية للحقيقة التي أدركتها.







بيبرس المحارب


قونية، أيار (مايو) 1246
لم أصدّق أذنيّ عندما تناهى إليّ أن شمساً قد تجرأ على مواجهة عمي أمام تلامذته.  ألا يكنّ الرجل أي اعتبار لأحد؟  لشدّ ما كنت أتمنى لو كنت في المدرسة عندما جاء إليه، لطردته قبل أن يتمكن من فتح فمه اللعين، لكني، وللأسف، لم أكن هناك،  ويبدو أن حديثاً طويلاً قد دار بينه وبين عمّي،  ولم يكفّ التلاميذ عن الحديث عنه منذئذ، ويخيّل إليّ أن رواياتهم ليست صحيحة لأنها متناقضة وتعطي مصداقية كبيرة لذلك الدرويش الفاسد.
يبدو أنني شديد التوتر هذه الليلة، بسبب تلك البغي، وردة الصحراء، التي لا يسعني إلا أن أفكر فيها.  فهي تذكّرني بصناديق المجوهرات التي توجد فيها مخابئ سرية، والتي يخيّل إليك أنك تمتلكها، لكن إذا لم تكن لديك مفاتيحها، فإنها تظل مغلقة وبعيدة المنال حتى عندما تضمها بين ذراعيك.
أكثر مما يزعجني فيها هو استسلامها.  فلا أزال أتساءل لماذا لم تقاوم نوبات جنوني.  كيف استلقت على الأرض على بساط قديم وسخ






تحت قدميّ، هامدة لا تأتي بحركة؟ ليتها ضربتني رداً على ضربي لها، أو ليتها صرخت طالبة النجدة، لكففت عن ضربها.  لكنها استلقت ساكنة، لا تأتي بأي حركة، عيناها منتفختان جاحظتان، وفمها مطبق، كأنها تريد أن تتقبّل الأمر بشكل سلبي، وليكن ما يكون.  أحقاً لم يكن يهمها أقتلتها أم لم أقتلها؟
          كنت قد بذلت كلّ ما بوسعي كيلا أرتاد المبغى مرة أخرى، لكن استبدت بي اليوم رغبة شديدة في رؤيتها.  وفي طريقي إلى المبغى، رحت أتساءل كيف ستكون ردة فعلها عندما تقع عيناها عليّ.  وإن اشتكت مني وساءت الأمور، فإني سأرشي صاحبة المبغى البدينة أو أهدّدها.  لقد خططت لكلّ شيء في رأسي، وكنت مهيأ لكل احتمال، إلا احتمال أن تكون قد هربت.
انفجرت قائلاً: "ماذا تقصدين، وردة الصحراء ليست هنا؟  أين هي؟".
          "انسَ تلك العاهرة"، قالت صاحبة المبغى، ووضعت قطعة من راحة الحلقوم في فمها وراحت تلعق العصير الحلو من إصبعها.  وعندما رأت شدة انزعاجي، أضافت بصوت أرقّ: "لمَ لا تلقي نظرة على الفتيات الأخريات يا بيبرس؟".
          "لا أريد عاهراتك الرخيصات أيتها العجوز الشمطاء البدينة.  أريد وردة الصحراء، أريد أن أراها الآن".
          رفعت الخنثى حاجبيها المدبّبين الأسودين قلت لها ذلك، من دون أن تجسر على مجادلتي.  وانخفض صوتها ليصبح همساً،  كما لو كانت خجلة مما ستقوله: "لقد ذهبت.  من الواضح أنها هربت عندما كان الجميع يغطون في النوم.







بدا الأمر سخيفاً، بل مضحكاً.  سألتها: "منذ متى تخرج العاهرات من المبغى؟  يجب أن تجديها الآن".
          رمقتني صاحبة المبغى وكأنها تراني للمرة الأولى، وقالت تهسهس: "من أنت حتى تعطيني أوامر؟"، والتمعت عيناها المتحدّيتان الصغيرتان، بخلاف عيني وردة الصحراء، وراحت ترمقني بحدّة.
          "أنا حارس وعمي يشغل منصباً مهماً، وباستطاعتي أن أغلق هذا الوكر وألقي بكنّ جميعكن إلى الشارع"، قلت ومددت يدي إلى الزبدية التي تضعها في حضنها، وتناولت قطعة من راحة الحلقوم.  كانت طرية وناعمة.
          مسحت أصابعي الدبقة بوشاحها الحريري.  اشتعل وجهها غضباً، لكنّها لم تجرؤ على مواجهتي.
فقالت: "لماذا تلومني؟  يجب أن تلوم ذلك الدرويش، الذي أقنع وردة الصحراء بمغادرة المبغى بحثاً عن الله".
لوهلة لم أفهم عمن تتكلم، ولكني سرعان ما عرفت أنها تقصد شمس التبريزي.
في البداية سخر من عمّي أمام تلامذته، والآن هذه.  لا بد أن هذا الزنديق لا يعرف حدوده.














إيلا


نورثامبتون، 26 حزيران (يونيو) 20098
المحبوب عزيز،
قرّرت أن أخطّ إليك رسالة في هذا الوقت، بالأسلوب القديم، بقلم حبر، وورقة معطّرة، ومغلف مماثل، وطابع بريدي.  وإني سأرسلها إلى آمستردام بعد ظهر اليوم.  أريد أن أفعل ذلك فوراً، لأنني إذا تأخرت في إرسالها، فقد لا أتمكن من إرسالها بعد ذلك.
في البداية تلتقي بشخص – شخص يختلف اختلافاً تاماً عن جميع من حولك من الأشخاص.  شخص يرى كلّ شيء بمنظار مختلف، ويجعلك تغيّر منظورك، وتلاحظ كلّ شيء من جديد، من الداخل ومن الخارج، ويخيّل إليك أن بإمكانك الإبقاء على مسافة آمنة بينك وبينه، ويخيّل إليك أنك تستطيع أن تبحر وتشق طريقك في خضم هذه العاصفة الجميلة، حتى تدرك، بغتة، أنه ألقي بك إلى العراء، ولا يمكنك أن تتحكم بذلك.
لا أعرف تماماً متى بدأت كلماتك تأسرني، بل إن كلّ ما أعرفه هو أن الرسائل التي نتبادلها أخذت تغيّرني، منذ البداية.  قد أندم على قول



ذلك، لكني بعد أن أمضيت حياتي كلها نادمة على الأمور التي لم أتمكن من القيام بها، فإني لا أرى ضيراً الآن في أن أفعل شيئاً بدافع التغيير.
          منذ أن "التقيت بك" من خلال روايتك ورسائلك الإلكترونية، هيمنتَ على تفكيري.  وكلما كنت أقرأ رسالة إلكترونية تبعثها لي، كان ينتابني شيء في داخلي ويجعلني أدور في دوامة، وكنت أدرك أنه لم تنتبني منذ زمن بعيد مثل هذه المشاعر، ولم تكن هذه المشاعر تفارقني طوال اليوم.  أتحدّث إليك بصمت، أتساءل كيف سترتدّ على حياتي اليومية.  عندما ترتاد مطعماً جيداً،  أريد أن أرافقك، وعندما أرى شيئاً يثير الاهتمام، يغمرني الحزن لأنني لا أستطيع أن أريه لك.  ومنذ عدة أيام، سألتني ابنتي الصغيرة هل فعلت شيئاً بشعري، لأنني لا أغيّر تسريحة شعري أبداً! فقد أصبحت أبدو امرأة مختلفة، لأنني بدأت أشعر بأنني مختلفة.
          ثمّ أعود لأذكّر نفسي بأننا لم نلتق بعد، وهذا يعيدني إلى الواقع.  والحقيقة أنني لا أعرف ماذا أفعل تجاهك، فقد أنهيت قراءة روايتك وأعددت تقريري.  (آه، نعم، كنت أكتب تقريراً عنها.  كانت تمرّ أوقات أريد فيها أن أشاطرك آرائي، أو على الأقل أن أرسل إليك التقرير الذي أرسلته إلى الوكيل الأدبي، لكنّي قلت لنفسي إن هذا ليس لائقاً، ومع أنني لا أستطيع أن أخبرك عن تفاصيل تقريري، يجب أن تعرف أنني أحببت كتابك كثيراً، وإني أشكرك على المتعة التي أتحتها لي.  وستبقى كلماتك معي على الدوام).
          في جميع الأحوال، ليس لرواية "الكفر الحلو" علاقة بقراري كتابة




هذه الرسالة، أو لعل لها علاقة بكلّ شيء.  فهي التي أفضت إلى ما نما بيننا، وكان تأثيرها الطاغي عليّ يجعلني لا أتمالك نفسي، وأصبح تأثيرها عليّ أكثر مما أتحمله.  في البدء، أحببت مخيلتك وقصصك، ثم أدركت أنني بدأت أحبّ الرجل القابع وراء تلك القصص.
          الآن لا أعرف ماذا يمكنني أن أفعل تجاهك.
          كما قلت، يجب أن أرسل هذه الرسالة فوراً، وإلا مزّقتها إلى قصاصات صغيرة.  سأتصرّف وكأنه لم يطرأ شيء جديد على حياتي، شيء غير عادي.
نعم، يمكنني أن أفعل ما أفعله دائماً،  وأتظاهر بأن كلّ شيء عادي وطبيعي.
يمكنني أن أدّعي أنه إذا لم يكن ذلك من أجل هذا الوجع الحلو في قلبي، فمن أجل ماذا يكون؟
مع كلّ الحبّ،

                                                                                  إيلا














كيرا


قونية، أيار (مايو) 1246
بداية المحنة.  لا أعرف كيف يمكنني معالجة هذا الأمر.
ففي هذا الصباح، ومن حيث لا أدري، جاءت امرأة تسأل عن شمس التبريزي.  طلبت منها أن تعود في وقت لاحق، لأنه غير موجود في البيت، فقالت إنه ليس لها مكان تذهب إلهي، وأنها تفضّل أن تنتظره في الفناء.  فساورتني شكوك، وبدأت أتساءل من هي هذه المرأة ومن أين جاءت.  جثت على ركبتيها وأزاحت برقعتها، فكشفت عن وجه مثخن بالجروح، ومتورّم من ضرب مبرح.  وعلى الرغم من تلك الكدمات والجروح، كانت في غاية الجمال والرشاقة.  وفي غمرة الدموع والبكاء، أكدت بطريقة شديدة اللباقة الشكوك التي ساورتني.  فقد كانت عاهرة قادمة من المبغى.
وقالت: "لكنني هجرت ذلك المكان الفظيع، وتوجهت إلى الحمّام العمومي، واغتسلت أربعين مرة، وصلّيت أربعين مرة، وأقسمت أن أعتزل الرجال.  ومن الآن فصاعداً، سأكرّس حياتي لله".
لم أعرف ما أقوله لها، فحدّقت في عينيها المجروحتين، وتساءلت





كيف أنها، هي الشابة والهشّة، قد وجدت الشجاعة لتهجر الحياة الوحيدة التي تعرفها.  فلم أكن أريد أن أرى امرأة تسقط بالقرب من بيتي، لكن، فيها شيء حطم فؤادي، نوع من بساطة تكاد تكون بريئة، لم يبق لي أن رأيتها في أي شخص.  وذكّرتني عيناها البنيتان بعيني الأم ماري، لذلك لم تطاوعني نفسي على طردها، فتركتها تنتظر في الفناء.  كان ذلك أقصى ما بوسعي أن أفعله.  وتركتها جالسة هناك مسندة ظهرها إلى الحائط، وهي تحدّق في الفضاء، مسمّرة مثل تمثال من الرخام.
          بعد حوالي ساعة، عاد شمس والرومي من نزهتهما، فهرعت لأخبرهما بوجود الزائرة غير المتوقعة.
"هل قلتِ إن في فناء بيتنا عاهرة؟"، سأل الرومي، وقد بدت الحيرة في صوته.
"نعم، وهي تقول إنها هجرت المبغى بحثاً عن الله".
"آله،  لا بد أنها وردة الصحراء"، صاح شمس.  كانت نبرته تشي بالسرور أكثر مما تشي بأنه فوجئ بها، فقال: "لماذا أبقيتها في الخارج؟  دعيها تدخل".
          "لكن ماذا سيقول جيراننا لو عرفوا أن فتاة سيئة السمعة تحت سقف بيتنا؟"، قلت معترضة وصوتي يتصدّع بالتوتّر.
          "ألسنا نعيش جميعاً تحت سقف واحد في جميع الأحوال؟"، قال شمس، وأشار إلى السماء في الأعلى، "فالملوك والشحاذون والعذارى والعاهرات، كلهم يعيشون تحت سماء واحدة".
          كيف يمكنني أن أجادل شمساً، فلديه دائماً ردود جاهزة على كلّ شيء.







دعوة وردة الصحراء إلى الدخول إلى البيت، راجية ألاّ ترانا عيون الجيران الفضولية.  وما إن دخلت الغرفة حتى جرت وقبّلت يد شمس وأخذت تنشج.
"إني سعيد بمجيئك"، قال شمس مبتسماً وكأنه يتكلم مع صديق قديم، "ولن تعودي إلى ذلك المكان.  لقد انتهت تلك المرحلة من حياتك تماماً، وليجعل الله رحلتك إلى الحقيقة مثمرة".
اشتدّ بكاء وردة الصحراء، وقالت: "لكن صاحبة المبغى لن تتركني أعيش بسلام، لأنها سترسل رأي الواوي في إثري.  إنك لا تعرف كيف . . . ".
فقاطعها شمس قائلاً: "ليكن عقلك صافياً يا طفلتي"، وأضاف، "تذكّري قاعدة أخرى: على الرغم من أن المرء في هذا العالم يجاهد ليحقق شيئاً ويصبح شخصاً مهماً، فإنه سيخلّق كل شيء بعد موته.  إنك تهدفين إلى بلوغ المرحلة العليا من العدم.  عيشي هذه الحياة خفيفة وفارغة مثل الرقم صفر.  إننا لا نختلف عن أصيص الزرع.  فليست الزينة في الخارج، بل الفراغ في داخلنا هو الذي يجعلنا نقف منتصفي القامة.  مثل هذا تماماً، فالوعي بالعدم وليس ما نتطلّع إلى تحقيقه، هو الذي يبقينا نواصل الحياة".
***
في وقت متأخر من المساء، أريت وردة الصحراء السرير الذي ستنام عليه، وعندما غطّت في النوم على الفور ، عدت إلى الغرفة الرئيسية، حيث كان الرومي وشمس يتحدثان.
"يجب أن تحضري الرقصة التي سنقدمها"، قال شمس عندما رآني قادمة.







فسألته، "أيّ رقصة؟".
"رقصة روحية يا كيرا، لم يسبق لك أن رأيت مثلها من قبل".
نظرت إلى زوجي بعينين مندهشتين.  ماذا يحدث هنا؟  عن أيّ رقصة يتكلمان؟
"مولانا، إنك عالم مبجّل، ولست شخصاً عادياً.  ماذا سيظن الناس بك؟"، سألته، وقد أحسست بالحرارة تشتعل في وجهي.
"لا تقلقي"، قال الرومي، "لقد تحدّثنا أنا وشمس عن هذا الأمر منذ فترة من الزمن.  نريد أن نقدم رقصة الدراويش.  إنها تدعى "سما" وإننا نرحب بأن ينضم إلينا جميع الذين يتوقون إلى الحبّ الإلهي".
بدأ رأسي يؤلمني بشدة، لكن الألم كان طفيفاً بالمقارنة مع العذاب في قلبي.
"وماذا لو لم يحبّها الناس؟  فليس جميع الناس يحترمون الرقص"، قلت لشمس، راجية أن يكون لما قلته تأثير على ما سيقوله بعد ذلك، "على الأقل تأجيل أداء هذه الرقصة لفترة من الوقت".
"وليس جميع الناس يحترمون الله كثيراً"، قال شمس، "فهل نضع الإيمان به جانباً أيضاً؟".
كانت عبارته هذه نهاية المناقشة.  فلم تعد توجد كلمات أخرى، وملأ البيت صوت الريح التي تتسلل من خلال شقوق الجدران، وتهدر في أذني.










سلطان ولد


قونية، حزيران (يونيو) 1246
"الجمال في عين ناظره" تابع شمس قوله، "إذ سيرى الجميع الرقصة نفسها، لكن كلّ شخص يراها بطريقة مختلفة.  إذاً لماذا القلق؟ فالبعض سيحبّها، والبعض الآخر لن يحبّها".
ومع ذلك، ففي أمسية "سما"، قلت لشمس إني أخشى ألا يحضر أحد الرقصة.
فأجاب بحدّة: "لا تقلق.  فقد لا يكون أهالي البلدة يحبونني، حتى إنهم لم يعودوا يحبّون والدك، لكن لا يمكنهم تجاهلنا.  إن فضولهم سيدفعهم إلى الحضور".
وهكذا، في الأمسية التي ستُجرى فيها الرقصة، اكتظت القاعة بأناس من مختلف المشارب والمهن، منهم التجار، والحدادون، والنجارون، والفلاحون، والحجّارون، والصبّاغون، وبائعة الأعشاب الطبية، وزعماء الطوائف الحرفية، والكتّاب، والخبازون، والندّابون، والعرّافون، وصائدو الجرذان، والعطارون – حتى الشيخ ياسين جاء برفقة عدد من تلامذته -.  وجلست النساء في الخلف.






          شعرت بالارتياح عندما رأيت الملك كان خسرو جالساً مع مستشاريه في الصف الأمامي.  فرجل بهذه المكانة الرفيعة يدعم أبي، سيخرس جميع الألسنة.
احتاج الحضور لبعض الوقت لأخذ أماكنهم، وحتى بعد أن استقر بهم المقام، لم يهدأ الضجيج في الداخل تماماً، وكانت لا تزال تسمع همهمات مناقشات لاهبة.  ولمّا كنت أرغب في الجلوس بجانب شخص لم يشتم شمساً ولم يتحدث عنه بسوء قط، فقد جلست بجانب سليمان السكران، الذي كانت تفوح منه رائحة الخمر، لكني لم أكترث لذلك.
كانت ساقاي ترتعشان، وراحتاي تنضحان عرقاً، ومع أن الهواء كان دافئاً إلى حد يكفي لجعلنا نخلع عباءاتنا، بدأت أسناني تصطك.  فقد كانت هذه الرقصة مهمة للغاية من أجل سمعة أبي التي بدأت تتهاوى.  ابتهلت إلى الله، لكن لمّا كنت لا أعرف ماذا أريد أن أطلب منه تماماً، سوى أن تمرّ الأمور بخير، فقد بدت ابتهالاتي ضعيفة.
سرعان ما تناهي إليّ صوت، من بعيد في البداية، ثم أخذ يقترب.  كان صوتاً آسراً ومؤثراً فحبس الجميع أنفاسهم، وأرهفوا السمع.
"ما نوع هذه الآلة الموسيقية؟"، همس سليمان بمزيج من الوجل والبهجة.
"إنه يدعى الناي"، قلت، متذكّراً حديثاً دار بين أبي وشمس، "ويشبه صوته تنهيدة العاشق تجاه محبوبته".
عندما خفت صوت الناي، تقدم أبي إلى المنصة، وبخطوات مدروسة، متأنية، رقيقة، اقترب وحيّا الحاضرين.  ثم تبعه ستة







دراويش، كلهمّ من مريدي أبي، وكانوا يرتدون أثواباً بيضاً طويلة واسعة من الأسفل، وقد عقدوا أيديهم على صدورهم، ثمّ انحنوا أمام أبي لنيل بركته، ثمّ عزفت الموسيقى، وبدأ الدراويش، الواحد تلو الآخر، يدورون حول أنفسهم، ببطء في البدء، ثمّ بسرعة أكبر، وتفتحت أذيال مثل أزهار اللوتس.
          كان مشهداً رائعاً،  ولم أتمالك نفسي عن الابتسام بفخر وبهجة.  ومن طرف عيني، رحت أراقب تجاوب الحضور، حتى أكثر الثرثارين منهم، فرأيت أنهم يشاهدون الرقص بإعجاب واضح.
          أخذ الدراويش يدورون ويدورون حول أنفسهم إلى ما بدا الخلود، ثمّ علا صوت موسيقى، صوت ربابة من خلف ستارة برفقة صوت الناي والدفوف.  ثم صعد شمس التبريزي إلى المنصة مثل ريح صحراوية عاصفة.  كان يرتدي عبارة بلون أغمق من الأثواب التي يرتديها الآخرون، وكان يبدو أطول قامة منهم، كما كان يدور بسرعة أكبر.  كانت راحتا يديه مبسوطتين نحو السماء، كما كان وجهه، مثل نبات عبّاد شمس يبحث عن الشمس.
          سمعت بعض الحاضرين يلهثون بوجل.  حتى الأشخاص الذين يكرهون شمس التبريزي، بدا كأنهم قد وقعوا تحت سحر الرقص والموسيقى.  نظرت إلى أبي، فبينما كان شمس يدور بسرعة كبيرة، بدأ مريدوه، كلّ في مداره، يدورون ببطء أكبر، بينما لبث أبي في مكانه مثل شجرة بلوط قديمة، حكيماً وهادئاً، لا تني شفتاه تتحركان بالدعاء والابتهال.
ثم بدأت الموسيقى تتباطأ، وفجأة توقّف الدراويش عن الدوران،








وانغلقت كلّ زهرة لوتس على نفسها.  وبتحية رقيقة، بارك أبي جميع الراقصين على المنصة وجميع الحاضرين، ولوهلة أحسست كأننا مرتبطون جميعاً بحالة من الانسجام التام، وأعقب ذلك صمت مفاجئ كثيف، ولم يعرف أحد منهم كيف يتصرف، لأن أحداً لم ير شيئاً كهذا من قبل.
اخترق صوت أبي السكون وقال: "أصدقائي، تدعى هذه الرقصة سما، أي رقصة الدراويش.  ومن الآن فصاعداً، سيرقصها الدراويش في جميع الأزمنة.  يد متجهة إلى السماء، واليد الأخرى متجهة إلى الأسفل نحو الأرض، فكلّ نقطة حبّ ننالها من الله، نتعهّد بتوزيعها على الناس جميعاً".
ابتسم الحاضرون وغمغموا موافقين.  سرى اضطراب ودّي دافئ في القاعة.  تأثرت كثيراً برؤية هذه التجارب الإيجابية واغرورقت عيناي بالدموع.  وأخيراً، بدأ أبي وشمس يتلقيان التحيات، والحبّ والاحترام اللذين يستحقانهما.
كان من الممكن أن تنتهي الأمسية بذلك الدفء، وكان من الممكن أن أعود إلى البيت مفعماً بالسعادة، واثقاً من أن الأمور أخذت تتحسّن، لو لم يحدث ما حدث في ما بعد، الأمر الذي دمر كلّ شيء.















سليمان السكران


قونية، حزيران (يونيو) 1246
الدم والرعد!  يا لها من أمسية لا تنسى!  فلم أزل لم أشف من تأثيرها، فمن بين كلّ ما رأيته هذه الليلة، كانت الخاتمة أكثرها إثارة. 
فبعد انتهاء رقصة سما، استوى كاي خسرو الثاني العظيم واقفاً، وراحت عيناه تجولان في أرجاء الغرفة بغطرسة وكبرياء.  وبعجرفة شديدة اقترب من المنصة، وبعد أن أطلق ضحكة عالية، قال:"أهنئكم أيها الدراويش! لقد أعجبتني رقصتكم كثيراً".
شكره الرومي بلطف شديد، وكذلك فعل الدراويش الواقفون على المنصة، ثمّ نهض الموسيقيون وقدموا للملك تحية احترام أخيرة.  ثمّ أشار كاي خسرو، الذي كان وجهه مفعماً بالارتياح، إلى أحد حرّاسه الذي ناوله كيساً مخملياً.  وراح كاي خسرو يهزّ الكيس في راحة يده ليرى كم هو ثقيل وملئ بالنقود الذهبية، قم ألقى به إلى المنصة.  أطلق الأشخاص المتحلقون حولي تنهيدة، وصفّقوا.  فقد تأثرنا كثيراً بكرم حاكمنا.
استدار كاي خسرو، مفعماً بالرضا والثقة، للمغادرة.  لكن ما إن





خطا نحو الباب حتى أُلقي عليه الكيس الذي كان قد ألقاه على المنصة، فتناثرت النقود تحت قدميه، مصدرة رنيناً وخشخشة مثل خشخشة أساور عروس جديدة.  لقد حدث كلّ شيء بسرعة كبيرة إلى درجة أننا تسمّرنا في مكاننا للحظات كاملة مذهولين، غير قادرين على فهم ما يجري حولنا.  لكن مما لا ريب فيه أن الشخص الذي صعق حقاً بما جرى كان كاي خسرو نفسه.  فقد كانت الإهانة بادية للعيان، ومن المؤكد أنها كانت موجّهة إليه شخصياً، وهو أمر لا يمكن غفرانه.  نظر إلى الوراء بعينين غير مصدقتين ليرى من الذي تجاسر على هذا التصرف الأرعن.
          إنه شمس التبريزي.  فقد استدارت جميع الرؤوس نحوه، بينما كان يقف في وسط المنصة، يضع يديه على خصره، عيناه المحمرتان تحدّقان.
          وقال بصوت عميق: "إننا لا نرقص من أجل المال.  إن سما رقصة روحية نؤديها من أجل الحبّ، الحبّ وحده.  لذلك خذ ذهبك يا صاحب الجلالة ! نقودك لا تنفع هنا".
          خيّم صمت مرعب على القاعة.  كان ابن الرومي يرتجف كما لو كان الدم قد جفّ من وجهه الصغير، ولم يجرؤ أحد على إصدار صوت، فحبسنا أنفاسنا جميعاً.  وكأن السماء كانت تنتظر هذه الإشارة، فبدأ المطر ينهمر بغزارة، وأغرقت قطرات المطر كلّ شيء، وكلّ شخص.  "هيا بنا"، قال كاي خسرو لرجاله.
          اتجه الملك نحو الباب، وكان خداه يرتعشان من الإهانة، وشفتاه ترتجفان، وقد تهدّل كتفاه.








          انطلق حرّاسه وخدمه وراءه، الواحد تلو الآخر، يطأون النقود المعدنية المتناثرة على الأرض بأحذيتهم الثقيلة، فتدافع الناس لالتقاطها.
          ما إن غادر الملك، حتى علت همهمة تشي بعدم الرضا والإحباط في صفوف الحاضرين.
          "من يظن نفسه"، دمدم البعض.
          "كيف يجرؤ على إهانة حاكمنا؟"، صاح آخرون، "لماذا يدفع بكاي خسرو إلى تحميل البلدة كلها الثمن الآن؟".
          وقف عدد من الأشخاص، يهزّون رؤوسهم غير مصدقين، ثم توجهوا نحو الباب وقد ارتسمت على وجوههم أمارات الاحتجاج.  وكان على رأس المحتجّين الشيخ ياسين ومريدوه.  ولمفاجأتي، رأيت من بينهم مريدين اثنين من مريدي الرومي، وابنه علاء الدين.















علاء الدين


قونية، حزيران (يونيو) 1246
          أقسم بالله أنني لم أشعر بالحرج في حياتي كما شعرت الآن.  كانت رؤية أبي ورفيقه الزنديق مخزية، وأحسست بالإهانة عندما رأيته يؤدي هذه الرقصة.  فكيف يمكنه أن يجلب العار على نفسه بهذه الطريقة أمام أهالي البلدة؟  والأهم من كل ذلك، فقد ذعرت عندما سمعت أن بين الحاضرين عاهرة من المبغى.  وبينما جلست هناك وأنا أتساءل عن الجنون والدمار الذي سيجلبه علينا حبّ أبي لشمس التبريزي، تمنيّت، لأول مرة في حياتي، لو كنت ابن رجل آخر.
          إني أعتبر الرقص تدنيساً للمقدسات، لكن ما حدث بعد ذلك، كان بعيداً عن التصور.  فكيف تجاسر هذا الرجل الوقح على ازدراء حاكمنا؟  إنه محظوظ لأن كاي خسرو لم يلق القبض عليه فوراً ويعدمه. 
          عندما رأيت الشيخ ياسين يخرج وراء كاي خسرو، عرفت أنني يجب أن أحذو خذوه.  فآخر شيء أريده هو أن يظن أهالي المدينة بأني أقف إلى جانب زنديق، ويجب أن يرى الجميع ذلك، ما عدا أخي، فأنا لست ألعوبة في يد أبي.







في تلك الليلة لم أذهب إلى البيت، بل مكثت في بيت إرشاد مع عدد من الأصدقاء، وتحدّثنا بحماسة عن أحداث اليوم، وناقشنا مطولاً ما الذي علينا فعله.
          "لهذا الرجل تأثير كبير على أبيك"،  قال إرشاد بحزم، "فقد جلب الآن مومساً إلى بيتكم.  يجب أن تطهّر اسم عائلتك يا علاء الدين".
          بينما وقفت استمع  إلى ما يقولونه، كان وجهي يلتهب بخزي حارق، وكان يوجد شيء واحد جلي بالنسبة لي وهو أن شمساً لم يجلب لنا سوى التعاسة.
          وخلصنا جميعاً إلى ضرورة أن يغادر شمس هذه البلدة، إن لم يغادر طوعاً، فبالقوة.
***
          في اليوم التالي عدت إلى البيت وقد عزمت على أن أتكلّم مع شمس التبريزي، رجلاً لرجل.  كان وحده في فناء البيت، يعزف الناي.  كان رأسه محنياً،  وعيناه مغمضتين، مولياً ظهره لي.  ولمّا كان مستغرقاً في موسيقاه، لم ينتبه لوجودي.  اقتربت بهدوء كالفأر، منتهزاً الفرصة لمراقبته والتعرّف على عدوي بشكل أفضل.
          بعد عدّة دقائق، توقّف شمس عن العزف، ورفع رأسه قليلاً.  ومن دون أن ينظر نحوي، همهم كلمات كأنه يكلّم نفسه، وقال: "السلام عليك يا علاء الدين، هل تبحث عني؟".
          لم أنبس ببنت شفة.  فقد كنت أعرف مقدرته على الرؤية من خلال الأبواب المغلقة، ولم أفاجأ بأن لديه عيوناً في مؤخرة رأسه.
          "إذاً هل استمتعت بمشاهدة الرقصة البارحة؟"، سأل شمس، وأدار وجهه نحوي.





فأجبت على الفور: "أظن أنها كانت مخزية.  لنتحدّث بصراحة.  فأنا لا أحبّك.  ولم أحبّك قط، ولن أدعك تدمّر سمعة أبي أكثر مما فعلت".
ومضت شرارة في عيني شمس.  وضع الناي جانباً، وقال: "هكذا إذاً فلو أنا دمّرت سمعة الرومي فلن يعود الناس ينظرون إليك باعتبارك رجلاً مرموقاً.  هل هذا ما يخيفك؟".
عازماً على ألا أدعه يثير حفيظتي، تجاهلت ملاحظاته الجارحة.  ومضت لحظات قليلة قبل أن أتمكن من قول شيء.
ثم أجبته: "لماذا لا تغادرنا وتتركنا بسلم؟  فقد كنّا نعيش بهدوء وكنا في أفضل حال قبل مجيئك.  كان أبي عالماً محترماً وربّ أسرة رائعاً.  فلا شيء يجمع بينكما".
مطّ شمس عنقه إلى الأمام، وقطّب حاجبيه بتركيز شديد، وأخذ نَفَسَاً عميقاً.  وفجأة بدا عجوزاً ضعيفاً.  لمعت في رأسي فكرة بأنني أستطيع أن أضربه، أن أوسعه ضرباً، قبل أن يتمكن أحد من إنقاذه.  كانت الفكرة مخيفة وخبيثة، لكنها مغرية على نحو مخيف، وكان عليّ أن أشيح بوجهي عنه.
عندما عدت أحدّق به، رأيته يرمقني ويتفحصني.  كانت نظرته نافذة، نهمة.  أمن الممكن أنه يقرأ أفكاري؟  تملّكني شعور مخيف سرى من يديَّ إلى قدميَّ، كأن ألف أبرة تثقبني، وأحسست بركبتيّ واهنتين، غير قادرتين على حملي.  لا بد أنه يمارس السحر الأسود.  لم يكن يساورني أدنى شكّ في شمساً يبرع في أشدّ أشكال السحر الأسود ظلمة.







بعد قليل قال شمس: "إنك تخاف مني يا علاء الدين.  أتعرف بمن تذكّرني؟  بالأجير الأحول".
"عمن تتحدّث؟،  سألته.
"إنها قصّة.  هل تحبّ سماع القصص؟".
هززت كتفي وقلت: "لا وقت لديَّ لسماعها".
ارتعشت شفتا شمس، وقال: "إن الرجل الذي لا وقت لديه لسماع القصص لا وقت لديه من أجل الله"، وأضاف: "ألا تعرف أن الله أفضل حكواتي؟".
من دون أن ينتظر رداً مني، حكى هذه القصّة:
في أحد الأيام، كان يوجد حرفيّ عنده أجير ساخر، شديد الحول.  وكان هذا الأجير يرى الأشياء بصورة مزدوجة على الدوام.  وذات يوم، طلب الحرفيّ من الأجير أن يحضر جرّة العسل من المخزن.  فعاد الأجير خاوي اليدين، وقال متذمراً: "لكن يا سيّدي، توجد جرتا عسل"، ثم أضاف، "أي الجرتين تريدني أن أحضر؟" وبما أن الحرفيّ يعرف أجيره جيداً، فقال: "لماذا لا تكسر إحدى الجرتين وتحضر لي الجرة الأخرى؟".
للأسف، لم يفهم الأجير الحكمة الكامنة وراء هذه الكلمات، ففعل كما طلب منه، وكسر إحدى الجرتين ودهش عندما رأى الجرة الأخرى تنكسر أيضاً".
"ماذا تريد أن تخبرني؟"، سألته، لكي أبدي أن مزاجي لم يكن على ما يرام أمام شمس، لكنني لم أستطع ذلك.  "اللعنة عليك أنت وقصصك.  ألا تستطيع أن تقول ما تريد قوله بشكل مباشر؟".







"لكنها شديدة الوضوح يا علاء الدين.  فأنا أريد أن أقول لك إنك مثل الأجير الأحول لأنك ترى أشياء مزدوجة في كل مكان"، قال شمس: "فأنا ووالدك واحد.  فإذا كسرتني، كسرته أيضاً".
فرددت: "لا يجمع بينك وبين أبي أي شيء مشترك.  فإذا كسرت الجرّة الثانية، فإني سأحرر الجرة الأولى".
استشطت غضباً واعتراني استياء شديد فلم أعد أفكّر بعواقب كلماتي.  لا وقتها، ولا لاحقاً.
لم يكن الأوان قد فات.















شمس


قونية، حزيران (يونيو) 1246
يقول المتعصبون وضيّقو الأفق إن الرقص حرام.
لا أظن أن الله "عز وجل" منحنا الموسيقى – لا الموسيقى التي نصنعها بأصواتنا وآلاتنا فحسب، بل الموسيقى التي تغلّف كلّ أشكال الحياة، ثم حرّم علينا أن نسمعها.  ألا يرون أن الطبيعة برمتها تغنّي؟  فكلّ شيء في هذا الكون يتحرّك بإيقاع: خفقات القلب، رفرفة أجنحة الطير، هبوب الريح في ليلة عاصفة، طرقات الحداد وهو يطرق الحديد، أو الأصوات التي تغلف الجنين داخل الرحم . . . كلّ شيء يشارك في انبعاثها، بحماسة وتلقائية، في نغم واحد رائع.  وما رقصة الدراويش إلا حلقة في تلك السلسلة الدائمة.  وكما يحمل ماء البحر في داخله المحيط برمته، فإن رقصتنا تعكس أسرار الكون وتغلّفها.
قبل أن يحين موعد أداء الرقصة بعدة ساعات، لجأنا أنا والرومي إلى غرفة هادئة لممارسة التأمّل.  ثم انضم إلينا الدراويش الستة الذين سيؤدون رقصة الدراويش هذا المساء.  توضأنا وصلّينا جميعاً، ثمّ ارتدينا أثوابنا.  كنا قد بحثنا بالتفصيل عما يجب أن يكون طول





الثوب ، واخترنا نوعاً بسيطاً من القماش يمثّل ألوان الأرض.  إذ يمثّل الطرطور العسلي اللون شاهدة القبر، في حين تمثّل التنورة البيضاء الطويلة الكفن، بينما تمثّل العباءة السوداء القبر.  وترمز رقصتنا إلى كيف ينبذ الصوفيون النفس كلها، كما ينزعون قطعة من الجلد القديم. 
وقبل أن نغادر القاعة ونتوجه إلى المنصة، قرأ الرومي قصيدة وهي:

"لقد تجاوز الصوفي الحواس الخمس
والاتجاهات الستة وأصبح يدرك ما يقبع وراءها".
         
بهذه المشاعر كنّا مستعدين.  في البداية، انطلق صوت الناي، ثمّ تقدم الرومي من باحة الرقص باعتباره السماء باشي، ثم تبعه الدراويش، الواحد تلو الآخر، رؤوسهم مطرقة بتواضع، وكان الشيخ هو آخر من ظهر.  وأصرّ الرومي على أن أؤدي الرقصة في تلك الليلة، رغم مقاومتي بإصرار.
          وتلا الحافظ سورة من القرآن: "وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون".
ثمّ انطلق صوت "الدف" بمرافقة صوت الناي الثاقب والربابة.
أنْصتْ إلى القصبة (المزمار) وإلى الحكاية التي تحكيها،
كيف أنها تصدح بالفراق،
فمنذ أن اقتلعت من حقل القصب،
لا يزال عويلي يبكي الرجال والنساء.
مستسلماً ومسلماً نفسه بين يدي الله، بدأ الدرويش الأول يدور،




وبدأت حواشي ثوبه تحفّ برقة في حياة منفصلة بحد ذاتها، ثم انضممنا جميعاً إليه، ورحنا ندور حتى لم يبق حولنا شيء سوى "الواحد".  وكنا ننقل كلّ ما نتلقاه من السماء، إلى الأرض، من الله إلى الناس.  وأصبح كلّ واحد منا حلقة تربط بين الحبيب والمحبوب.  وعندما توقّفت الموسيقى، انحنينا لقوى الكون الأساسية: النار والريح والتراب والماء والعنصر الخامس الخواء.
***
          لم آسف على ما حدث بيني وبين كاي خسرو عندما انتهت الرقصة، لكني أسفت لأنني وضعت الرومي في موقع حرج.  فقد كان رجلاً يتمتّع بالامتيازات والحماية على الدوام، وكان جميع الولاة والحكام يحبونه ولا يجافونه.  أما الآم فقد أصبح يعرف قليلاً عن حياة الناس العاديين، الهوة الواسعة بين النخبة الحاكمة وبين عامة الناس -.
          وبهذا بدأ يخيّل إليّ أنني أقترب من نهاية زمني في قونية.
          فكلّ حبّ وصداقة حقيقيين هما قصّة تحول غير متوقّع، ولو بقينا ذات الشخص قبل أن نحبّ وبعده، فهذا يعني أن حبّنا لم يكن كافياً.
          وبفضل الشعر والموسيقى والرقص، اكتمل قدر كبير من تحوّل الرومي، الذي كان عالماً متشدداً لا يحب الشعر، وخطيباً يستمتع بسماع صوته وهو يلقي خطبته على الآخرين، لكنه بدأ يتحول الآن إلى شاعر، وبدأ يصبح صوت الفراغ الصافي، لكني  لا أظن أنه حقق ذلك تماماً.  وقد تغيّرت أنا نفسي أيضاً،  ولا أزال أتغيّر، وبدأت أتحوّل من كائن إلى عدم، من فصل إلى آخر، من مرحلة إلى أخرى، من الحياة إلى الموت.







كانت  صداقتنا مباركة، منحة منحنا إياها الله.  فقد نمونا، وابتهجنا، وازدهرنا وتمتع الواحد منا بصحبة الآخر، وتذوقنا الامتلاء والهناء المطلقين.
          تذكّرت ما قاله لي بابا زمان ذات يوم، فلكي نستخرج الحرير، يجب أن تموت دودة القز.  عندما كنت أجلس وحيداً في قاعة رقص الدراويش، بعد أن غادر الجميع وساد السكون، عرفت أن الفترة التي بقيت لي برفقة الرومي قد قاربت على الانتهاء.  فخلال صحبتنا، شهدت أنا والرومي جمالاً مميزاً، وتعلّمت ماذا يعني أن يرى المرء، مثل مصادفة لا نهائية، من خلال مرآتين تعكسان ما لا نهاية.  لكن الحكمة القديمة ما زالت سارية:  فحيث يوجد حبّ،  يوجد حزن.


















إيلا


نورثامبتون، 29 حزيران (يونيو) 2008
          قال عزيز إن وراء أجمل الأحلام تقبع أشياء غريبة عندما لا يكون الأشخاص مستعدين لاستقبال الأمور غير العادية وغير المتوقّعة.  ولم يكن في جسم إيلا شيء مستعد لتقبل الأمر الغريب الذي حدث هذا الأسبوع:  فقد قدم عزيز ز. زاهارا إلى بوسطن لرؤيتها.
          بعد أن أخذ أفراد الأسرة رونشتاين أماكنهم إلى المائدة مساء يوم الأحد ذاك، لاحظت إيلا وجود رسالة نصّية على هاتفها الخلوي، وظنت أن إحدى السيدات في نادي الطهو قد أرسلتها لها، فلم تسرع إلى قراءتها، بل قدّمت لأسرتها الطبق الخاص الذي أعدّته لهم هذا المساء:  بطّة مشوية بالعسل مع البطاطا المقلّية والبصل المقليّ فوق رزّ أسمر.  عندما وضعت البطّة على المائدة، أبدى الجميع شيئاً من الانشراح، حتى جانيت، التي كانت تشعر بالاكتئاب لأنها رأت سكوت بصحبة فتاة جديدة، فأدركت أنها لا تزال تحبّه، كانت تشعر بالجوع.
          كان عشاء طويلاً، تناولوا خلاله نبيذاً جيداً، ودارت بينهم أحاديث عادية.  وشاركت إيلا في جميع الأحاديث التي دارت على المائدة.






فقد ناقشت مع زوجها طلاء الشرفة مرة أخرى بلون أزرق براق، وتحدثت مع جانيت عن برنامجها في الجامعة، وتحدثت مع طفليها التوأمين عن استئجار أفلام فيديو جديدة، منها الفيلم الحديث "قراصنة الكاريبي".  وبعد أن وضعت الأطباق الوسخة في غسالة الصحون، وقدمت الكاتو بالشوكولا الأبيض، خطر لها أن تقرأ الرسالة النصّية على هاتفها الخلوي:
          مرحباً إيلا، جئت إلى بوسطن في مهمة لمجلة سميثونيان.  لقد هبطت الطائرة للتو.  هل ترغبين في أن نلتقي؟  لقد نزلت في فندق أونيكس، وأحبّ أن أراك.

                                                                                             عزيز
          وضعت إيلا الهاتف جانباً، وأخذت مكانها إلى المائدة لتناول الحلوى، واعتراها إحساس بالدوار.
          "هل وصلتك رسالة؟"، سألها ديفيد، بعد أن رفع رأسه عن صحنه.
          "نعم، إنها من ميشيل"، أجابت إيلا بلا أدنى تردّد.
          أشاح ديفيد بوجهه الحزين، ومسح فمه بمنديله، ثم طوى منديله ببطء وبدقّة مدهشة، إلى شكل مربع.  وعندما انتهى قال: "حسناً".
          أحسّت إيلا بان زوجها لم يصدّقها، لكنها مع ذلك أحست بأنها يجب أن تتمسك بروايتها، لا لتقنع زوجها أو لتخدع أطفالها، بل من أجلها هي، حتى تتمكن من اتخاذ تلك الخطوة التي تفصلها بين بيتها وبين الفندق الذي يقيم فيه عزيز.  لذلك تابعت كلامها، تدقق في كلّ كلمة، وقالت: "لقد اتصلت لتخبرني بأن اجتماعاً سيعقد غداً صباحاً في الوكالة الأدبية لمناقشة برنامج السنة القادمة، وهي تريد أن أشاركهم الاجتماع".




          "حسناً، إذاً يجب أن تذهبي"، قال ديفيد رامشاً عينيه مما يعني أنه يسايرها في اللعبة، وقال: "لماذا لا أوصلك بالسيارة في الصباح، ويمكننا أن نذهب إلى هناك معاً؟  يمكنني أن أؤجل بعض المواعيد".
          حدّقت إيلا في زوجها، بذهول.  ماذا يحاول أن يفعل؟  هل يريد أن نتشاجر أمام الأطفال؟
          "سيكون ذلك رائعاً، قالت، مرغمة نفسها على الابتسام، وأضافت:  "لكننا يجب أن نغادر المنزل قبل الساعة السابعة صباحاً،  لأن ميشيل قالت إنها تريد أن تتحدث إليّ على انفراد قبل الاجتماع مع الآخرين".
          "إذاً إنسي الموضوع"، تدخلت أورلي التي تعرف أن والدها يكره الاستيقاظ مبكراً، وقالت: "لا يستطيع بابا أن يستيقظ مبكراً".
          ونظرت كل من إيلا وديفيد في وجه الآخر.  كانا ينظران على مستوى رؤوس أطفالهما، كلّ منهما ينتظر الآخر أن يقدم على الحركة الأولى.
          "صحيح"، اعترف ديفيد أخيراً.
          هزّت إيلا رأسها بارتياح، وكسا وجهها احمرار طفيف خجلاً، لأنه خطرت لها في تلك اللحظة فكرة أخرى، أكثر جرأة.
          فقالت: "نعم، سيكون الوقت مبكراً للغاية.  لمَ لا أذهب الآن؟"، إن فكرة ذهابها إلى بوسطن صباح الغد وتناولها الفطور مع عزيز جعلت دقات قلبها تخفق بسرعة.  وأحست بأنها أرادت أن ترى عزيز الآن، ولم تعد تستطيع الانتظار حتى الغد، الذي بدا فجأة بعيداً جداً.  فالذهاب من بيتها إلى بوسطن يستغرق قرابة ساعتين، لكنها لم تأبه






لذلك.  فقد قطع كل هذا الطريق من آمستردام من أجلها.  ومن المؤكد أنها تستطيع أن تقود سيارتها لمدة ساعتين.
          "أستطيع أن أصل إلى بوسطن قبل الساعة العاشرة هذه الليلة، لأتمكّن من الوصول إلى الشركة قبل الاجتماع لرؤية ميشيل".
          عبرت مسحة من الألم وجه ديفيد.  بدا أن الوقت قد استمر دهراً قبل أن يقول شيئاً.  في تلك اللحظة الطويلة، كانت عيناه تشيان بأنه لم تتبق لديه القوة أو الحماسة ليمنع زوجته من الذهاب لرؤية رجل آخر.
          "أستطيع أن أقود السيارة إلى بوسطن الليلة، وأمكثت في شقّتنا"، قالت إيلا، في الظاهر لأطفالها، لكنها في الحقيقة كانت توجّه كلامها إلى ديفيد.  كان ذلك أسلوبها لطمأنة زوجها بأنه لن يكون هناك اتصال جسدي بينها وبين أي شخص يظن أنها ستلتقي به.
          نهض ديفيد من على كرسيه، يحمل بيده كأساً من النبيذ.  نظر نحو الباب، وابتسم إيلا باطمئنان، وأضاف بقليل من الحماسة: "حسناً يا حبيبتي، إذا كان هذا ما تريدينه، فيجب أن تنطلقي الآن".
          قال آفي: "لكن ماما، ظننت انك ستساعديني في درس الرياضيات هذا المساء".
          أحسّت إيلا بوجهها يشتعل، وقالت: "أعرف يا عزيزتي.  لماذا لا نفعل ذلك غداً؟".
          التفتت أورلي نحو أخيها لإغاطته وقالت: "آه، دعها تذهب .  فلن تبقى ماما إلى جانبك طوال الوقت.  متى ستكبر؟".
          فقطّب آفي جبينه، لكنه لم يحر جواباً.  كانت أورلي داعمة، ولم تكترث جانيت للأمر، وهكذا تناولت إيلا هاتفها المحمول، وصعدت




إلى الطابق العلوي.  ما إن أغلقت باب غرفة النوم، حتى ألقت بنفسها على السرير، وأرسلت رسالة نصيّة إلى عزيز.
          لا أستطيع أن أصدّق أنك هنا.  سأكون في أونيكس بعد ساعتين.
          أخذت تحدّق في هاتفها برعب متزايد وهي تراقب رسالتها تُرسل.  ماذا تفعل؟  لكن لا يوجد المزيد من الوقت للتفكير، فإذا كانت ستندم هذا المساء، فقد تندم لاحقاً.  يجب أن تسرع الآن.  استغرق الأمر عشرين دقيقة حتى استحمت، وجفّفت شعرها، ونظّفت أسنانها، واختارت فستاناً، فارتدته ثم خلعته، ثم جرّبت فستاناً آخر، ثمّ آخر، ومشّطت شعرها، ووضعت قليلاً من المكياج، وبحثت عن أقراط صغيرة كانت جدتها روث قد أهدتها لها في عيد ميلادها الثامن عشر، وغيّرت فستانها ثانية.
          أخذت نَفَسَاً عميقاً،  ووضعت قليلاً من عطر "إتيرنتي" من شركة كالفين كلاين.  كانت القنينة موضوعة في علبتها منذ فترة طويلة في الحمّام.  لم يكن ديفيد يحب العطر كثيراً، وكان يقول إنه يجب أن تتضوع من المرأة رائحة المرأة نفسها، لا روائح مثل الفانيلا أو أعواد القرفة.  لكن إيلا قالت في نفسها قد يكون رأي الرجل الأوروبي مختلفاً في هذا الأمر، ثم تساءلت، أليس العطر شيئاً مهماً في أوروبا؟
          عندما انتهت، تفحصت المرأة التي بدت لها في المرآة.  لماذا لم يخبرها مسبقاً بأنه سيأتي؟  لو عرفت بذلك قبل فترة من الوقت، لذهبت إلى مصفّف للشعر، وشذّبت أظافرها وطلتها، وجمّلت وجهها، وربما كانت قد جربت تصفيفة شعر جديدة.  ماذا لو لم







تعجب عزيز؟  ماذا لو لم يحدث بينهما انجذاب، وتندم لأنها قطعت كل تلك المسافة إلى بوسطن.
          وفجأة عابت إلى رشدها.  لماذا كانت تريد أن تغيّر من هيئتها؟  ما الفرق إن حدث انجذاب بينهما أم لا؟  فلا بد لأي مغامرة مع هذا الرجل أن تكون عابرة.  فلديها أسرة، ولديها حياتها الخاصة. إن ماضيها هنا، وكذلك مستقبلها.  انزعجت من نفسها لأنها بدأت تفكّر بهذه السيناريوات غير المحتملة، وأغلقت عقلها، الأمر الذي ثبت لها دائماً أنه أسهل شيء تفعله.
          في الساعة الثامنة إلا ربعاً، قبّلت إيلا أطفالها وتمنّت لهم ليلة سعيدة، وغادرت البيت.  لكنها لم تر ديفيد.

          عندها توجهت إلى سيارتها، راحت تخشخش بيدها مفاتيح شقتهم في بوسطن.  وفي حين كان عقلها لا يزال مشلولاً عن التفكير، كان قلبها يخفق بقوة وبسرعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق