الجزء الخامس
العدم
الأشياء الموجودة من خلال
غيابها
سلطان ولد
قونية، تموز (يوليو) 1246
عندما
دخل أبي إلى غرفتي، كان يتنفّس بصعوبة ولم يكد يقوى على الوقوف على قدميه. كان يبدو مثل ظلّ ذلك الرجل الذي كنت
أعرفه. رأيت انتفاخاً داكناً تحت عينيه،
كما لو كان قد سهر طوال الليل، لكن أكثر ما فاجأني أن لحيته قد ازدادت بياضاً.
"ساعدني
يا بني"، قال بصوت لا يشبه صوته.
هرعت نحوه
وأمسكته من ذراعه، وقلت: "أيّ شيء تطلبه يا أبي، اطلب ما تريد".
لبث
صامتاً لوهلة، كما لو كان مسحوقاً تحت ثقل ما سيقوله، ثم قال: "لقد ذهب
شمس. لقد تركني.
للحظات
قصيرة، اعتراني شعور بالاضطراب، وتملكني إحساس غريب بالارتياح، لكنّي لم أقل
شيئاً. وبالرغم من حزني وصدمتي، خطر لي أن
ذلك قد يكون خيراً أيضاً. ألن تصبح الحياة
أسهل وأكثر هدوءاً واطمئناناً؟ فقد أصبح
لأبي الكثير من الأعداء بسبب شمس. لشدّ ما
كنت أريد أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل قدوم شمس.
هل يمكن أن يكون علاء الدين محقاً؟ ألم نكن جميعاً أفضل حالاً قبل مجيء شمس؟
"لا
تنس كم يعني شمس لي"، قال أبي وكأنه قرأ أفكاري، "فأنا وهو واحد. للقمر الواحد جانبان، جانب منير وجانب
مظلم. إن شمس هو جانبي المتلألئ".
هززت
رأسي، وأحسست بالخجل. غاص قلبي في
صدري. لم ينبس أبي بكلمة. لم أر في حياتي هذا القدر من المعاناة في عيني
رجل. أحسست بلساني ثقيلاُ في فمي. لم أستطع أن أفتح فمي لفترة من الوقت.
"أريدك
أن تبحث عن شمس – هذا طبعاً إذا كان يريد أن يظهر- .
أعده لي، قل له كم إن قلبي حزين عليه". وانخفض صوت أبي ليمسي همساً: "قل له إن
غيابه يقتلني".
وعدته بأن
أعيد له شمساً. أمسكني بيدي وضغطها بمودة
وامتنان، فأشحت بعينيّ عنه، لأني لم أشأ أن يرى الارتباك في عينيّ.
***
أمضيت
الأسبوع كله وأنا أجوب شوارع قونية، بأمل أن أقتفي خطرات شمس. كان جميع أهالي البلدة قد سمعوا بخبر اختفاء
شمس، وكانت الأحاديث عن المكان الذي ذهب إليه تدور على كل لسان. رأيت رجلاً مجذوماً يحبّ شمساً كثيراً، ودلّني
على العديد من الأشخاص البائسين والمنبوذين الذين كان الدرويش المتجول قد
ساعدهم. لم أكن أعرف بوجود هذا العدد
الكبير من الأشخاص الذين يحبّونه، لكنهم كانوا من تلك الفئة من الناس الذين لم أكن
أراهم.
وذات
مساء، عدت إلى البيت متعباً مشوشاً. أحضرت
لي كيرا زبدية من الأرز بالحليب، المعطّر بماء الورد. جلست إلى جانبي وهي ترمقني وأنا آكل، وتبتسم
ابتسامة تغلّفها هالة من الحزن، لاحظت كم كبرت هذه السنة.
سألتني:
"سمعت أنك تريد أن تبحث عن شمس.
أتعرف إلى أين ذهب؟".
"يقول
البعض إنه ربما ذهب إلى دمشق، لكنني سمعت أشخاصاً يقولون أيضاً إنه ذهب إلى أصفهان
أو إلى القاهرة، بل حتى إلى تبريز، مسقط رأسه.
يجب أن نبحث في كلّ هذه المدن.
سأذهب إلى دمشق، وسيذهب بعض مريدي أبي إلى المدن الثلاث الأخرى".
اكتسى
وجه كيرا قسمات جادة، وهمهمت كأنها تفكّر بصوت مرتفع: "إن مولانا يكتب قصائد
جميلة، فقد جعله غياب شمس شاعراً".
ثم
أطرقت ونظرت إلى السجادة الفارسية. كان
خدّاها نديين، وفمها المستدير مكوراً، وأطلقت تنهيدة، ثم راحت تتلو هذا المقطع:
"رأيت
الملك بوجهه المفعم بالمجد
ذات
هو عين السماء وشمسها".
حلّ الآن شيء في
الهواء لم يكن موجوداً منذ لحظة. فقد رأيت
كيرا ممزقة في أعماقها، وعندما تنظر إلى وجهها، ترى شدّة ألمها وهي ترى زوجها
يتألم، وكانت مستعدة لبذل كل ما بوسعها كي تعود الابتسامة إليه، لكنها ارتاحت
أيضاً، بل كادت تشعر بالسعادة، لأنها تخلّصت أخيراً من شمس.
"ماذا لو لم
أبحث عنه"، سمعت نفسي أسألها.
"عندها
لا يوجد الكثير الذي يمكن فعله، وعندها يمكننا مواصلة حياتنا كما كانت من
قبل"، قالت، وقد برقت عيناها بشيء من الأمل.
في تلك
اللحظة، فهمت بجلاء وبلا ريب ما كانت تلمح إليه، وهو أنه يجب عليّ ألاّ أبحث عن
شمس التبريزي، وألاّ أذهب إلى دمشق. كان
بإمكاني أن أغادر قونية غداً، وأجوب المنطقة لفترة من الزمن، وأعثر على خان جميل
على الطريق فأقيم فيه ثم أعود أدراجيبعد بضعة أسابيع، وأدّعي بأنني بحثت عن شمس في
كل مكان. وبما أن أبي يثق بما أقوله، فإنه
سينسى الأمر تماماً. ربما كان ذلك أفضل
شيء، لا لكيرا وعلاء الدين اللذين كانا يرتابان في شمس فحسب، بل لطلاب ألي
ومريديه، ولي أنا أيضاً.
قلت
"كيرا، ماذا أفعل؟".
رمقتني كيرا
بنظرة تشي بالألم، ولم تنبس بكلمة. فقد
كانت هذه المرأة التي اعتنقت الإسلام لكي تتزوج أبي، امرأة رائعة تجاهي وتجاه أخي،
وكانت تحبّ زوجها كثيراً إلى حد أنها حفظت عن ظهر قلب القصائد التي كتبها لشخص
غيرها، وفجأة نضبت كلماتها.
عليّ أن
أجد الجواب بنفسي.
الرومي
قونية، آب (أغسطس) 1246
أضحى العالم
قاحلاً مجدباً، ولم تعد تشرق فيه شمس، منذ اللحظة التي غادر فيها شمس
التبريزي. أمست المدينة مكاناً حزيناً،
بارداً، وخوت روحي. ولم يعد يغمض لي جفن في الليل، ولم أعد أفعل
شيئاً في النهار سوى التسكع في الشوارع.
أنا هنا ولست هنا – شبح بين الناس.
إني غاضب من الجميع. فكيف يستطيعون
مواصلة حياتهم وكأن شيئاً لم يتغير؟ كيف
يمكن أن تظل الحياة كما هي من دون شمس التبريزي؟
وفي كلّ
يوم، أصبحت أجلس وحيداً في المكتبة منذ غروب الشمس حتى شروقها، لا أفكّر بشيء إلا
بشمس. وأتذكّر ما قاله لي ذات يوم، بنبرة
فيها بحة: "ذات يوم ستصبح صوت الحبّ".
لا أعرف
شيئاً عن ذلك، لكني بدأت أجد الصمت ممضاً، والكلمات تمنحني مجالاً لاختراق الظلام
في قلبي. ألم يكن هذا ما يريده شمس؟ أن يجعلني شاعراً.
إن
الحياة تعني الكمال، فكلّ حادثة تقع، كبيرة كانت أم صغيرة،
وكلّ مشقّة نكابدها هي جانب من خطة إلهية تحدث حتى
النهاية. إن المجاهدة متأصلة في نفوس
البشر، لذلك يقول الله في كتابه العزيز (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ)،
ولا مجال لشيء يسمى الصدفة في تدبير الله، لذلك لم تكن صدفة أن يعترض شمس التبريزي
طريقي في ذلك اليوم من أيام تشرين الأول (أكتوبر) قبل نحو سنتين.
"لم
آت إليك بسبب الريح"، قال شمس، ثمّ روى لي حكاية.
ذات
يوم، كان هناد سيّد صوفي متبحّر في العلم إلى درجة أنه أُعطي نَفَسَ المسيح، لم
يكن لديه إلا مريد واحد، وكان سعيداً بما أُعطي.
لكن كان لمريده رأي مختلف، إذ كان يريد أن يبدي آخرون إعجابهم بقدرات
سيّده، فظلّ يلحّ عليه لقبول عدد أكبر من المريدين.
"حسناّ"،
قال السيد موافقاً، "إن كان هذا يسعدك، سأنفذ ما تطلبه".
في
ذلك اليوم، توجها إلى السوق، وشاهدا في كشك قطعة حلوى مصنوعة على هيئة طير. وما إن نفخ فيها السيّد، حتى دبّت فيها الحياة
وطارت مع الريح. وعلى الفور تحلّق حوله
أهالي البلدة مبدين دهشتهم، وإعجابهم بما فعل.
منذ ذلك اليوم، راح أهالي البلدة يمتدحون السيّد، وسرعان ما أصحب لديه
الكثير من المريدين والمعجبين، فلم يعد تلميذه القديم يراه كثيراً.
"آه
يا سيدي، كنت مخطئاً. فقد كانت الأمور
أفضل بكثير في الماضي"، قال التلميذ يائساً، "افعل شيئاً. اطردهم، أرجوك".
"حسناً. إن كان ذلك يسعدك، فسأطردهم".
وفي
اليوم التالي، بينما كان السيّد يلقي خطبته، ضرط فارتاع
تلاميذه، واستداروا، الواحد تلو الآخر،
وانصرفوا عنه، ولم يبق إلا تلميذه القديم.
"لماذا
لم تغادر مع الآخرين؟"، سأله السيّد.
فأجاب
التلميذ: "لم آت لأدرس على يديك بسبب الضرطة الأولى، ولن أتركك بسبب الضرطة
الأخيرة".
***
لقد
فعل شمس كلّ ما فعله كي أصل إلى درجة الكمال، لكن أهالي البلدة لم يفهموا ذلك على
الإطلاق. فقد تعمّد شمس أن يذكي نار
الثرثرة، ويستثير الأعصاب الحسّاسة، ويتفوه بكلمات تبدو للأذن العادية كفراً
محضاً، فتصدم الناس وتستفزهم، حتى الذين أحبّوه.
فقد ألقى بكتبي في الماء، وأرغمني على نسيان كلّ ما كنت أعرفه. وسمع الجميع أنه كان ينتقد المشايخ والعلماء،
ولم يكن يعرف سوى القليل منهم أنه رجل متبحر في علوم التفسير. وكان شمس متبحراً في الكيمياء والتنجيم والفلك
واللاهوت والفلسفة والمنطق، لكنّه كان يخفي معرفته عن العيون الجاهلة، وعلى الرغم
من انه كان فقيهاً، فقد كان يتصرّف مثل درويش ناسك.
فقد
شرّع أبواب بيتنا لمومس، وجعلها تشاركنا مائدتنا، وطلب مني الذهاب إلى الحانة
وشجّعني على الاختلاط بالسكارى. وفي إحدى المرات، جعلني أتسوّل أمام المسجد عندما
كنت خطيباً، وأرغمني على أن أحلّ مكان متسوّل مجذوم. في البداية أبعدني عن المعجبين بي، ثمّ عزلني
عن النخبة الحاكمة، وجعلني أتواصل مع عامة الشعب.
وبفضله تعرّفت على أشخاص ما كنت لألتقي بهم لولاه،
وبسبب إيمانه بأنه يجب تحطيم جميع الأصنام
التي تقف حائلاً بين العبد والله، بما في ذلك الشهرة والثروة والمقام، بل حتى
الدين، فكّني شمس من جميع القيود التي كان تقيدني بالحياة. وكان كلما رأى عائقاً فكرياً أو تحيزاً أو
تعصباً، يتنكّب للأمر ويواجهه بحزم.
لقد
كنت بحسب اعتقاده أمرّ بمرحلة التجربة والخطأ،
وأمرّ بمراحل وحالات، يجعلني كلّ منها أبدو أشدّ اضطراباً وتشوشاً في عيون
أتباعي المخلصين. فقد كان لدّي عدد كبير
من المعجبين، لكني تخلصت الآن من الإحساس بالحاجة إلى وجود معجبين حولي. وشيئاً فشيئاً، حطّم شمس سمعتي، وبفضل تعلّمت قيمة الجنون،
وذقت طعم الوحدة والعجز والافتراء والعزلة، وأخيراً الأسى.
ابتعد
عن كل ما تراه مربحاً!
اجرع
السمّ وأرق ماء الحياة!
اهجر
الأمن وامكث في الأماكن المخيفة!
الق
بالسمعة، وتعرّف على الخزي والحقارة!
ففي
نهاية المطاف، ألا نُحاكم جميعاً؟ وفي كلّ
يوم، وفي كلّ دقيقة تمرّ، يسألنا الله ماذا فعلنا في يومنا ذاك. وفي معظم الأحيان، لا نكون مستعدين للإجابة عن
هذه الأسئلة، المخيفة. فكن الله صبور، ولا
يني يكرر هذا السؤال.
وإذا
كان هذا الحزن كذلك جزءاً من اختبار، فإن أمنيتي الوحيدة هي أن أعثر على شمس. وإني مستعد للتخلي عن كتبي وخطبي وعائلتي
وثروتي، وحتى عن اسمي. إنني مستعد للتخلي عن أيّ شيء، وعن كلّ شيء، مقابل
رؤية وجهه مرة أخرى.
منذ
أيام قليلة، قالت كيرا إني أصبحت شاعراً رغماً عني. فمع أنني لم أكن أحترم الشعراء كثيراً، لم
أفاجأ بسماع ذلك. ولو كان ذلك قد حدث في
الماضي، لاعترضت على ما قالته، لكني لم اعترض الآن.
وبدأت
تنثال من فمي أشعار، باستمرار وبتلقائية، أشعار لو سمعها أحد، لتبيّن أنني أصبحت
شاعراً حقاً. سلطان اللغة! لكن في الحقيقة
يمكنني القول إن هذه القصائد لا تمت لي بصلة.
فأنا لست سوى وسيلة لنقل الحروف التي وضعت في فمي، ومثل القلم الذي يدوّن
الكلمات لأنه يؤمر بكتابتها، أو الناي الذي يعزف من النوطة الموسيقية، فأنا أيضاً
أفعل ما يتعين عليّ فعله.
شمس
التبريزي الرائع، أين أنت؟
شمس
دمشق، نيسان (أبريل) 1247
عندما
اكتسى الربيع حلّة قشيبة في دمشق، وبعد أن مضت عشرة أشهر على مغادرتي قونية، وجدني
سلطان ولد. كنت ألعب الشطرنج مع ناسك
مسيحي يدعى فرانسيس، تحت سماء زرقاء صافية.
لم يكن سريع الغضب، بل كان رجلاً يعرف معنى الاستسلام. ولمّا كان الإسلام يعني السلام الداخلي،
والكلمة مشتقة من كلمة الاستسلام، فقد كان فرانسيس، في رأيي، مسلماً أكثر من
الكثيرين ممن يدّعون الإسلام. إذ تقول
إحدى القواعد الأربعين: لا يعني الاستسلام أن يكون المرء ضعيفاً أو سلبياً، ولا
يؤدي إلى الإيمان بالقضاء والقدر أو الاستسلام، - القوة المنبعثة من الداخل. فالذين يستسلمون للجوهر الإلهي في الحياة،
يعيشون بطمأنينة وسلام حتى عندما يتعرض العالم برمته إلى اضطراب تلو الاضطراب.
حرّكت
حجر الوزير لأرغم فرانسيس على نقل حجر الملك، وبقرار سريع وشجاع، نقل حجر القلعة،
فساورني الشكّ في أنني سأخسر هذه المباراة، عندما رفعت رأسي ورأيت عين سلطان ولد.
فقلت
له: "تسعدني رؤيتك. هكذا إذاً قرّرت
أن تبحث عني".
فابتسم لي ابتسامة حزينة، ثمّ تجهم وجهه،
وفوجئ عندما سمع أنني أعرف ما يدور في داخله من صراع. ولماّ كان رجلاً صادقاً، لم ينكر الحقيقة.
"لقد
أمضيت بعض الوقت في التسكع قبل أن أبحث عنك، لكن بعد فترة من الزمن، لم يعد بوسعي
أن أفعل ذلك. لم أستطع أن أكذب على أبي،
لذلك قدمت إلى دمشق بحثاً عنك، لكني وجدت صعوبة في العثور عليك".
فقلت
له: "إنك رجل صادق وولد صالح، وستكون رفيقاً عظيماً لأبيك".
هزّ
سلطان ولد رأسه بحزن، وقال: "أنت الرفيق الوحيد الذي يحتاج والدي إلى رفقته،
لذلك أريدك أن تعود معي إلى قونية. إن أبي
بحاجة إليك".
عندما
سمعت هذه الدعوة، دارت في خلدي أفكار شتى.
في البدء، لم تكن أي فكرة من هذه الأفكار واضحة. لكن نفسي عافت فكرة العودة إلى مكان لم أعد
مرغوباً فيه كثيراً.
لا
تنصت إليه. فقد انتهت مهمتك. لا ينبغي لك أن تعود إلى قونية. تذكّر ما قاله لك بابا زمان. إنه كلام في غاية الخطورة، فلو عدت إلى تلك
البلدة فلن تخرج منها ثانية.
أريد
أن أتابع ترحالي في أرجاء المعمورة، وأن ألتقي بأناس آخرين وأرى مدناً جديدة. لقد أحببت دمشق، وبوسعي المكوث فيها حتى الشتاء
القادم. فالانتقال إلى مكان جديد غالباً
ما يدخل في روح المرء
إحساساً مخيفاً بالوحدة والحزن، لكن بما أن
الله معي فإني أشعرْ بالرضا والسعادة في خلوتي.
لكني
أعرف جيداً أن قلبي لا يزال في قونية، وأني اشتقت كثيراً إلى الرومي حد أن مجرد
النطق باسمه كان يؤلمني كثيراً. وفي نهاية
المطاف، ماذا يهم في أي مدينة أمكث، ما دام الرومي ليس بجانبي؟ فحيثما يوجد، توجد قبلتي.
حرّكتُ
بيدق الملك على رقعة الشطرنج. فتح فرانسيس
عينيه على وسعيهما، عندما اكتشفت خسارته.
لكن في الشطرنج، كما في الحياة، توجد حركات تنفذها لتربح، وحركات تقوم بها
لأنها الحركات التي يجب أن تقدم عليها.
"أرجوك
تعال معي"، قال سلطان ولد متوسلاً، فقطع سلسلة أفكاري، وأضاف: "إن الذين
نشروا الشائعات عنك، والذين أساؤوا إليك نادمون.
وفي هذه المرة، سيكون الأمر أفضل، إني أعدك بذلك".
أردت
أن أقول له يا بني، لا يمكنك أن تقدّم مثل هذه الوعود، فلا أحد يمكنه ذلك! لكني هززت رأسي وقلت: "أريد أن أشاهد
الغروب في دمشق مرة أخرى. ويمكننا أن
ننطلق صباح الغد إلى قونية".
"حقاً؟
شكراً"، قال سلطان ولد، وافترّت شفتاه عن ابتسامة تشي بالارتياح، "إنك
لا تعرف مدى سعادة والدي بذلك".
ثمّ
التفتُّ نحو فرانسيس الذي كان ينتظرني بفارغ الصبر لمواصلة اللعب، وعندما ركّزت
اهتمامي، ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة.
وقالت
بصوت يشي بالانتصار: "انتبه يا صديقي.
كش ملك".
كيميا
قونية، أيار (مايو) 1247
كانت
في عينيه نظرة غامضة، وبُعد في سلوكه لم أرهما من قبل. وقد عاد شمس التبريزي إلى حياتي، وبدا أن
تغيّراً كبيراً قد طرأ عليه. فقد أطال
شعره وتهدل فوق عينيه، واسمرّت بشرته تحت شمس دمشق، وأصبح يبدو أكثر شباباً
وجمالاً. لكن كان فيه شيء آخر تغيّر لم
أتمكن من تحديده بدقة. فعلى الرغم من
البريق والتهوّر اللذين يشعّان في عينيه السوداوين، فقد ازدادتا ألقاً وإشعاعاً،
وعرفت أنه يمتلك عينيّ رجل رأى وخبر كلّ شيء.
لكني
أظن أنه طرأ تحول أعمق على الرومي. فقد
خيّل إليّ أن حدّة قلقه ومخاوفه ستخفّ كثيراً بعد عودة شمس، لكن الأمر لم يكن
كذلك. ففي يوم عودته، استقبله الرومي خارج
أسوار البلدة بالزهور، لكن ما إن بدأت بهجة الأيام الأولى تهدأ قليلاً، حتى ازدادت
حدة قلق الرومي، وازداد شروداً، ويخيّل إليّ أنني أعرف السبب. فبعد أن فقد شمس مرة، أصبح يخشى أن يفقده مرة
أخرى، ويمكنني أن أفهم ذلك كما لا يستطيع أحد أن يفهم، لأنني أخشى أنا أيضاً أن
أفقده.
كانت
جوهر زوجة الرومي الراحلة هي الشخص الوحيد الذي أفضي إليها بمشاعري. حسناً، إنها ليست شخصاً فعلاً، لكني لا أدعوها
طيفاً أيضاً، لأنها امرأة حالمة وساهمة أقل من معظم الأطياف التي عرفتها، فهي
تتحرّك بسهولة مثل مجرى ماء يتدفق ببطء حولي منذ أن قدمت إلى هذا البيت، ومع أننا
كنا نتحدّث عن كلّ شيء، فقد بدأ الحديث بيننا يدور حول موضوع واحد وهو شمس.
قلت
اليوم لجوهر: "إن الرومي يمرّ في حالة اكتئاب شديد. أرجو أن أتمكّن من مساعدته".
"لعل
بوسعك ذلك، فهناك شيء مهم يشغل تفكيره هذه الأيام، لم يقله لأي شخص"، قالت
جوهر بغموض.
فسألتها:
"ما هو؟".
"يظن
الرومي أن شمساً إذا تزوّج وأنشأ عائلة، فلن يكنّ له أهالي المدينة العداء، وسيخفّ
حديثهم عنه، ولن يغادر ثانية".
خفق
قلبي بقوة. شمس يتزوج! لكن ممن؟
رمقتني
جوهر بنظرة جانبية، وقالت: "يتساءل الرومي هل ترغبين في الزواج من شمس".
ذهلت. فلم تكن هذه هي أول مرة تخطر لي فيها فكرة
الزواج. أنا الآن. وبعد أن بلغت الخامسة عشرة من عمري، عرفت أنني
بلغت سن الزواج، مع أنني أعرف أيضاً أن الفتيات اللاتي يتزوّجن يتغيّرن إلى الأبد،
إذ تغلف عيونهم نظرة جديدة، ويتخذن سلوكاً جديداً، ويبدأ الناس بمعاملتهن معاملة
مختلفة. حتى الأطفال الصغار يصبح بإمكانهم
معرفة الفرق بين المرأة المتزوجة والفتاة العزباء.
ابتسمت
جوهر برقة، وأمسكت يدي. فقد لاحظت أن
الزواج هو الذي يقلقني، عدم الزواج من شمس.
***
بعد
ظهر اليوم التالي، ذهبت لرؤية الرومي فوجدته مستغرقاً في قراءة كتاب بعنوان
"تهافت التهافت".
"أخبريني
يا كيميا"، قال بمودّة، "ماذا
بوسعي أن أفعل لك؟".
"عندما
أحضرني أبي إليك، قلت له إن الفتاة لا تصلح للعلم كالفتى، لأن الفتاة مصيرها أن
تتزوج وتنجب وتربّي أطفالها، إني أتذكر ذلك جيداً؟".
"طبعاً
أتذكّر"، أجاب، وقد امتلأت عيناه البندقيتان بالفضول.
"في
ذلك اليوم عاهدت نفسي على ألا أتزوّج أبداً، حتى أبقى تلميذتك إلى الأبد"،
قلت، وقد خفت صوتي تحت وطأة ما كنت أزمع قوله لاحقاً: "لكن من الممكن أن أتزوّج وألاّ أغادر هذا
البيت. أقصد، إذا تزوّجت بشخص يعيش هنا .
. .".
فسألني
الرومي: "هل تريدين القول إنك ترغبين بالزواج من علاء الدين؟".
"علاء
الدين؟"، رددت بذهول، لكن ما الذي يجعله يظن أني أرغب في الزواج من علاء
الدين؟ فأنا أعدّه أخاً لي.
لا
بد أن الرومي كشف ذهولي، وقال: "منذ فترة جاء علاء الدين وطلب يدك مني".
فغرت
فمي، فقد كنت أعرف أنه لا يليق بالفتاة أن تطرح أسئلة كثيرة عن هذه الأمور، لكني
كنت أتوق إلى معرفة المزيد، "وماذا قلت له يا سيدي؟".
فقال
الرومي: "قلت له إنني يجب أن أسألك أولاً".
"سيدي
. . ."، قلت، وقد انخفض صوتي كثيراً، "لقد جئت الآن لأخبرك بأني أرغب في
الزواج من شمس التبريزي".
رمقني
الرومي بنظرة تشي بعدم التصديق، وقال: "هل أنت متأكّدة من ذلك؟".
فقلت:
"قد يكون ذلك جيداً من نواحٍ عدة"، وعلى الرغم من رغبتي في معرفة
المزيد، فقد شعرت أنني قلت الكثير، وأضفت: "سيكون شمس جزءاً من عائلتنا، ويجب
ألا يغادرنا مرة أخرى".
"إذاً
لماذا ترغبين في الزواج منه؟ حتى تساعديه
في أن يبقى معنا؟"، سألني الرومي.
فقلت:
"لا، أقصد نعم، لكن هذا ليس كلّ شيء . . . أظن أن شمس هو قدري".
كان
هذا أكثر ما أمكنني الاعتراف به بأنني أحبّ شمس التبريزي.
***
كانت
كيرا أول من سمع عن الزواج، وبصمت مفعم بالذهول استقبلت النبأ بابتسامة مكسورة،
لكن ما إن أصبحنا وحدنا في البيت، حتى بدأت تطرح عليّ أسئلة، فقالت: "هل أنتِ
متأكّدة من أن هذا هو حقاً ما تريدينه؟ إنك لا تفعلين ذلك لمساعدة الرومي، أليس
كذلك؟ إنك فتاة شابة! ألا تظنين أنك يجب
أن تتزوّجي شخصاً يكون قريباً من عمرك؟".
فقلت
لها: "إن شمساً يقول إن جميع الحدود تختلط في الحب".
أطلقت
كيرا تنهيدة عالية، وقالت: "يا طفلتي، آمل أن تكون الأمور
بهذه البساطة، ودسّت خصلة من شعرها الرمادي
داخل وشاحها، وأضافت: "إن شمساً درويش متجوّل، رجل جموح، والرجال أمثاله غير
معتادين على الحياة البيتية، ولا يصبحون أزواجاً جيدين".
"لا
بأس، قد يتغيّر"، قلت بحزم، "سأمنحه الكثير من الحبّ وأجعله سعيداً،
لذلك يجب أن يتغيّر. سيتعلّم كيف يمكن أن
يكون زوجاً صالحاً وأباً صالحاً".
هنا
انتهى حديثنا، ومهما كان الشيء الذي قرأته كيرا في وجهي، فلم تعد لديها أي
اعتراضات يمكن أن تثيرها.
في
تلك الليلة، نمت نوماً هادئاً، واعتراني شعور بالبهجة والتصميم. لم أكن أعرف أنني كنت أرتكب الأخطاء التي
ترتكبها النساء عادة على امتداد العصور: الاعتقاد بسذاجة بأنهن يستطعن، بحبّهن،
تغيير الرجال الذين يحبّونهم.
كيرا
قونية، أيار (مايو) 1247
إن
مناقشة موضوع عميق وشديد الحساسية كالحبّ أشبه بمحاولة الإمساك بريح عاصفة. فقد يصيبك الأذى الذي تسببه الريح، لكن ما من
وسيلة إلى التخفيف من سرعتها. بعد فترة من
الزمن، لم أسأل كيميا المزيد من الأسئلة، لا أني اقتنعت بردودها، بل لأني رأيت في
عينيها امرأة عاشقة. فلم أعد أسألها عن
هذا الزواج، وتقبلت الأمر باعتباره من الأمور الغريبة في الحياة التي لا أملك
سلطاناً عليها.
مرّ
شهر رمضان بسرعة، ولمّا كنت منهمكة في العمل لم يكن لديّ وقت لأفكّر بهذا الأمر
ثانية، وحلّ عيد الفطر يوم الأحد، وبعد أربعة أيام، عقدنا قران كيميا على شمس.
في
الليلة التي سبقت الزفاف، حدث شيء غيّر مزاجي كله. فقد كنت وحدي في المطبخ، أجلس أمام لوح من
الخشب المكسو بالطحين وشوبك، أعدّ خبزاً مرقوقاً للضيوف. وفجأة، ومن دون أن أفكّر بما أفعله، بدأت أشكّل
صورة لأمّنا مريم من كرة العجين. أمّي
مريم. وشكّلت بالسكين عباءتها الطويلة،
ووجهها الهادئ الرحيم.
وبما
أنني كنت مستغرقة في ذلك، لم ألحظ أحداً يقف خلفي.
"ما
الذي تفعلينه يا كيرا؟".
قفز
قلبي داخل صدري. فعندما التفتُّ رأيتُ
شمساً يقف بجانب الباب، ينظر إليّ بعينين فضوليتين. خطر لي أن أخفي العجينة، لكن الأوان كان قد
فات. اقترب شمس من الصينية، ونظر إلى
الشكل الذي صنعته.
سألني:
"هل هذه مريم؟"، وعندما لم أجب، التفت نحوي بوجه مشرق باسم، وقال:
"إنها جميلة. هل تشتاقين إلى
مريم؟".
"لقد
أسلمت منذ زمن بعيد. فأنا امرأة
مسلمة"، أجبته باقتضاب.
لكن
شمساً تابع كلامه كأنه لم يسمعني، فقال: "لعلك تتساءلين لماذا لا يوجد في
الإسلام رمز أنثوي مثل مريم. بالتأكيد توجد لدينا عائشة، وبالتأكيد هناك
فاطمة، لكنك ربما تظنين أن الأمر مختلف".
شعرت
بالارتباك، ولم أعرف ما أقول.
"هل
لي أن أحكي لك قصّة"، سألني شمس.
وهذا
ما حكاه لي:
ذات
مرة كان يوجد أربعة مسافرين، يوناني وعربي وفارسي وتركي. وعندما وصلوا إلى بلدة صغيرة، قرّروا تناول
شيء. ولمّا لم يكن لديهم الكثير من
النقود، لم يكن لديهم سوى خيار واحد. فقد
قل كلّ واحد منهم إن طعامه هو أفضل طعام في العالم، وأنه يريد تناوله. وعندما سُئلوا عنه، أجاب الفارسي:
"أنغور"، وقال اليوناني: "ستافاليون"، وقال العربي:
"عنب"، وقال التركي: "أوزوم". ولم
يتمكن أحد منهم من فهم لغة الآخر، فأخذوا يتجادلون.
ظلوا
يتشاجرون، وبدأ شعورهم بالاستياء والمرارة يزداد مع مرور
كلّ دقيقة، حتى مرّ بهم صوفي وقاطعهم. وبالمبلغ الذي جمعوه، اشترى الصوفي عنقود عنب،
صمّ وضع حبات العنب في وعاء وعصره، وطلب منهم أن يشربوا العصير وأن يلقوا القشر
جانباً، لأن جلّ اهتمامهم يجب أن يكمن في لب الثمرة، لا في قشرتها.
"فالمسيحيون
واليهود والمسلمون يشبهون هؤلاء المسافرين.
فبينما يتشاجرون حول الشكل الخارجي فإن الصوفي يبحث عن الجوهر"، قال
شمس، وابتسم ابتسامة تشي بالحماسة.
"ما
أريد قوله هو أنه لا يوجد سبب يجعلك تشتاقين إلى الأمّ مريم، لأنك يجيب ألاّ تتخلي
عنها في المقام الأول، ومع أنك امرأة مسلمة، فبإمكانك أن تظلي مرتبطة بها".
"لا
. . . لا أظن أن هذا الأمر لائق"، تلعثمت قائلة.
"لم
لا، فالأديان كالأنهار: تصبّ جميعها في البحر نفسه. إذ ترمز الأمّ مريم إلى الشفقة والرحمة والحبّ
غير المشروط. إنها رمز للجميع. وكامرأة مسلمة، فإنك تستطيعين الاستمرار في
حبّها، بل حتى يمكنك تسمية ابنتك باسم مريم".
فقلت:
"لا توجد لديّ ابنة".
"ستكون
لديك ابنة".
"أتظن
ذلك؟".
"إني
أعرف ذلك".
شعرت
بالإثارة عندما سمعت هذه الكلمات، لكن سرعان ما تلاشت الإثارة وحلّ محلها شعور
آخر: التضامن. فقد عشنا معاً لحظة غير
عادية من الصفاء والانسجام، ونظرنا معاً إلى هيئة الأمّ مريم.
رقّ قلبي لشمس، وللمرة الأولى منذ قدومه إلى بيتنا، رأيت ما يراه فيه
الرومي: رجل ذو قلب كبير.
لكنني
لا زلت أشكّ في أنه سيكون زوجاً صالحاً لكيميا.
إيلا
بوسطن، 29 حزيران (يونيو) 2008
عندما
وصلت إيلا إلى الفندق، كان يعتريها توتر شديد، ولم يكن عقلها صافياً. وفي بهو الفندق، كانت توجد مجموعة من السيّاح
اليابانيين الذين كانوا جميعاً في السبعينات من أعمارهم، وتتشابه قَصَّةُ شعرهم
حتى تكاد أن تكون واحدة. اجتازت إيلا البهو،
وجالت بعينيها على اللوحات المعلقة على الجدران لكي لا تنظر في عيون الناس من
حولها. لكن سرعان ما تغلّب فضولها على خجلها،
فما إن توجهت نظرتها نحو قاعة الاجتماعات، حتى رأته ينظر إليها.
كان
يرتدي قميصاً كاكي اللون وبنطالاً قصيراً داكناً، وبدا لها أنه لم يحلق ذقنه منذ
يومين، مما جعله جذّاباً، وقد تهدل شعره الكستنائي المجعّد فوق عينيه الخضراوين،
فمنحه قدراً من الثقة والمكر في الآن ذاته.
كان نحيلاً وطويلاً، خفيفاً ورقيقاً، كان مختلفاً تماماً عن ديفيد الذي
يرتدي عادة بدلات غالية الثمن تُفصَّل له خصيصاً.
كلن يتكلّم بلكنة إسكتلندية رأت فيها سحراً، ويبتسم برقة وسهولة، وبدا
سعيداً لرؤيتها. قالت إيلا لنفسها ما
الضير في احتساء فنجان قهوة معه.
ثم
لم تعد تتذكّر كيف أصبح فنجان القهوة عدة فناجين، أو كيف بدأ الحديث بينهما يكتسب
نبرة حميمية، أو كيف أنه، في لحظة ما، طبع قبلة على طرف إصبعها، ولم تعرف لماذا لم
تفعل شيئاً لتوقفه عن عمل ذلك. لم تعد
تبالي بشيء ما دام يتكلم هو، وما داومت عيناها تستطيعان أن تركزا على الغمازة
الصغيرة القابعة في طرف فمه، وتساءلت كيف سيكون شعورها إذا قبّلته فوق تلك
الغمازة. كانت الساعة العاشرة والنصف
ليلاً. وكانت في فندق برفقة رجل لا تعرف
عنه شيئاً، لا تجمعهما إلا بعض الرسائل الإلكترونية والمكالمات الهاتفية
المتبادلة، بالإضافة إلى الرواية التي كتبها.
سألته
إيلا: "إذاً أتيت إلى هنا من أجل مجلة سميثونيان؟".
فأجاب
عزيز: "في الحقيقة، لقد أتيت كرمى لك.
فبعد أن قرأت رسالتك، أردت أن آتي لرؤيتك".
كانت
هناك سبل عدة ممكنة للخروج من هذا الطريق السريع الذي يتحرك بسرعة. فحتى لحظة
معيّنة، كان من الممكن الادّعاء بأن كلّ
شيء يسير على نحو ودّي، الرسائل الإلكترونية، المكالمات الهاتفية، بل حتى النظرات. لعل روحاً من الغزل والمزح كانت تتملكها، لكن
لا شيء أكثر من ذلك. كان بوسعها أن تضع
حداً، حتى سألها: "إيلا، هل تريدين أن تأتي إلى غرفتي؟".
إن
كانت تلك لعبة يلعبانها كلاهما، فسرعان ما تحولت إلى أمر جدّي. فقد جعل سؤاله هذا كلّ شيء يبدو حقيقياً، كأن
ستارة قد أزيحت، وظهرت الحقيقة، الحقيقة الناصعة، وأخذت تنظر إليهما الآن في
عينيهما مباشرة. أحست إيلا بشيء يتحرك في
معدتها،
إحساس بضيق شديد يشبه الرعب، لكنها لم
ترفضه. كان هذا القرار من أشدّ القرارات
التي اتخذتها في حياتها تهوراً، ومع ذلك، فقد أحسّت كأن القرار قد اتّخذ بالنيابة
عنها، وكان كلّ ما عليها هو أن تقبله.
***
كانت
الغرفة 608 مزدانة بصورة جميلة ملوّة بالأسود والأحمر والرمادي والبيج. كانت دافئة وواسعة. حاولت إيلا أن تستعيد إلى ذاكرتها آخر مرة مكثت
فيها في فندق، فتذكرت الرحلة التي قامت بها مع زوجها وأطفالها إلى مونتريال منذ
فترة طويلة. ثم أمضوا العطلة في بيتهم في
رود آيلاند، لأنها لم تكن ترى سبباً للبقاء في مكان يقوم آخرون فيه بتغيير المناشف
وتقديم الفطور الجاهز يومياً. إذ إن
وجودها في غرفة فندق يشبه وجودها في بلد آخر، وربما كان الأمر كذلك. وبدأت تشعر بالحرية التي يستمتع بها المرء
عندما يحلّ بمدينة يكون فيها غريباً تماماً.
ما
إن دخلت الغرفة، حتى اعتراها ثانية الشعور بالتوتر. بعلى الرغم من ديكور الغرفة الجميل واتساعها،
والسرير الواسع القابع في وسط الغرفة، فإن وقوفها بجانب السرير جعلها تشعر بشيء من
الحرج والذنب. احتدمت في داخلها أسئلة
كثيرة، لكنها لم تتوصل إلى جواب شاف. هل
سيمارسان الجنس الآن؟ هل ينبغي لهما أن
يفعلا ذلك؟ وإذا فعلا ذلك، فكيف يمكنها أن
تنظر في عيني زوجها بعدئذ؟ لكن ديفيد لم
يكن يجد صعوبة في النظر في عينيها على الرغم من علاقاته الغرامية المتعددة، أليس
كذلك؟ وماذا سيكون رأي عزيز
بجسمها؟ ماذا لو لم يعجبه؟ ألا ينبغي لها أن تفكر بأطفالها الآن؟ هل هم نائمون أم مستيقظون يشاهدون التلفزيون في
هذه الساعة؟ وإذا علموا بما ستفعله، فهل
يستغفرون لها؟
أحسّ
عزيز بقلقها، فأمسك يدها وقادها نحو كرسي عريض ذي مسند يقبع في الزاوية، بعيداً عن
السرير.
وهمس
قائلاً: "اصمتي. إن عقلك يعجّ
بالأفكار. وتتعالى فيه أصوات كثيرة".
"ليتنا
التقينا منذ فترة مكبرة"، سمعت إيلا نفسها تقول.
فقال
عزيز: "ليس في الحياة شيء يدعى فترة مبكرة أو متأخرة، فكلّ شيء يحدث في
حينه".
"هل
تظن ذلك حقاً؟".
ابتسم
عزيز وأبعد خصلة من شعره عن عينيه، ثمّ فتح حقيبة وأخرج منها البساط الذي اشتراه
من غواتيمالا وعلبة صغيرة فيها قلادة فضية مرصّعة بخرز الفيروز والمرجان الأحمر
نقشت عليها صورة درويش يدور حول نفسه.
تركته
إيلا يضع القلادة حول رقبتها، وأحست بدفء يسري في البقعة التي لمستها أصابعه،
وسألته: "هل أبدو كما كنت تتوقع؟".
"لقد
أحببتك"، قال عزيز مبتسماً.
"لكنك
لا تعرفني بعد".
"ليس
من الضروري أن أعرف حتى أحبّ".
تنهّدت
إيلا وقالت: "هذا جنون".
مدّ
عزيز يده وأزال الدبّوس الذي يمسك شعرها في شكل كعكة،
فانفلت مفترشاً كتفيها. ثمّ قادها برفق نحو السرير. وببطء، وبرقة، راح يحرك راحتيَ يديه في دوائر
متواصلة ومتتابعة، من قدميها حتى كاحليها، ومن جبينها حتى بطنها، ولم تتوقف شفتاه
عن الهمس بكلمات بدت لإيلا مثل شيفرة قديمة سرية.
فجأة فهمت ما يفعله. فقد كان يبتهل
ويداه تجوسان كلّ بقعة من جسمها، وظلت عيناه مغمضتين، وشفتاه تدمدمان بصلوات من
أجلها. كانت تلك أعظم تجربة روحية خبرتها
في حياتها. وعلى الرغم من أنها كانت لا
تزال ترتدي ثيابها، وهو كذلك، وعلى الرغم من أنه لم يكن بينهما أي شيء جسدي، فقد
غمرتها أشدّ المشاعر جنسية في حياتها.
وفجأة
بدأت تشعر بوخز خفيف يسري في راحتيها وكتفيها، ثم أخذت تسري في كامل جسدها ويبعث
فيه طاقة غريبة. اعترتها رغبة لذيذة فشعرت
بأنها تعوم فوق مياه متموّجه دافئة وكان كلّ ما بوسعها فعله هو الاستسلام
والابتسام، وأحسّت بوجود شيء حيّ حوله، ثمّ حولها، كأن رذاذاً من النور قد انهمر
عليهما وغمرهما.
أغمضت
إيلا عينيها أيضاً، وتركت نفسها تنجرف مع تيار نهر هائج من أن تتمسّك بشيء. فقد يكون هناك شلال في النهاية، لكنها حتى لو
تمكنت من أن تتوقّف، فلم تكن واثقة من أنها كانت تريد ذلك حقاً.
شعرت
إيلا بلهيب يستعر بين ساقيها عندما وصلت يداه إلى بطنها وراح يرسم فوقها
دائرة. أحسّت بعدم الأمان إزاء جسدها،
ردفاها وفخذاها وثدياها، الذي فقد جماله وجاذبيته بعد إنجاب ثلاثة أطفال، وبعد
مرور كلّ هذه السنوات، لكن إحساسها بالقلق هذا، كان يخفت
ويشتد.
غمرها شعور بالبهجة، شعور بأنها محمية، ثم انجرفت إلى حالة من النعيم. عندها أدركت أنها قد تحبّ هذا الرجل، قد تغرم
به.
بهذا
الإحساس طوقت عزيز بذراعيها، وشدّته نحوها، وأحسّت بأنها على استعداد للمضي أبعد
من ذلك. لكنه فتح عينيه، وقبّلها على أرنبة
أنفها، وابتعد عنها.
"إنك
لا ترغب بي؟"، سألته إيلا، مندهشة لهشاشة صوتها.
"لا
أريد أن أفعل شيئاً يجعلك حزينة في ما بعد".
كان
نصف جسدها حزيناً، والنصف الآخر مبتهجاً.
غمرها إحساس غريب بالخفّة. كانت
شديدة الاضطراب، لكن لمفاجأتها، أحست بالارتياح.
في
الساعة الواحدة والنصف صباحاً، فتحت إيلا باب شقّتها في بوسطن. استلقت على الأريكة الجلدية، غير راغبة في
النوم في السرير. لا لأنها تعرف أن زوجها
كان ينام فيه مع نساء أخريات، بل لأنها شعرت بأن من الأفضل لها أن تفعل ذلك، كأن
هذا البيت لم يعد يخصها ولم يعد أكثر من غرفة في فندق، كما لو كانت زائرة هنا، في
حين أن نفسها الحقيقية كانت تنتظر في مكان آخر.
شمس
قونية، أيار (مايو) 1247
لا
تبكي يا عروستي الجميلة،
ودّعي
أمّك، ودّعي أباك
ستسمعين
الطيور تغرّد غداً
مع
أنها لن تكون هي نفسها . . . .
في
ليلة زفافنا، انسللت وخرجت إلى الفناء، وجلست هناك قليلاً، أستمع إلى أغنية
أناضولية قديمة تنبعث من البيت وسط أصوات أخرى، أصوات ضحكات وموسيقى وثرثرة. كانت العازفات تعزفن في قسم الحرملك. وقفت هناك أفكّر وأنشد، وسرى في جسدي خدر. تمعّنت في كلمات الأغنية. لماذا تغني النساء دائماً أغاني حزينة في ليلة
الزفاف؟ إذ يربط الصوفيون الموت بحفلات الزفاف، ويحتفلون باليوم الذي يموتون فيه،
ويعتبرون أنه اليوم الذي يتّحدون فيه مع الله.
كما تربط النساء الزفاف بالموت، لكن لأسباب مختلفة تماماً. فحتى عندما يكن سعيدات بعقد قرانهن، تنتابهن
مسحة من الحزن. ففي كلّ حفلة زفاف، يسود
حزن على العذراء التي سرعان ما ستصبح قريباً زوجة وأمّاً.
بعد
أن غادر جميع المدعوين، عدت إلى البيت وجلست في ركن هادئ وبدأت أتأمّل، ثمّ توجهت
إلى الغرفة حيث تنتظري كيميا. كانت جالسة
على السرير، مرتدية عباءة بيضاء موشّاة بخيوط ذهبية، وكان شعرها مضفوراً في ضفائر
عدة، زيّنت كلاً منها بعدد من الخرزات. لم
أتمكن من رؤية قسمات وجهها لأنه كان مغطى بنسيج حريري أحمر سميك. كانت تنتصب شمعة بجانب النافذة، تضيء
الغرفة. وكانت تغطي المرآة المعلقة على
الحائط بقماش مخملي، لأن ثمة اعتقاداً يقول إن رؤية العروس الشابة صورتها المنعكسة
في المرآة فأل سيئ. وبجانب سريرنا، كانت
هناك رمانة وسكين، لكي تأكل الرمانة ونجلب أطفالاً بعدد الحبات فيها.
كانت
كيرا قد حدثتني عن جميع التقاليد المحليّة، وذكّرتني بأن أقدم للعروس قلادة من قطع
نقدية ذهبية عندما أرفع حجابها، لكني لم أملك في حياتي نقوداً ذهبية، ولم أشأ أنا
أحيّي عروسي بتقديم نقود ذهبية أستدينها من شخص آخر. لذلك عندما رفعتُ الحجاب عن وجه كيميا، كان كلّ
ما فعلته هو أني قدمتُ لها مشطاً مصنوعاً من قوقعة سلحفاة، وطبعت قبلة صغيرة على شفتيها. افترّت شفتاها عن ابتسامة، ولثانية اعتراني
شعور بالخجل مثل فتى صغير ضائع.
قلت
لها: "إنك جميلة".
تضرّج
وجهها خجلاً، ثمّ أرخت كتفيها، وبذلت ما بوسعها لتبدو أكثر هدوءاً ونضجاً.
"قالت:
أنا زوجتك الآن".
ثمّ
أشارت نحو السجادة الجميلة المدودة على الأرض، التي صنعته بدقة شديدة كجزء من مهرها. ألوان براقة، تتفاوت في شدتها. ما إن رأيتها حتى عرفت أنّ كلّ شكل ورسم في
السجادة يمثّلني. كانت كيميا تنسج
أحلامها.
قبّلتها
ثانية. دفء شفتيها بعث موجات من الرغبة في
أنحاء جسمي، وتضوّعت منها رائحة ياسمين وأزهار برية. وعندما تمددت إلى جانبها، تنشّقت رائحتها،
ولمست ثدييها الصغيرتين الصلبين. كان كلّ
ما أريد فعله هو أن ألجها. وقدمت لي نفسها
مثل برعم وردة تفتح لاستقبال حبات المطر.
انسللت
مبتعداً عنها، وقلت: "أنا آسف يا كيميا.
لا أستطيع فعل ذلك".
نظرت
إليّ، بهدوء وذهول، وبدت كأنها نسيت أن تتنفّس.
كان الإحباط البادي في عينيها شديداً إلى حد أني لم أتمكن من تحمّله. وثبت واقفاً، وقلت: "يجب أن أذهب".
"لا
يمكنك أن تذهب الآن"، قالت كيميا بصوت بدا غريباً عليها، "ماذا سيقول
الناس إن غادرت الغرفة الآن؟ سيعرفون أن هذا
الزواج لم يكتمل، وسيخيّل إليهم أنني أنا السبب".
"ماذا
تقصدين؟"، همهمت، لأنني أعرف ما تقصده.
أشاحت
ببصرها، ودمدمت شيئاً لم أفهمه، ثم قالت بهدوء: "سيظنون أني لست عذراء،
وسأمضي حياتي في الخزي والعار".
إن
فكرة فرض المجتمع هذه القواعد السخيفة على أبنائه جعلت دمي يغلي، إذ لا تتماشى
قواعد الشرف التي فرضها الله مع القواعد التي فرضها البشر على أنفسهم.
"هذا
هراء. يجب أن يهتم الناس بشؤونهم"،
قلت معترضاً، لكنني كنت أعرف أن كيميا على حقّ.
وبحركة
سريعة، أمسكت السكين الملقاة بجانب الرمانة.
رأيت مسحة من الرعب على وجه كيميا، ثم حلّت محلها، شيئاً فشيئاً، تعابير
شخص أدرك وجود أمر حزين وتقبله، وبلا تردد جرحت راحة يدي اليسرى، فسقطت قطرات من
دمي على ملاءة السرير، وخلّفت بقعاً قرمزية داكنة.
"أريهم
هذه الملاءة – فإنها ستغلق أفواههم، وسيظل اسمك نقياَ نظيفاً، كما هو في
الحقيقة".
"انتظر
أرجوك! لا تذهب أرجوك"، قالت كيميا متوسلة.
نهضت، ولم تعرف ما الخطوة التالية التي ستفعلها، وكرّرت قائلة: "لقد
أصبحت زوجتم الآن".
في
تلك اللحظة أدركت الخطأ الفظيع الذي ارتكبته بزواجي منها. وعصف ألم شديد في رأسي، فخرجت من الغرفة إلى عتمة
الليل. لم يكن يتعين على رجل مثلي أن يتزوج، فأنا لم أخلق لأعيش حياة مستقرة. كنت أرى ذلك بوضوح شديد، لكن ما أحزنني كثيراً
هو ثمن هذه المعرفة.
اعترتني
رغبة شديدة في الهرب من كلّ شيء. لا من
هذا البيت، ولا من هذا الزواج، ولا من هذه البلدة فقط، بل من هذا الجسد الذي مُنحت
إياه أيضاً. لكن رؤية الرومي في صباح
اليوم التالي جعلتني أبقى لأنه لم يكن بإمكاني أن أهجره مرة أخرى.
لقد
وقعت في شباك المصيدة.
علاء الدين
قونية، أيار (مايو) 1247
بعد
أن اضطررت لاتخاذ قرار كنت أعرف أنني سأندم عليه أشد الندم، لبثت صامتاً، ولم
أعترض على هذا الزواج علناً. لكن في يوم
عقد قران كيميا على شمس، استيقظت وقد ألمّ برأسي وجع لم أعهده من قبل. فاستويت جالساً في السرير ورحت أتنفس بصعوبة
مثل رجل يغرق، ولطمت خدي لانغماسي في رثاء ذاتي.
وتسللت تنهيدة مخنوقة من بين شفتيّ.
كان ذلك الصوت هو الذي جعلني أدرك أنني لم أعد ابن أبي.
فليس
لي أمّ، ولا أب ، ولا أخ، ولا حتى كيميا.
أصبحت وحيداً في هذا العالم، وبين ليلة وضحاها، تلاشى كلّ ما تبقى من
احترام كنت أكنّه لأبي. فقد كانت كيميا في
مقام ابنته، وكنت أخال أنه كان يحيطها بعنايته ويغمرها باهتمامه، لكن يبدو أن
الشخص الوحيد الذي كان يغمرها باهتمامه حقاً هو شمس التبريزي. فكيف يقبل أن يزوّج كينيا من رجل مثله؟ لأن أي
شخص يستطيع أن يرى أن شمساً لا يصلح للزواج.
وكلما فكّرت في الأمر، تبيّن لي أن أبي ضحّى بسعادة كيميا – ومعها بسعادتي،
حتى يجعل شمس يشعر بالأمان.
أمضيت
طوال اليوم وأنا أصارع هذه الأفكار مرغماً على رؤية التحضيرات الجارية أمامي. فقد نُظِّف البيت وأصبح براقاً، وغُسلت غرفة
النوم التي سينام فيها العروسان بماء الورد لطرد الأرواح الشريرة. لكنهم نسوا الشيطان الأكبر! فكيف سيتمكّنون من طرد شمس؟
بعد
الظهر، لم أعد أقوى على احتمال ذلك، فقرّرت ألاّ أكون جزءاً من هذا الاحتفال الذي
يعني عذاباً حقيقياً لي، فتوجّهت نحو الباب.
"علاء
الدين، انتظر! إلى أين أنت ذاهب؟"، لاحقني صوت أخي من خلقي، عالياً وحاداً.
"سأمكث
في بيت إرشاد هذه الليلة"، قلت مشيحاً بوجهي عنه.
"هل
جننت؟ ألن تمكث لحضور حفل الزفاف؟ لو سمع
أبوك ذلك لتحكم قلبه".
أحسست
بغضب شديد يندلع من معدتي، وقلت: "وماذا عن القلوب التي يحطّمها".
"عمَّ
تتحدّث؟".
"ألم
تعرف؟ فقد رتّب أبونا هذا الزواج لإرضاء شمس لكي لا يهرب ثانية! فقد قدم له كيميا
على طبق من فضة".
زمّ
أخي شفتيه، وبدا أن ذلك قد جرح مشاعره، وقال: "أعرف بماذا تفكر، لكنك
مخطئ. إنك تظن أن هذا الزواج قد تم
بالإكراه، بينما الحقيقة هي أن كيميا هي التي كانت تريد الزواج من شمس".
"وكأن
الأمر في يدها"، قلت غاضباً.
"يا
إلهي! ألا تفهم؟" صاح أخي، ورفع راحتيه إلى السماء كما لو كان يطلب مساعدة من
الله، ثم قال: "إنها تحبّ شمس".
"لا
تقل ذلك مرة أخرى. لأن هذا غير
صحيح"، تكسّر صوتي مثل ثلج يذوب.
فقال
سلطان ولد: "يا أخي، أرجوك لا تدع مشاعرك تعميك عن رؤية الواقع. إنك تغار منه، لكن حتى الغيرة يمكننا استغلالها
بطريقة بناءة وبخدمة هدف سام. وقد يكون
عدم التصديق إيجابياً أحياناً، وهذه إحدى القواعد، وهي القاعدة الخامسة والثلاثون:
في هذا العالم، ليست الأشياء المتشابهة أو المنتظمة، بل المتناقضات الصارخة، هي ما
يجعلنا نتقدم خطوة إلى الأمام. ففي داخل
كل منا توجد جميع المتناقضات في الكون، لذلك يجب على المؤمن أن يلتقي بالكافر
القابع في داخله، وعلى الشخص الكافر أن يتعرف على المؤمن الصامت في داخله. وإلى أن نصل إلى اليوم الذي يبلغ فيه المرء
مرحلة الكمال، مرحلة الإنسان المثالي، فإن الإيمان ليس إلا عملية تدريجية، ويستلزم
وجود نظيره: الكفر.
كانت
هذه بمثابة القشّة الأخيرة بالنسبة لي.
"انظر،
لقد سئمت من هذا الكلام الصوفي المعسول.
بالإضافة إلى ذلك، ما الذي يجعلني أنصت إليك؟ إنه خطأك!
كان عليك أن تترك شمس في دمشق.
لماذا أحضرته؟ فإذا ساءت الأمور،
وإني واثق من أنها ستزداد سوءاً، فستكون أنت المسؤول".
أطلق
أخي زفرة، ورماني بنظرة تقارب الخوف. في
تلك اللحظة أدركت للمرة الأولى في حياتنا، أنه يخشاني، ويخشى الأشياء التي أقدر
على القيام بها. كان شعوراً غريباً، لكنه
مريح على نحو غريب.
سرت
بصوت بيت إرشاد، وسلكت أزقة فرعية تفوح منها روائح
كريهة حتى لا يراني أحد وأنا أبكي. وكان الشيء الوحيد الذي يدور في خلدي هو أن
شمساً وكيميا نائمان في سرير واحد. وأثارت
الفكرة بأنه ينزع عنها فستان الزفاف، ويلمس بشرتها الحليبية بيديه الفظتين
القبيحتين، اشمئزازي. وانقبضت معدتي.
كنت
أعرف أن خطأ قد تم تجاوزه، وعلى أحدهم أن يفعل شيئاً.
كيميا
قونية، كانون الأول (ديسمبر) 1247
العروس
والعريس – كان يفترض بنا أن نكون عروسين.
لقد مضى على زواجنا نحو سبعة أشهر، لم ينم فيها معي كزوج ولا مرة
واحدة. وعلى الرغم من الجهد الذي بذلته
لإخفاء الحقيقة عن الآخرين، كنت اظن أنهم يعرفون ذلك. وكنت أخشى أحياناً أن يكون إحساسي بالخجل
بادياً على وجهي، كما لو كان مكتوباً على جبيني، لأنه لا بد أنه أول شيء يلاحظه
المرء عندما ينظر إليّ. عندما كنت أتحدّث
مع جاراتي، أو عندما أعمل في البساتين، أو أقايض السلع مع الباعة في السوق، لا
يحتاج الآخرون، حتى الغرباء منهم، إلا نظرة واحدة ليروا أنني امرأة متزوجة، لكنني
لا أزال عذراء.
ليس
صحيحاً أن شمساً لم يكن يزورني في غرفتي.
وكان فل كلّ مرة، يريد أن يأتي لزيارتي في المساء، كان يستأذنني ليعرف هل
لديّ مانع، وكنت أردّ عليه في كلّ مرة، الردّ نفسه، "طبعاً تستطيع ذلك، فأنت
زوجي".
وكنت
أنتظره طوال اليوم بفارغ الصبر، راجية من الله أن يكتمل
زواجنا في هذه الزيارة. لكن ما إن كان يقرع باب غرفتي، حتى أتبين أن
كلّ ما يريد أن يفعله هو أن يجلس ويتحدث إليّ.
وكان يجد متعة كبيرة عندما نقرأ معاً.
فقد قرأنا قيس وليلى، وفرهاد وشيرين، ويوسف وزليخا، والوردة والعندليب –
وقصص أشخاص عشقوا بعضهم بعضاً على الرغم من المشاق التي كابدوها. وعلى الرغم من قوة الشخصيات الرئيسية في هذه
القصص، كانت تجعلني أشعر بالكآبة، ربما لأنني كنت أعرف في أعماقي أني لن أعرف طعم
الحبّ مثلهم.
وعندما
لم نكن نقرأ قصصاً، كان شمس يتحدّث عن القواعد الأربعين للصوفيين المتجوّلين
المسلمين – المبادئ الأساسية لدين العشق.
وفي
إحدى المرات أرخى رأسه على حضني وهو يفسّر لي إحدى تلك القواعد. وأغمض عينيه ببطء، وبينما انخفض صوته ليصبح
همساً، بشفتيّ، وبدا أن دهراً قد انقضى قبل أن يفتح عينيه، فشدّني إليه، وقبّلني
برقة. كانت أروع وأسعد لحظة أمضيناها
معاً. لكن كان هذا كلّ شيء، وحتى يومنا
هذا لا يزال جسمه بالنسبة لي مثل قارة مجهولة، كما هو جسدي بالنسبة له.
وخلال
الأشهر السبعة تلك، ذهبت أنا أيضاً إلى غرفته عدّة مرات. وفي كلّ مرة أباغته
بزيارتي، كان قلبي ينقبض قلقاً، لأنني لم أكن أعرف كيف سيستقبلني. إذ يستحيل التنبؤ بمزاج شمس المتقلّب. إذ يكون دافئاً ومحباً أحياناً فأنسى جميع
أحزاني، وقد يكون فظاً أحياناً أخرى.
وفي إحدى المرات، صفق باب غرفته في وجهي، وصاح بأنه يريد أن يبقى
وحده، وقد تعلمت ألاّ أشعر بالإهانة، كما
تعلمت ألاّ أضايقه، عندما يكون مستغرقاً في تأملاته.
وبعد
مضي شهور على زفافنا، بدأت أتظاهر بأنني راضية، ربما مع الآخرين، أكثر مما كنت أتظاهر
مع نفسي. وأرغمت نفسي على ألاّ أعتبر
شمساً زوجاً ، بل صديقاً، خليلاً، سيّداً، رفيقاً، بل حتى ابناً، كانت نظرتي إليه بهذه الطريقة تعتمد على اليوم
الذي نلتقي فيه، وعلى مزاجه، وكنت ألبسه دائماً ثوباً مختلفاً في مخيلتي.
نجحت
في ذلك لفترة من الوقت، ومن دون توقّعات كثيرة، بدأت أترقب الأحاديث التي تدور
بيننا. وكنت أشعر بالسعادة عندما يكون
يقدّر أفكاري، ويشجّعني على توسيع مداركي.
تعلّمت منه أموراً كثيرة، ومع مرور الوقت، أدركت أنني أستطيع أن أعلّمه
أموراً أخرى مثل متعة الحياة الأسرية التي لم يذق طعمها من قبل. وحتى يومنا هذا، كان باستطاعتي أن أضحكه كما لم
يستطع أحد.
لكن
ذلك لم يكن كافياً، فمهما فعلت، لم أتمكن من التخلص من فكرة أنه لا يحبّني. مع أنني كنت واثقة من أنه لم يكن يودني ولم يكن
يقصد الإساءة إليّ، لكن ذلك لم يكن شيئاً قريباً من الحبّ. كانت تلك الفكرة مروعة
إلى حد أنها بدأت تنهشني من داخلي، وتنهش جسمي وروحي، فابتعدت عن جميع من حولي،
الصديقات والجارات، وأصبحت أفضّل المكوث في غرفتي والتحدّث مع الموتى. لأن الموتى، بخلاف الأحياء، لا يطلقون عليك
أحكاماً.
باستثناء
الموتى، كانت وردة الصحراء صديقتي الوحيدة.
فقد
كانت توحّدنا الرغبة في أن نبتعد عن عيون الآخرين، وأصبحنا صديقتين حميمتين، بعد
أن أصبحت صوفية، وبدأت تعيش حياة منعزلة، بعد أن غادرت المبغى. وذات يوم قلت لها إنني أحسدها على شجاعتها وعلى
تصميمها على بدء حياة جديدة.
فهزّت
رأسها، وقالت: "لكنني لم أبدأ حياة جديدة.
فالشيء الوحيد الذي فعلته هو أنني مت قبل أن يأتيني الموت".
***
ذهبت
اليوم لزيارة وردة الصحراء لسبب مختلف تماماً، فقد قررت أن أحافظ على رباطة جأشي،
وأن أحدثها بهدوء، لكن ما إن دخلت إليها، حتى أجهشت في البكاء.
سألتني:
"كيميا، هل أنتِ على ما يرام؟".
فقلت:
"أشعر بشيء من التوعك"، أظن أنني بحاجة إلى مساعدتك".
فقالت:
"بالتأكيد . بماذا يمكنني مساعدتك؟".
"إن
الأمر يتعلق بشمس . . . إنه لا يقربني . . .
أقصد، ليس بتلك الطريقة"، تأتأتُ في وسط كلامي، لكني أنهيت جملتي
بقولي: "أريد أن أجعل نفسي جذّابة له، أريدك أن تعلّميني كيف أفعل ذلك".
أطلقت
وردة الصحراء تنهيدة، وقالت: "لقد أقسمت يا كيميا"، وبدت في صوتها نبرة
مرهقة، "فقد وعدت الله أن أظل نقيّة، وألاّ أفكّر بالسبل التي تمنح فيها
المرأة متعة للرجل".
"لكنك
لن تحنثي بقسمك، لإنك ستساعدني فقط"، قلت متوسلة، "يجب أن أتعلّم كيف
أدخل السعادة إلى قلب شمس".
فقالت
وردة الصحراء: "إن شمساً رجل متنوّر"، وقد خفضت صوتها قليلاً، كما لو
كانت تخشى أن يسمعها أحد، وأضافت: "لا أظن أن هذه الطريقة الصحيحة للتقرّب
منه".
فقلت
لها: "لكنه رجل، أليس كذلك؟ أليس الرجال جميعاً أبناء آدم ويتعلّقون
بالجسد؟ سواء أكانوا متنوّرين أم لا، فقد
مُنح الجميع الجسد. حتى شمس يملك جسداً،
أليس كذلك؟".
"نعم،
لكن . . ."، قالت وردة الصحراء وأمسكت مسبحتها وراحت تسبّح بها، خرزة خرزة،
وأطرقت برأسها متأملة.
"أرجوك"،
قلت متوسلة، "أنت الشخص الوحيد الذي يمكنني أن أفضي إليه بأسراري وأبوح له
مكنونات صدري. لقد مضى على زواجنا سبعة
أشهر، أستيقظ صباح كلّ يوم وأنا أشعر بنفس الثقل في صدري، وأنام كلّ ليلة وأنا
أبكي. لا يمكن أن تستمر الأمور على هذا
المنوال، يجب أن أتعلّم كيف يمكنني أن أغوي زوجي".
لم
تنبس وردة الصحراء بكلمة. خلعت وشاحي،
وأمسكت رأسها، وجعلتها تنظر إليّ، وقلت: "أصدقيني القول، هل أنا قبيحة إلى
هذه الدرجة؟".
"طبعاً
لا يا كيميا. إنك شابة جميلة".
"إذاً
ساعديني. علّميني كيف أتمكّن من ولوج قلب الرجل"، قلت بإلحاح.
إن
الطريق إلى قلب الرجل قد يجرف المرأة بعيداً عن نفسها أحياناً يا عزيزتي"،
قالت وردة الصحراء بيأس.
فقلت:
"لا يهمني، فأنا مستعدة للذهاب إلى أبعد حدّ".
وردة الصحراء
قونية، كانون الأول (ديسمبر) 1247
ظلت
تتوسل إليّ وهي تجهش في البكاء لمساعدتها، وقد تورّم وجهها، وأخذ صدرها يعلو ويهبط
بقوة وبسرعة، حتى وافقت أخيراً على مساعدتها.
وبالرغم من أنني استطعت أن أهدئ من روعها، كنت أعرف في أعماقي أن لا فائدة
ترجى من كلّ ذلك، وكنت أعرف أنه كان عليّ أن استسلم لرغبتها. وتساءلت كيف لم أتوقع حدوث هذه المأساة؟ ومزقني
الإحساس بالذنب، وتساءلت كم كنت ساذجة ولم أكن أتصور أن الأمور ستأخذ هذا المنعطف
الفظيع؟
لكن
عندما جاءت إليّ وطلبت مساعدتي، لم أتمكن من رفض طلبها.
"علّميني،
أرجوك"، قالت متوسلة، عاقدة يديها فوق حضنها بحشمة ورزانة، كأي فتاة مهذبة،
وكان في صوتها نبرة تشي بأنه لم يعد ثمة سبب يدعوها للتفاؤل.
ما
الضير في ذلك؟ قلت لنفسي بينما كان قلبي يرتجف شفقة عليها، لأنها تريد أن تصبح
جذابة في عيني زوجها، لا في عينيْ شخص غريب! وكان دافعها الوحيد الحبّ، لذلك لا
عيب في عمل ذلك، فقد تكون عواطفها لاهبة، لكن بالحلال لا بالحرام، أليس كذلك؟
مشاعر حبّ بالحلال.
شيء
في داخلي أشعرني بوجود فخّ، لكن بما أن الله هو الذي خلق فينا هذه العاطفة، فلم
أجد ضيراً في مساعدة كيميا، هذه الفتاة القروية البسيطة التي تنحصر فكرتها عن
الجمال في تزيين يديها بالحنّاء.
علّمتها
كيف تجعل نفسها جذابة وجميلة. كانت تلميذة
نجيبة، متلهّفة إلى التعلّم. وأريتها كيف
تأخذ حمّاماً معطّراً طويلاً، وكيف يمكنها أن تطرّي بشرتها بالزيوت والمراهم
المعطّرة، وكيف تصنع قناعاً من الحليب والعسل. وأعطيتها حبات من خرز الكهرمان
لتضفر شعرها بها حتى تفوح من شعرها رائحة جميلة دائمة: الخزامى، والبابونج، وإكليل
الجبل، والزعتر، والزنبق، والسمسق، وزيت الزيتون – وعلّمتها كيف تستخدم كل واحدة
منها، وأي نوع من البخور يجب أن تحرقه في الليل، ثمّ أريتها كيف تبيّض أسنانها،
وتصبغ أظافر يديها وقدميها بالحنّاء، وكيف تكحّل عينيها وتزجج حاجبيها، وكيف تحمّر
شفتيها وخدّيها، وكيف تجعل شعرها يبدو جميلاً وحريري الملمس ، وكيف تجعل ثدييها
يبدوان أكبر حجماً وأكثر استدارة. وذهبنا
معاً إلى دكان في السوق كنت أرتاده في الماضي.
واشترينا لها أثواباً من الحرير، وألبسة تحتية حريرية، أشياء لم ترها أو
تلمسها في حياتها قط.
ثمّ
علّمتها كيف ترقص أمام زوجها، وكيف تستخدم هذا الجسد الذي حباها الله به. وبعد
أسبوعين من تعليمها، أصبحت جاهزة.
في
عصر ذلك اليوم، أعددت كيميا لشمس التبريزي، كما يعدّ الراعي حملاً لذبحه. في البداية،
أخذت حمّاماً دافئاً، وفركت بشرتها بالصابون بقطعة من القماش، ودهنتْ شعرها
بالزيوت، ثمّ ساعدتها في ارتداء ثياب لا ترتديها المرأة إلا لزوجها. ثم اخترت لها غلالة بلون الكرز، وعباءة وردية
موشّاة بأزهار ياقوتية مذهّبة، من النوع الذي يبرز تكويرة ثدييها. وأخيراً زيّنت وجهها بطبقة من الطلاء، وأضاف
عقد من اللؤلؤ وضعته حول جبهتها، لمسة أخيرة، وبدت في غاية الجمال حتى إنني لم
أتمكن من إبعاد عيني عنها.
عندما
انتهينا، لم تعد كيميا تلك الفتاة الخجولة العديمة الخبرة، بل امرأة تضطرم حبّاً
وشوقاً، امرأة مستعدة للإقدام على أي عمل جرئ تجاه الرجل الذي تجبّه، وإذا دعت
الضرورة، أن تدفع ثمن ذلك. وبينما وقفت
أتفصحها، خطرت لي السورة التي تتحدث عن يوسف وزليخا في القرآن الكريم.
ومثل
كيميا، تملكت زليخا أيضاّ رغبة جامحة تجاه رجل لم يستجب لحبها. ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ
فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ َرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّوَأَعْتَدَتْ
لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾.
من يستطيع أن يلوم زليخا على
شدة رغبتها بيوسف؟ "كيف أبدو؟"،
سألتني كيميا بقلق قبل أن تضع حجابها، قبل أن تذهب.
فقلت: "تبدين رائعة، فلن
يضاجعك زوجك هذه الليلة فقط، بل سيفعل ذلك غداً، ويطلب منك المزيد".
تضرّج
وجه كيميا خجلاً، واحمرّت وجنتاها. ضحكتُ،
ثم شاركتني في ضحكتها التي أدفأتني مثل شمس مشرقة.
كنت
جادة في ما أقول، لأني كنت واثقة من أنها ستجذب شمساً، كما تجذب زهرة مفعمة
بالرحيق نحلة. وعندما التقت عيوننا قبل أن
تفتح الباب، رأيت مسحة من الشكّ تزحف إلى نظرتها، وفجأة أحسست بتلبك في معدتي،
لعله كان هاجساً بأن شيئاً فظيعاً سيحدث.
لكني
لم أوقفها. كان حرياً أن أعرف ما
سيحدث. كان يجب أن أتوقع حدوث ذلك، ولن
أغفر لنفسي طوال حياتي.
كيميا
قونية، كانون الأول (ديسمبر) 1247
كان
شمس التبريزي، الجريء، الذكي، المفعم بالحيوية، يعرف الكثير عن الحبّ، لكن الشيء
الذي لم يكن يعرفه هو: ألم الحبّ غير المتبادل.
ففي مساء اليوم الذي زينتني فيه وردة الصحراء، كنت أضجّ بالإثارة والجرأة
لم أكن أتصوّر أنهما في داخلي. فقد جعلني
حفيف الرداء الحريري الناعم على جسدي، ورائحة العطر التي تتضوع مني، وطعم بتلات
الورد على لساني، أبدو امرأة خرقاء، لكنها جعلتني كذلك أشعر بشجاعة غير
عادية. عندما عدت إلى البيت رأيت انعكاس
صورتي في لوح الزجاج. لم يكن جسمي مكوراً
ولا حليبياً، ولم يكن ثدياي عامرين كما كنت أشتهي، لكنني بالرغم من ذلك كنت أبدو
جميلة.
انتظرت
حتى تأكدت من أن جميع من في البيت قد خلدوا إلى النوم، ثمّ تدثّرت بشال طويل سميك،
وسرت على أطراف أصابعي نحو غرفة شمس.
"كيميا،
لم أكن أتوقّع مجيئك"، قال شمس عندما فتح باب غرفته.
فقلت:
"أريد أن أراك"، ودخلت قبل أن يدعوني إلى الدخول، وأضفت: "أغلق
الباب من فضلك".
بدا
الاضطراب على وجه شمس، لكنه نفّذ ما طلبته منه.
عندما
أصبحنا وحدنا في الغرفة، احتجت إلى بضع ثوان حتى استجمع شجاعتي. أوليته ظهري، وأخذتّ نَفَساً عميقاً، وبحركة
سريعة، خلعت شالي وغلالتي. وعلى الفور
أحسست بثقل في عينيَ زوجي المندهشتين على ظهري، من عنقي حتى أخمص قدميّ، وأحسست
بدفء يسري في الأماكن التي كان ينظر إليها.
لكن سرعان ما حلّ محل ذلك الإحساس بالدفء، سواء أكان حقيقياً أو
متخيّلاً، صمت بارد على الغرفة. وبينما كان صدري يعلو ويهبط من الترقب، وقفت
أمام شمس عارية مثل حورية من حوريات الجنة التي يتكلمون عنهن.
في
ظلّ ذلك الصمت، وقفنا ورحنا ننصت إلى الريح تعوي، وتثور، وتنوح في المدينة.
"ماذا
تظنين أنك فاعلة؟"، سألني ببرود.
بذلت
جهداً كبيراً حتى أجد صوتي الذي اختفى، لكنني تمكنت أخيراً من القول: "إني
أريدك".
دار
شمس حولي في شكل نصف دائري، ثم وقف أمامي مباشرة، وجعلني أنظر إلى عينيه
مباشرة. شعرت بوهن في ركبتيّ، لكني لم
أتزحزح، بل خطوت نحوه، وضغطت بجسدي على جسده، وتلوّيت قليلاً، أمنحه الدفء المنبعث
من جسدي، كلما علّمتني وردة الصحراء.
داعبت صدره وهمست في أذنه كلمات حبّ رقيقة، وتنشّفت عطره وأنا أمرر أصابعي
إلى أعلى وأسفل ظهره القوي.
وكما
لو أنه قد لمس موقداً مشتعلاً، ابتعد شمس فجأة، وقال: "يخيّل إليّ أنك ترغبين
بي، لكن ما تريدينه هو إرضاء غرورك".
طوقت
رقبته بذراعيّ وقبّلته بحرارة. دفعت لساني
في فمه ورحت أدفعه فيه وأستله، كما قالت لي وردة الصحراء. "يحبُ الرجال أن يمتصوا ألسنة زوجاتهم، يا
كيميا. جميعهم يفعلون ذلك".
كان
مذاق شفتيه بطعم التوت، حلواً وحامضاً، لكن ما إن أحسست بأن دوّامة المتعة قد بدأت
تشدّ أحدنا إلى الآخر، حتى أوقفني شمس ودفعني جانباً، وقال: "لقد خاب أملي
فيك يا كيميا"، ثم أضاف: "أرجو أن تتركيني وحدي الآن".
وبالرغم
من قسوة كلماته، لم يبد على وجهه أي أثر لأي مشاعر غضب، ولم أعرف أيّهما جرح
مشاعري أكثر: كلماته الفظة، أم خلو وجهه من أي تعابير.
كان
ذلك أشدّ شعور بالمهانة اعتراني في حياتي.
فانحنيت لأتناول غلاللتي، لكن يديّ كانتا ترتعشان ولم أتمكن من الإمساك
بالقماش الرهيف الزلق، بل تناولت شالي وتدثرت به. وبينما كنت لا أزال أنشج وألهث،
وأنا لا أزال شبه عارية، ركضت خارجة من الغرفة، مبتعدة عن هذا الحبّ الذي أدركت
الآن أن لا وجود له إلا في مخيلتي.
***
لم
أر شمساً بعد ذلك قط، ولم أغادر غرفتي بعد ذلك اليوم، وأمضيت كلّ وقتي وأنا
مستلقية في سريري، تعوزني الطاقة والإرادة لمغادرة الغرفة. مرّ أسبوع، ثمّ أسبوع آخر، وبعدها توقّفت عن
عدّ الأيام.
وتلاشت جميع قواي، وبدأت أتهاوى شيئاً فشيئاً، ولم تعد الحياة تدبّ إلا في
راحتي يديّ اللتين ما فتئتا تتذكّران ملمس يدي شمس ودفء بشرته.
لم
أكن أعرف أن للموت رائحة، رائحة نفاذة، مثل رائحة الزنجبيل المخلّل، وإبر الصنوبر
المكسورة، رائحة لاذعة ومرّة، لكنها ليست سيئة بالضرورة. ولم أعرفها إلا عندما بدأت تفوح في غرفتي،
تغلّفني مثل ضباب كثيف رطب. وألمّت بي
حمّى شديدة، وبدأت أنزلق إلى هاوية الهذيان، وأخذ الناس يأتون لزيارتي، الجارات
والصديقات. كانت كيرا تقف إلى أحد جانبي
سريري، عيناها متورمتان، ووجهها شاحب، وكانت جوهر تقف إلى الجانب الآخر، وهي تبتسم
ابتسامتها الرقيقة بغمازتها الجميلة.
قالت
صفية: "لعن الله ذلك الزنديق. فقد
مرضت هذه الفتاة المسكينة من الحسرة والأسى.
إن ذلك كلّه بسببه".
حاولت
أن أرغم نفسي على الكلام، لكن صوتي لم يكد يتجاوز حنجرتي.
"كيف
يمكنك أن تقولي ذلك؟ هل هو الله؟"،
قالت كيرا، "كيف يمكنك أن تنسبي هذه القوى إلى إنسان فان؟".
لكنهن
لم ينصتن إلى كيرا، ولم أكن في وضع يمكنني من إقناع أي شخص بأي شيء. وسرعان ما أدركت أنني سواء أقلت أم لم أقل، فلن
يغيّر ذلك شيئاً، فقد كان الأشخاص الذين لا يحبّون شمساً يجدون سبباً آخر لمرضي
ليكرهوه، لكنني لم أستطع أن أكرهه حتى لو أردت ذلك.
وسرعان
ما انجرفت إلى العدم، حيث تلاشت جميع الألوان واستحالت بيضاء وتلاشت جميع الأصوات
لتصبح صوت طنين متواصل. ولم أعد أميّز
وجوه الناس، ولم أعد أسمع الكلمات التي تقال إلا دندنة تأتي من بعيد.
لا
أعرف هل زارني شمس في غرفتي، لعله لم يأت لزيارتي قط. لعله أراد أن يراني، لكن النساء في الغرفة
منعنه من الدخول لرؤيتي، أو لعله جاء، وجلس بجانب سريري، وعزف لي بالناي لساعات
وساعات، وأمسك يدي، وصلّى من أجل روحي.
أريد أن أصدّق ذلك.
لكن
لم يعد شيء يهم، فلم أعد غاضبة منه، أو حانقة عليه. كيف يمكنني أن أكون كذلك، وأنا أتدفّق في جدول
من الوعي التام؟
إن
الله رحمن رحيم، ويوجد تفسير لكلّ شيء، ويقبع وراء كل ذلك نظام مثالي. فبعد عشرة أيان من زيارتي لغرفة شمس، وأنا
أرتدي غلالة حريرية معطّرة، مرضت، وغصت في نهر من العدم التام، رحت أسبح فيه كما
أشتهي، وأدركت أخيراً أن هذا الإحساس ينتاب المرء من تلاوة القرآن بعمق – الغوص في
اللانهائي.
وكانت
المياه المتدفقة هي التي نقلتني من الحياة إلى الموت.
إيلا
بوسطن، 3 تموز (يوليو) 2008
لم
تكن بوسطن غنية بالألوان ونابضة بالحيوية كما هي اليوم، قالت إيلا لنفسها. هل كنت عمياء لا أرى جمال المدينة كلّ هذه
الفترة؟ فقد أمضى عزيز خمسة أيام في
بوسطن، وفي كلّ يوم كانت إيلا تذهب من نورثامبتون إلى بوسطن لرؤيته. وكانا يتناولان غداء بسيطاً لذيذاً في حي
"إيطاليا الصغيرة"، ويزوران متحف الفنون الجميلة، ثم يتمشّيان في حديقة
بوسطن العامة على ضفة النهر، ويشاهدان الحيتان في حوض الأسماك، ويحتسيان القهوة
فنجاناً في إثر فنجان في المقاهي الصغيرة التي تضج بالحركة في ساحة هارفرد، وكانا
يتحدّثان عن مواضيع متنوّعة مثل المأكولات المحلية، وطرائق التأمل المختلفة،
والفنون لدى قبائل الهنود الحمر، والروايات القوطية، ومراقبة الطيور، والبستنة،
وزراعة البندورة (الطماطم)، وتفسير الأحلام.
كان أحدهما يقاطع الآخر ثم يكمّل ما بدأه الآخر. ولا تتذكّر إيلا أنها تحدّثت بهذا القدر مع أي
شخص طوال حياتها.
عندما
يخرجان إلى الشارع، يحرصان على ألا يلمس أحدهما الآخر، لكن تبيّن لهما أن ذلك بدأ يزداد
صعوبة، وأصبحت الهفوات الصغيرة مثيرة، وبدأت إيلا تتوق لأن تتلامس أيديهما. وكانت تتملكها شجاعة غريبة لم تكن تعرف أنها
تمتلكها، لإمساك يد عزيز وتقبيل شفتيه، وهما في المطعم أو في الشارع. ولم تعد تبالي بأن يراها أحد فحسب، بل بدأت
تشعر بأن جزءاً منها يتوق لأن تُرى. وكانا
يعودان عدة مرات إلى الفندق معاً، وكانا في كلّ مرة يقتربان من ممارسة الحب،
لكنهما لم يفعلا ذلك قط.
في
صباح اليوم الذي سيسافر فيه عزيز بالطائرة إلى آمستردام، كانا في غرفته، وكانت
حقيبته تنتصب بينهما مثل فأل سيئ يذكّرهما باقتراب فراقهما.
قالت
له إيلا: "أريد أن أخبرك شيئاً كنت أفكّر به منذ فترة طويلة".
رفع عزيز أحد حاجبيه، بعد أن أدرك التغيير
المفاجئ في نبرة إيلا، ثمّ قال بحرص: " أريد أن أخبرك شيئاً أيضاً".
"حسناً،
قل أنت أولاً".
"لا،
قولي أنتِ أولاً".
أطرقت
إيلا وهي لا تزال تبتسم نصف ابتسامتها، تتمعن في ما سنقوله، وكيف ستقوله، وأخيراً
بدأت تقول: "قبل قدومك إلى بوسطن، خرجنا أنا وديفيد ذات مساء وتحدثنا
مطولاً. وقد سألني عنك. إذ يبدو أنه قرأ رسائلنا من دون علمي. وقد غضبت منه كثيراًلأنه فعل ذلك، لكني لم أنكر
الحقيقة. أقصد عنّا".
رفعت
الآن إيلا عينيها لترى ردة فعل عزيز على ما ستبوح له به، وقالت: "باختصار،
قلت لزوجي إنني أحبّ رجلاً آخر".
في
الخارج، كسرت الصمتَ الأبواقُ التي تطلقها سيارات إطفاء عدة في أرجاء المدينة. سرحت إيلا في تفكيرها قليلاً، لكنها أكملت ما
كانت تزمع أن تقوله: "أعرف أن الأمر قد يبدو جنونياً، لكني فكّرت في الأمر
بإمعان. أردي أن أرافقكَ إلى
آمستردام".
خطا
عزيز نحو النافذة وراح ينظر إلى الحركة النشطة والسريعة في الشارع. رأى دخاناً ينبعث من إحدى النباتات البعيدة –
سحابة سوداء كثيفة تتشكل في الهواء، فأخذ يصلّي بصمت لسكان تلك البنايات. وعندما بدأ يتكلم، بدا وكأنه يخاطب المدينة
كلها.
"أريد
أن أرافقكَ إلى آمستردام، لكن لا يمكنني أن أعدك بمستقبل هناك".
"ماذا
تقصد؟"، سألت إيلا بعصبية.
عند
ذاك، عاد عزيز إلى مكانه، وجلس إلى جانبها، وأرخى يده على يدها. وبينما راح يداعبها وهو شارد الذهن، قال:
"عندما كنت لي في البداية، كنت أمرّ في أوقات غريبة في حياتي".
"أتقصد
أنه يوجد شخص آخر في حياتك . . .؟".
"لا،
يا حبيبتي، لا"، ابتسم عزيز قليلاً، ثم خفتت ابتسامته وأضاف: "لا شيء من
ذلك. لقد كتبت لك ذات يوم عن المراحل
الثلاث في حياتي، أتذكرين؟ وكانت الحروف
الأولى الثلاثة في كلمة "صوفي".
ولم تسأليني عن المرحلة الرابعة،
ومهما حاولتِ، فلن أخبرك. لقائي بالحرف
"ي". هل ترغبين في الاستماع
إليها الآن؟".
"نعم"،
قالت إيلا، مع أنها كانت تخشى أي شيء قد يعكر صفو هذه اللحظة".
"نعم،
أريد".
***
في
غرفة في أحد الفنادق في أحد أيان شهور تموز (يوليو)، قبل بضع ساعات من عودته
بالطائرة إلى آمستردام، حكى عزيز لإيلا كيف أصبح صوفياً في سنة 1977، واتخذ لنفسه
اسماً جديداً، وكذلك، كما كان يأمل، قَدَراً جديداً. ومنذ ذلك الحين، تنقل في طول البلاد وعرضها
مصوراً محترفاً، درويشاً متجولاً في الصميم.
وأقام صداقات وثيقة في ست قارات، مع أشخاص اعتبروه فرداً من أفراد
أسرتهم. ومع أنه لم يتزوّج ثانية، فقد
تبنّى طفلين يتيمين في أوروبا الشرقية.
وعاش عزيز، الذي لن ينزع القلادة المحفور عليها صورة الشمس حول عنقه
لتذكّره بشمس التبريزي، حياة مليئة بالسفر والقراءة والسير على خطى الدراويش
الصوفيين، والالتقاء بالإشارات والعلامات التي تشير إلى الله في كل مكان، وفي كلّ
شيء.
ثمّ
علم بمرضه منذ سنتين.
فقد
بدأ المرض بظهور كتلة تحت إبطه، يبدو أنه تأخر في ملاحظتها، ثمّ أظهرت الفحوصات أن
الكتلة هي ميلانوما خبيثة، شكل مميت من سرطان الجلد. وقال الأطباء إن حالته لا تبدو جيدة، لكن عليهم
إجراء المزيد من الاختبارات قبل إبلاغه بالتشخيص النهائي. وعادوا إليه بعد أسبوع بأخبار سيئة: لقد انتشر الورم
إلى أعضائه الداخلية وغزا رئتيه.
وعندما
بلغ الثانية والخمسين، أخبروه أنه لن يبلغ الخامسة والخمسين من العمر.
حرّكت
إيلا شفتيها لتقول شيئاً، لكن الكلمات لم تخرج من فمها وأحست بجفاف شديد في
فمها. سقطت دمعتان على خديها، فمسحتهما
بسرعة.
وتابع
عزيز كلامه، بنبرة قوية وحازمة، وقال إنه بدأ طوراً جديداً من حياته، وبشكل من
الأشكال أكثر إنتاجاً. فلا تزال توجد
أماكن يريد أن يراها، ويبحث عن وسيلة لزيارتها جميعاً. فأنشأ مؤسسة صوفية في آمستردام لها فروع
وارتباطات دولية. ولمّا كان عازف ناوي
هاوياً، فقد أقام حفلات موسيقية مع موسيقيين صوفيين في إندونيسيا وباكستان ومصر،
وأعدّ ألبوماً لمجموعة من الصوفيين اليهود والمسلمين في قرطبة بإسبانيا.
ثمّ
عاد عزيز إلى المغرب وزار التكيّة التي كان قد التقى فيها بعدد من الصوفيين
الحقيقيين لأول مرة في حياته، وكانت قد مضت على وفاة السيد ساميد فترة طويلة،
وصلّى ومارس التأمّل بجانب قبره، متأمّلاً المسيرة التي اتبعها في حياته.
"ثمّ
اعتزلت لكتابة الرواية التي طالما حلمت بكتابتها، والتي طالما أحّلت كتابتها لكسلي
أو عدم توفر الشجاعة لديّ"، قال عزيز غامزاً، "وكما تعرفين، كان ذلك أحد
الأمور التي أردت أن أفعلها منذ زمن بعيد، ووضعت عنواناً للرواية "الكفر
الحلو" وأرسلتها إلى وكالة أدبية في أمريكا.
لم أتوقّع الكثير، وكنت كذلك مستعداً لجميع الاحتمالات. وبعد أسبوع، وصلتني رسالة مثيرة بالبريد
الإلكتروني من امرأة لا أعرفها من بوسطن".
ابتسمت
إيلا ابتسامة ضعيفة تشي بالعطف والاحترام، والرقة والألم.
وقال
عززي لقد تغيّر كل شيء منذ تلك اللحظة.
فقد تحوّل من رجل يستعد للموت، إلى رجل هام في الحبّ في وقت غير
متوقع. وفجأة،
تعين عليه تحريك جميع القطع التي كان قد
خيّل إليه أنه وضعها في مكانها الملائم منذ أمد بعيد. الروحانية والحياة والأسرة والفناء والإيمان
والحبّ. وجد نفسه يفكّر مجدّداً بمعانيها
ولم يعد يرغب في الموت.
أطلق
على هذه المرحلة الجديدة والنهائية من حياته اسم لقائه بالحرف "ي" في
كلمة "صوفي"، وقال إنه وجد هذه المرحلة أشدّ المراحل السابقة صعوبة،
لأنها جاءت في وقت، اعتقد فيه أنه تغلب على معظم، إن لم يكن كلّ، صراعاته
الداخلية، في وقت خيّل فيه إليه أنه بلغ مرحلة النضوج الروحي.
"تتعلّمين
في الصوفية كيف تموتين قبل الموت. فقد
خبرتُ كلّ تلك المراحل، خطوة خطوة. وعندما
بدأت أفكّر بأنني تمكنت من حلّ كلّ شيء بمهارة، خرجت لي هذه المرأة بغتة. وراحت تكتب لي، ورحت أجيبها. وبعد كلّ رسالة، بدأت أنتظر ردها بلهفة، وبدأت
الكلمات تصبح ثمينة أكثر من أي وقت مضى.
واستحال العالم كلّه إلى شاشة بيضاء فارغة، بانتظار الكتابة عليها، وأصبحت
أرغب في التعرّف على هذه المرأة، وقضاء مزيد من الوقت معها. وفجأة، لم تعد حياتي تكفيني. وأدركت أنني كنت أخشى الموت، وكان جزء مني
مستعد للتمرد على الله الذي كنت أبجّله وأستسلم له".
"سيكون
أمامنا وقت . . ."، قالت إيلا عندما عثرت على صوتها.
"أخبرني
الأطباء أن أمامي ستة عشر شهراً"، قال عزيز، بصوت خفيض، لكن بحزم، "ربما
كانوا مخطئين، أو ربما كانوا مصيبين. لا
يمكنني أن أعرف، وكما تريد يا إيلا، كلّ ما يمكنني أن أمنحك إياه
هو اللحظة الراهنة، هذا كلّ ما أملكه. وفي الحقيقة، لا أحد يملك أكثر من ذلك. إننا نحبّ أن ندّعي أننا نلم أكثر مما نملكه
حقاً".
نظرت
إيلا إلى قدميها، ومالت إلى جانبها كأن جزءاً منها على وشط أن ينهار، وجزءاً آخر
يقاوم. وأجهشت في البكاء.
"لا،
أرجوك. أريد أن ترافقيني إلى آمستردام،
وأردي أن نسافر معاً في أرجاء العالم حتى نرى بلاداً بعيدة، ونتعرف على شعوب أخرى
ونحترم ما خلقه الله".
"سيكون
ذلك رائعاً، قالت إيلا مثل طفلة قّدمت لها لعبة بألوان براقة، وراحت تبكي.
تجهّم
وجه عزيز، وأشاح بعينيه عنها ونظر إلى النافذة.
"لكني
كنت أخاف أن أطلب منك، حتى إنني كنت أخاف أن ألمسك، ناهيك عن أن أمارس الحب معك،
فكيف يمكنني أن أطلب منك أن ترافقيني وأن
تهجري أسرتك، بينما أنا لا أملك مستقبلاً يمكنني أن أقدّمه لك؟".
فردت
إيلا على سؤاله وقالت: "لمَ هذا التشاؤم؟
يمكنك أن تحارب المرض. يمكنك أن
تحاربه من أجلي".
"لماذا
يتعيّن علينا أن نحارب كلّ شيء؟"، تساءل عزيز، "إذ نتحدّث على الدوام عن
محاربة التضخّم ومحاربة الأيدز ومحاربة السرطان ومحاربة الفساد ومحاربة الإرهاب،
حتى محاربة الوزن الزائد . . . ألا توجد لدينا طريقة أخرى لتناول الأمور؟".
"أنا
لست صوفية"، قالت إيلا وقد نفد صبرها.
كان صوتها يشبه صوت شخص آخر، صوت شخص أكبر سنّاً.
في
تلك اللحظة، برقت في رأسها أفكار كثيرة: وفاة والدها، ألم فقدان حبيب انتحر، وما
أعقبه من اكتئاب وندم لسنوات عدة، وتمعنت في كلّ جزء من ذاكرتها، على صغره، للشخص
المتوفى، وتساءلت هل ستختلف الأمور لو امتزجت التفاصيل بطريقة مختلفة في مكان ما.
ابتسم
عزيز وقال: "أعرف أنك لست صوفية، ولا ينبغي أن تكوني صوفية. كوني الرومي فقط،
هذا كلّ ما أطلبه منك".
فسألته:
"ماذا تقصد؟".
"في
وقت سابق سألتيني إن كنت أشبه شمس التبريزي، أتذكرين؟ قلتِ إنني أذكّرك به، وبقدر ما كنت سعيداً
لسماع ذلك، فإنني لا أستطيع أن أكون شمساً، لأني أعتقد أنه يفوقني كثيراً. أما أنتِ فيمكنكِ أن تكوني الرومي، إذا تركتِ
الحبّ يغمركِ ويغيّرك، في البداية من خلال وجوده، ثمّ من خلال غيابه".
فقالت
إيلا: "لكنني لست شاعرة".
"والرومي
لم يكن شاعراً أيضاً، لكنه أصبح شاعراً".
"ألا
تفهم؟ فما أنا سوى ربّة منزل، بحق الله،
أمّ لثلاثة أطفال"، صاحت إيلا، وأخذت نفساً عميقاً.
"إننا
جميعنا ما نحن"، غمغم عزيز، "وجميعنا معرضون للتغيير. إنها رحلة من هنا إلى هناك، ويمكنك القيام بهذه
الرحلة، ولو كنت تمتلكين الشجاعة الكافية، ولو كنت أمتلك شجاعة كافية، لذهبنا إلى
قونية معاً في النهاية، حيث أريد أن أموت".
فقالت
إيلا: "لا تتحدث هكذا".
نظر
إليها عزيز للحظة، ثم أطرق عينيه. برز
تعبير جديد على وجهه الآن، وظهر بعد في نبرته، كأنه ينجرف بسرعة، مثل ورقة شجرة
جافّة وقعت في مهبّ الريح.
وقال ببطء: "وإلاّ عودي إلى بيتك يا
إيلا. عودي إلى أطفالك وإلى بيتك. قرّري يا حبيبتي. ومهما كان اختيارك، فإني أحترم قرارك".
سليمان السكران
قونية، آذار (مارس) 1248
دم
وعرق ودموع. يظنّ الغرباء أن الذين يحتسون
الخمر أشخاص كسالى ليس لديهم ما يفعلونه، ولكنهم لا يعلمون أن احتساء الخمر كلّ
يوم يحتاج إلى جهد جهيد. إننا نحمل ثقل
العالم على كاهلنا.
كنت
متعباً فأسندت رأسي إلى المنضدة وغفوت، وحلمت حلماً سيئاً. فقد رأيت ثوراً أسود كبيراً، هائجاً كالجحيم،
يطاردني في شوارع غريبة. ورحت أجري هارباً
من الثور من دون أن أعرف ما الخطأ الذي ارتكبته حتى يثور عليّ بهذا الشكل، ويحطّم
المحلات، ويدوس على كل شيء، مما أثار حنق جميع الباعة في السوق. وظللت أركض، ثم دلفت زقاقاً تبيّن لي أنه زقاق
مسدود، حيث ارتطمت بيضة ضخمة، يزيد حجمها على حجم بيت. وفجأة فقست البيضة، وانبثق منها طير صغير جداً
شديد القبح، ندياً يصدر ضجيجاً. وعندما حاولت الخروج من الزقاق، ظهرت الطير الأمّ
في السماء، وراحت تحدّق بي إلى الأسفل كما لو كنت المسؤول عن قباحة فرخها. وعندما بدأت تهبط من السماء، كان منقارها
الحادّ ومخالبها الحادة متجهة نحوي، استيقظت.
فتحت
عينيّ وأدركت أنني غططت في النوم على الطاولة القريبة من النافذة. ومع أن طعم فمي كان يشبه طعم مسامير صدئة، وكنت
أشعر بحاجة شديدة إلى احتساء شيء، اعتراني تعب شديد ولم أعد أستطيع التحرّك،
فأبقيت رأسي الثقيل مسترخياً على الطاولة، أغوص في سباتي، مستمتعاً بالأصوات
المعتادة في الحانة. ثم تناهى إليّ سوت
جدال حاد يعلو ويهبط مثل طنين سرب من النحل.
كان الصوت ينبعث من الرجال الجالسين إلى الطاولة بجانب طاولتي، ومع أنه خطر
لي لولهة أن ألتفت قليلاً لأرى من هم هؤلاء الرجال ، لم أتحرّك، إلا بعد أن سمعت
تلك الكلمة المشؤومة: جريمة قتل.
في
البدء، تجاهلت ما كانوا يقولونه واعتبرته هذيان سكارى، فالمرء يسمع أموراً كثيرة
في الحانة، ومع مرور الزمن، يتعلّم ألاّ يأخذ كلّ كلمة تقال على محمل الجد. لكن كان ثمة شيء في نبرة كلامهم تشي بالتهديد
ولم يعد بإمكاني تجاهلها، لذلك شنّفت أذنيّ، ورحت أنصت. ارتخى حنكي عندما تحققت من أنهم جادّون في ما
يقولونه. لكن صدمتي ازدادت عندما عرفت
الشخص الذي يريدون قتله، إنه شمس التبريزي.
وما
إن غادروا، حتى توقّفت عن التظاهر بالنوم ووثبت على قدميّ. "خريستوس، تعال بسرعة"، صرخت برعب.
"ماذا
في الأمر هذه المرة؟"، قال خريستوس وهرع نحوي، "لماذا أنت حزين
هكذا؟".
لكني
لم أستطع أن أخبر أحداً. حتى خريستوس،
وفجأة، بدا الجميع في حالة من الشك والريبة.
ماذا لو كان هناك عدد أكبر من
الأشخاص المشاركين في هذه المؤامرة على
شمس؟ لذلك كان يجب أن أصمت وأن أبقى
متيقظاً.
فقلت:
"لا شيء! إني جائع، هذا كلّ ما في الأمر.
أرجو أن تحضر لي حساء؟ أضف إليه
كمية كبيرة من الثوم، فيجب أن أظل يقظاً".
حدّق
خريستوس بي مندهشاً، لكنه لم يسألني سؤالاً آخر لأنه كان معتاداً على تقلب
مزاجي. وبعد لحظات، أحضر لي زبدية من حساء
أمعاء الماعز، فيها توابل حارة. تناولتها
بسرعة، فحرقت لساني. وبعد أن صحوت بما
يكفي، اندفعت إلى الشارع لأحذّر شمس التبريزي.
في
البداية توجهت إلى بيت الرومي، فلم أجد شمساً، ثمّ بحثت عنه في الجامع، ثمّ في
المدرسة، والمقهى، والمخبز، ثمّ في الحمّام ...
بحثت عنه في كلّ المخازن والأقبية في شارع الحرفيين، حتى إنني بحثت عنه في
خيمة الغجرية بين الخرائب، فلعله ذهب إلى هناك ليقلع ضرساً يؤلمه أو ليتخلص من
رقية سيئة. بحثت عنه في كل مكان، وكان
قلقي يزداد مع مرور كل دقيقة. بدأ الخوف
يتملكني. ماذا لو فات الأوان؟ ماذا لو كانوا قد قتلوه؟"
بعد
بضع ساعات، عندما لم أعد أعرف أين يمكنني أن أبحث عنه، عدت إلى الحانة، مكتئباً
ومنهكاً. لكن كالسحر، رأيته واقفاً على
مسافة بضع خطوات من باب الحانة.
"مرحباً
يا سليمان. يبدو أنك مشغول البال"، قال
شمس، مبتسماً.
"يا
إلهي! إنك لا تزال على قيد الحياة!"، صحت، وجريت لأضمه بين ذراعي.
عندما
عانقت شمساً، حدّق بي، وقد بدا مبتهجاً، وقال: "طبعاً أنا حيّ! هل أبدو لك
طيفاً؟".
ابتسمت،
لكن ليس طويلاً. كان رأسي يؤلمني كثيراً
وكنت أسكّنه بجرع بضع زجاجات حتى أسكر
بسرعة وأغفو.
"ما
الأمر، يا صديقي؟ هل كلّ شيء على ما
يرام؟"، سأل شمس بريبة.
ابتلعت
ريقي بصعوبة. ماذا لو لم يصدقني إذا
حدّثته عن المؤامرة؟ ماذا لو ظنّ أنني
أهلوس بتأثير الخمر؟ وربما كنت كذلك، ولا
يمكنني أن أكون متأكّداً من ذلك.
فقلت
له: "إنهم يزمعون قتلك. لا أعرف من
هم. لم أتمكَّن من رؤية وجوههم. فقد كنت دائماً. . . لكنني لم أكن أحلم. أقصد، كنت أحلم، لكن ليس حلماً كهذا. لم أشرب
كثيراً. حسناً، لقد شربت بضعة أقداح، لكني
لم أسكر".
أرخى
شمس يده على كتفي، وقال: "هدّئ من روعك يا صديقي. فهمت".
"صحيح؟".
"نعم. عد إلى الحانة الآن، ولا تقلق عليّ".
"لا،
لا! لن أذهب إلى أيّ مكان، ولا أنت أيضاً"، قلت معترضاً، "فهؤلاء الناس
جادّون في ما سيفعلونه. يجب أن تكون
حذراً، لا يمكنك أن تعود إلى بيت الرومي، لأنه أول مكان سيبحثون فيه عنك".
غير
مكترث لفزعي، لبث شمس صامتاً.
"اسمع
أيها الدرويش، إن بيتي صغيرة وفيه أشياء كثيرة.
لكن إذا لم يكن يهمك ذلك، يمكنك أن تمكث في بيتي كما تشاء".
"أشكرك
على قلقك عليّ"، همهم شمس، "لكن لا يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا. وهذه قاعدة أخرى: "لقد خُلق هذا العالم
على مبدأ التبادل، فكلّ أمرئ يكافأ على كلّ ذرة خير يفعلها، ويعاقب على كلّ ذرة
شرّ يفعلها. لا تخف من المؤامرات، أو
المكر، أو المكائد التي يحيكها الآخرون، وتذكّر أنه إذا نصب لك أحدهم شركاً، فإن
الله يكون قد فعل ذلك. فهو المخطط الأكبر. إذ لا تتحرك ورقة شجرة من دون علمه. آمن بذلك ببساطة وبصورة تامة. فكلّ ما يفعله الله، يفعله بشكل جميل".
بعد
أن قال شمس ذلك، غمزني ولوّح لي مودعاً.
رحت أرقبه وهو يشقّ طريقه بسرعة عبر الزقاق الموحل باتجاه بيت الرومي، على
الرغم من تحذيري له.
القاتل
قونية، آذار (مارس) 1248
الأوغاد!
البلهاء! لقد طلبت منهم ألاّ يأتوا معي.
أوضحت لهم أنني أعمل وحدي دائماً وأكره رؤية الزبائن يتدخّلون في أموري،
لكنّهم أصرّوا، لأنهم يعتقدون بأن الدرويش يمتلك قوى خارقة، ولا بد من أن يروه
ميتاً بأمّ أعينهم.
"حسناً"،
استسلمت في النهاية، "لكن لا تقتربوا مني حتى ينتهي كلّ شيء".
وافقوا. جاء ثلاثة رجال الآن. الرجلان اللذان عرفتهما من اللقاء السابق، ورجل
جديد معهما بدا شاباً ومتوتراً كالآخرين، وكانوا جميعهم قد لفّوا وجوههم بأوشحة
سود، كما لو أنني كنت أبالي حقاً بمعرفة من هم.
بعد
منتصف الليل، كنت أقف خارج بيت الرومي.
قفزت من فوق الجدار الحجري إلى الفناء واختبأت وراء أجمة، فقد أكدّ لي
زبائني أن شمس التبريزي يمضي عادة فترة من الوقت كلّ ليلة في الفناء وهو يتأمل،
قبل أو بعد أن يتوضأ. وكان كلّ ما عليّ
فعله هو الانتظار.
كانت
ليلة عاصفة، باردة على نحو غير معتاد في هذا الوقت من السنة. كان السيف ثقيلاً وبارداً في راحة يدي، وكنت
أشعر تحت أصابعي بالخرزتين المرجانيتين اللتين تزيّنان مقبضه القاسي. تمنيت لو أني أحضرت معي كذلك خنجراً صغيراً في
غمده.
كانت
تحيط بالقمر هالة زرقاء شاحبة، وكنت أسمع عواء حيوانات ليلية كثيرة من بعيد، وهبّت
عليّ نفحة رائعة من رائحة الورود نقلتها الريح من بين الأشجار. وعلى نحو غريب، جعلتني هذه الرائحة أشعر
بالاضطراب. وقبل وصولي إلى هذا المكان، لم
يكن مزاجي رائقاً، لكنه ازداد سوءاً الآن.
وعندما كنت واقفاً هناك، تغمرني تلك الرائحة الرائعة، اعترتني رغبة شديدة
في أن أتخلى عن الخطة وأغادر هذا المكان المخيف في الحال.
لكني
ظللت وفياً للوعد الذي ضربته. لم أعرف كم
مرّ من الوقت، وأحسست بأن جفنيّ ثقيلان، ورحت أتثاءب رغماً عني. وعندما اشتدّ غضب الريح، لسبب لا أعرفه، استمرّ
عقلي يستحضر ذكريات، مظلمة ومتعبة، عن جميع الرحال الذين قتلتهم. فقد فاجأتني مخاوفي. لم أكن أشعر بالتوتر عادة عندما أتذكر
الماضي. فربما كنت أستغرق في التفكير،
وأنزوي على نفسي، بل إنني كنت أتجهّم بين الحين والآخر، لكني لم أشعر بالتوتر قط.
ولرفع
معنوياتي، رحت أصفّر ألحان عدد من الأغاني.
وعندما لم ينفعني ذلك، ركّزت نظراتي على باب المنزل الخلفي وهمست،
"هيا يا شمس. لا تجعلني أنتظر
كثيراً. هيا أخرج إلى الفناء".
لا
صوت. لا حركة. لا شيء.
وفجأة،
بدأ المطر يهطل، ومن المكان الذي كنت أقف فيه، كنت أستطيع الرؤية من فوق جدران
الفناء المائلة. وسرعان ما بدأ المطر
ينهمر بقوة، وتحوّلت الشوارع إلى أنهار جارفة، وتبللت حتى العظم.
قلت:
"لعنه الله. اللعنة! اللعنة".
كنت
قد بدأت أفكر بالتخلي عن الخطة في هذه الليلة، عندما سمعت صوتاً حادّاً بينما كانت
قطرات المطر تتساقط فوق الأسطح والأزقة.
كان هناك أحد في الفناء.
إنه
شمس التبريزي. كان يحمل فانوساً
بيده. سار نحوي وتوقّف على بعد بضع خطوات
من الأجمة التي كنت أختبئ وراءها.
"إنها
ليلة رائعة، أليس كذلك؟"، سأل.
لم
أتمكن من احتواء اضطرابي، فرحت ألهث. هل
معه شخص آخر، أم أنه يكلّم نفسه؟ هل يعرف
أنني موجود هنا؟ ترى هل يعلم بوجودي؟ أخذ رأسي يضطرم بالأسئلة.
ثمّ
خطرت لي فكرة أخرى، فكيف يمكن أن يظل الفانوس الذي يحمله بيده مشتعلاً على الرغم
من الرياح العاصفة والأمطار الغزيرة الهاطلة؟ وما إن خطر لي هذا السؤال، حتى سرت
في جسدي رعشة قوية.
تذكّرت
الإشاعات المنتشرة عن شمس. فهم يقولون إنه
يجيد ممارسة السحر الأسود، حتى إنه يستطيع أن يحوّل أي شخص حمار ينهق، أو إلى خفاش
أعمى، ويمكنه أن يربط خيطاً من ثوب ذلك الشخص وهو يردد تمائم شريرة. وبالرغم من أنني لم أكن أؤمن بهذا الهراء، ولم
أكن أريد أن أؤمن به الآن، بينما وقفت أراقب
الفانوس الذي يحمله شمس، والذي كان لهيبه
يرتعش تحت المطر الغزير، رحت أرتجف.
"منذ
عدة سنوات كان عندي أستاذ في تبريز"، قال شمس بعد أن وضع الفانوس على الأرض،
فلم أعد أراه، "علّمني أن لكلّ شيء وقتاً.
إنها قاعدة من القواعد".
عن
أي قاعدة تتحدّث؟ أي كلام غامض هذا؟ لا بد أن أقرّر بسرعة إن كان عليّ أن أخرج من
وراء الأجمة الآن، أم أنتظر حتى يدير لي
ظهره، لكنه لم يفعل ذلك قط. وإن كان يعرف
بوجودي، فلا داعي للاختباء، وإذا لم يكن يعرف فعليّ أن أستجمع شجاعتي عندما أخرج.
بعد
ذلك، كأن ذلك ليزيد اضطرابي، لاحظت ملامح الرجال الثلاثة الذين كانوا يقبعون تحت
غطاء خارج جدار الحديقة قلقين. لا بعد
أنهم يتساءلون لماذا لم أتحرّك لقتل الدرويش.
ثم
تابع شمس قوله: "تقول القاعدة السابعة والثلاثون، "إن الله ميقاتيٌّ
دقيق. إنه دقيق إلى حد أن ترتيبه وتنظيمه
يجعلان كلّ شيء على وجه الأرض يتم في حينه، لا قبل دقيقة ولا بعد دقيقة. والساعة تمشي بدقّة شديدة بالنسبة للجميع بلا
استثناء. فلكلّ شخص وقت للحبّ ووقت
للموت".
في
تلك اللحظة فهمت أنه كان يكلّمني. فقد كان
يعرف أنني هنا، كان يعرف ذلك حتى قبل أن يخرج إلى الفناء. بدأ قلبي يخفق بقوة، وأحسست بأن الهواء قد نفد
من حولي، ولم يعد مجدياً أن أظل مختبئاً، فنهضت وخرجت من وراء الأجمة. توقّف المطر عن الهطول
فجأة، كما كان قد بدأ، وخيّم صمت مطبق. وقفنا وجهاً لوجه، القاتل والضحية. وعلى الرغم من غرابة الوضع، بدا أن كلّ شيء
طبيعي، يكاد أن يكون هادئاً.
استللت
سيفي ووجهت إليه ضربة. تفادى الدرويش
الضربة بسرعة كبيرة لم أتوقّعها من رجل في حجمه.
كنت على وشك أن أوجه إليه ضربة ثانية عندما حدثت فجأة حركة سريعة في الظلام
وظهر ستة رجال وهاجموا الدرويش بالعصبي والرماح.
يبدو أن الرجال الثلاثة قد أحضروا أصدقاءهم. كانت المعركة حامية وسقط الرجال جميعهم على
الأرض. كانوا يتدحرجون، ثم يقفون، ويسقطون
ثانية، وتكسر رمح إثر رمح إلى قطع صغيرة.
وقفت
أراقب المعركة، بدهشة وغضب. لم يحدث قط أن
تحوّلت إلى شاهد، ليس إلاّ، على جريمة قتل كُلفت بارتكابها. غضبت من الشبان الثلاثة لوقاحتهم حتى إنني رغبت
في أن أترك الدرويش وأقاتلهم هم.
لكن
لم تمض فترة طويلة، حتى بدأ أحد الرجال يصرخ بشكل هستيري، "النجدة! انجدنا،
يا رأس الواوي! إنه سيقتنا".
بسرعة
البرق، وضعت سيفي جانباً، وسحبت خنجري من حزامي واندفعت إلى الأمام. وألقينا نحن السبعة الدرويش على الأرض، وبحركة
سريعة واحدة طعنته في قلبه. انطلقت من فمه
صيحة غليظة. لم يتحرك ثانية، ولم يعد
يتنفس.
حملنا
جسده الذي كان خفيفاً على نحو غريب، وألقينا به في البئر. ورحنا نلهث بصوت مرتفع طلباً لمزيد من
الهواء. خطونا إلى الوراء وانتظرنا حتى
سمعنا صوت ارتطام جسده في الماء.
لكننا
لم نسمعه.
"بحقّ
الجحيم ماذا يجري هنا؟"، قال أحد الرجال، "ألم يسقط بعد؟".
"بالطبع
سقط"، قال آخر، "كيف لم يسقط؟".
"لعله
علق بخطّاف على الحائط"، اقترح الرجل الثالث.
كان
الاقتراح معقولاً. فقد أحلّنا من عبء
إيجاد تفسير، وصدقناه بسعادة، مع أننا كنا نعرف تماماً أنه لا توجد خطاطيف على
جدران الآبار.
لا
أعرف كم انتظرنا هناك، فكلٌّ منا يتحاشى النظر في عيني الآخرين. خبّ نسيم بارد في الفناء، وتناثرت بعض أوراق
شجرة الصفصاف البنيّة حول أقدامنا. أما في
أعالي السماء، فقد كان الصباح الأزرق الداكن قد بدأ يستحيل قرمزياً. لعلنا كنا مكثنا هنا طويلاً، لو لم يفتح باب البيت الخلفي ويخرج منه رجل،
عرفته في الحال. إنه مولانا.
"أين
أنت؟"، صرخ، بصوت مشحون بالقلق، "هل أنت هنا يا شمس؟".
ما
إن ذكر اسمه، حتى ولّينا، نحن السبعة، الأدبار.
وتسلّق الرجال الستة جدار الحديقة واختفوا في ظلمة الليل. ظللت واقفاً، أبحث عن خنجري الذي عثرت عليه
أخيراً تحت أجمة، مكسواً بالطين. كنت أعرف
أنني يجب ألا أبقى هنا ولا ثانية، لكنني لم أستطع مقاومة إغراء النظر إلى الوراء .
عندما
فعلت ذلك، رأيت الرومي يمشي مترنّحاً إلى الفناء ثم بدأ يترنّح فجأة إلى يساره،
نحو البئر، كأن حدسه يوجّهه.
انحنى
إلى الأمام، ونظر إلى الأسفل، ووقف هكذا للحظة، كي يعتاد نظره على العتمة الخفيفة
في البئر. ثمّ رجع، وجثا على ركبتيه، وضرب
صدره، وأطلق صيحة مرعبة.
قفزت
وتسلقت الجدار، وتركت خنجري ملوثاً بدم الدرويش، وركضت كما لم أركض من قبل.
إيلا
نورثامتبون، 12 آب 2008
كان
يوماً عادياً من أيام شهر آب (أغسطس)، معتدلاً ومشمساً. كان يوماً مثل بقية الأيام. استيقظت إيلا الصباح الباكر، وأعدّت طعام
الفطور لزوجها وأطفالها، وراقبتهم وهم يتوجّهون إلى العمل وإلى نادي التنس
والشطرنج، ثم عادت إلى مطبخها، وفتحت كتاب الطهو، واختارت من القائمة طبق اليوم:
حساء
سبانخ مع هريسة الفطر
محار
مع مايونيز الخردل
محارات
صدفية مشوية مع زبدة الطرخون
سلطة
مع التوت البري
غراتان
الكوسا بالرزّ
فطيرة
راوند مع كريما الفانيلا
بقيت
فترة بعد الظهر كلها لطهو هذه الأطباق.
وعندما أنهت عملها، أخرجت أفضل الأواني الخزفية لديها، ورتّبت المائدة،
وطوت المناديل، ورتّبت الزهور، وعيّرت الفرن لمدة أربعين دقيقة، لكي
يكون الغراتان ساخناً في الساعة
السابعة. وأعدّت قطعاً من الخبز المحمّص،
ووضعت الصلصة في السلطة، دسمة، كما يفضلها آفي.
وخطر لها أن تشعل الشموع، لكنها غيّرت رأيها. رأت أن من الأفضل أن تترك المائدة هكذا، مثل
صورة نقية، من دون تأثيرات إضافية.
ثمّ
حملت الحقيبة التي كانت قد جهزتها سابقاً وغادرت البيت. عندما خرجت، دمدمت قاعدة من قواعد شمس: ليس من المتأخر مطلقاً أن تسأل نفسك، هل أنا
مستعد لتغيير الحياة التي أحياها؟ هل أنا
مستعد لتغيير نفسي من الداخل؟
"وحتى
لو كان قد تبقى من حياتك يوم واحد يشبه اليوم الذي سبقه، فإن ذلك يدعو
للرثاء. ففي كلّ لحظة، ومع كلّ نَفَس جديد،
يجب على المرء أن يتجدّد ثانية. ولا توجد
إلا وسيلة واحدة حتى يولد المرء في حياة جديدة وهي أن يموت قبل الموت".
علاء الدين
قونية، نيسان (أبريل) 1248
مع
مرور كلّ دقيقة، لم أعد أعرف كيف يتعيّن عليّ أن أتصرّف مع الآخرين، بعد مرور
ثلاثة أسابيع على موت شمس، استجمعت شجاعتي أخيراً وذهبت لأحدّث أبي، الذي كان جالساً في غرفة المكتبة، وحيداً،
مسمّراً في مكانه مثل تمثال من المرمر، وكانت الظلال تتقافز على وجهه.
سألته:
"أبي، هل يمكنني أن أحدّثك؟".
ببطء
وبغموض، كما لو أنه عاد سباحة إلى الشاطئ من بحر أحلام يقظته، نظر إليّ، ولم ينبس
ببنت شفة.
"أبي،
أعرف أنك تظن أنني متورط في موت شمس، لكن دعني أطمئنك".
فجأة،
رفع أبي إصبعه، مقاطعاً كلماتي، وقال: "لقد نضبت الكلمات بينك وبيني يا
بني. فلا أريد أن أسمع منك شيئاً، ولا
يوجد ما يمكنني أن أقوله لك رداً على ذلك".
"أرجوك لا تقل ذلك. دعني أوضّح لك"، قلت متوسلاً، وصوتي
يرتعش، "أقسم بالله. لست أنا.
إني أعرف من فعل ذلك، لكن لست
أنا".
"يا
بني"، قاطعني أبي ثانية، وهو يقطر حزناً، ثم حلّ محله هدوء مخيف لشخص قبل
أخيراً حقيقة فظيعة، "تقول إنك لم تفعل ذلك مع انه توجد بقع دم على حاشية
ثوبك".
أجفلت
ونظرت مدققاً في حاشية ثوبي على الفور. هل
هذا صحيح؟ هل ما زالت توجد بقع دم منذ ذلك
المساء؟ دققت النظر في حاشية ثوبي، ثم
فتشت في كمَّي، وعلى يديّ وأظافري. كانت
جميعها نظيفة. عندما رفعت رأسي ثانية،
وقعت عيناي على عيني أبي، عندها فقط فهمت الفخّ الذي نصبه لي.
عندما
فتشت في حاشية ثوبي، اعترفت بما اقترفته يداي.
***
نعم،
كنت قد انضممت إليهم في الحانة في ذلك المساء، وأنا من أخبر القاتل أن شمس يجلس في
الفناء ويتأمل في كلّ ليلة. وفي تلك
الليلة، عندما تحدّث شمس مع قاتله تحت المطر الهاطل، كنت واحداً من الرجال الستة
الذين كنا ننصت إليه بجانب حائط الحديقة.
وعندما قرّرنا مهاجمته، لأنه لم يعد بإمكاننا التراجع، عندما كان القاتل
المأجور يتباطأ في تنفيذ ما اتفقنا عليه، دللتهم على الطريق إلى فناء بيتنا. لكن هذا كل ما في الأمر، فقد توقّفت هناك، ولم
أشاركهم في العراك. فقد هاجمه بيبرس،
وساعده إرشاد والآخرون. وعندما تملكهم
الرعب، نفّذ رأي الواوي ما تبقى من المهمة.
لقد
عشت تلك اللحظة مرات ومرات في عقلي، ولم أعد أعرف أين
تكمن الحقيقة وأين يكمن الخيال. ومرّة أو مرّتان، استحضرت إلى ذاكرتي صورة شمس
وهو يتملّص من بين أيدينا ثم يهرب ليغوص في عتمة الليل الأسود القاتم. كانت الصورة شديدة الوضوح إلى حد أنني كدت أن
أصدقها.
وعلى
الرغم من ذهابه، فلا تزال آثاره ماثلة في كل مكان. فقد بقي الرقص والشعر والموسيقى وجميع الأشياء
التي خلتُ أنها ستتلاشى عندما يختفي، وظلت كلها راسخة بقوة في حياتنا، وأصبح أبي
شاعراً. كان شمس محقاً، فعندما تكسر إحدى
الجرتين، فإن الجرّة الأخرى تنكسر أيضاً.
كان
أبي رجلاً مفعماً بالحبّ، يحتضن أشخاصاً من جميع المذاهب والأديان. فلم يكن رقيقاً تجاه المسلمين فحسب، بل تجاه
المسيحيين واليهود أيضاً، بل وحتى تجاه الوثنيين.
وبعد أن دخل شمس في حياته، اتسعت دائرة الحبّ لديه وشملت الأشخاص الأكثر
سقوطاً في المجتمع، المومسات والسكارى والمتسولين، أي حثالة الحثالة.
ويخيّل
إليّ أنه من الممكن أن يحبّ الأشخاص الذين قتلوا شمس. لكن، هناك شخص لا يمكن أن يحبه: وهو ابنه.
سلطان ولد
قونية، أيلول (سبتمبر) 1248
المتسولون
والسكارى والمومسات والأيتام، واللصوص . . . إنه يوزّع كلّ ما يملكه من ذهب وفضة
على المجرمين. فمنذ تلك الليلة المشؤومة،
لم يعد أبي كما كان. وبدأ الجميع يقولون
إن الحزن قد تملّك عقله. وعندما يسأله
أحدهم ماذا يفعل، يحكي له قصّة امرئ القيس، ملك العرب، الذي كان رجلاً محبوباً،
غنياً ووسيماً، لكنه خرج ذات يوم، بغتة وعلى نحو غير متوقع، من حياته المثالية
تلك، فلبس ثوب درويش، وتخلّى عن ثروته كلها، وراح يطوف من مكان إلى آخر.
"هذا
ما يسببه لك فقدان المحبوب"، يقول أبي، "إذ إنك تذيب نفسك كملك لتستحيل
تراباً وتُظهر نفسك كدرويش. لكن بعد أن
رحل شمس إلى الأبد، رحلتُ أنا أيضاً، ولم أعد عالماً ولا خطيباً. إنني أجسّد العدم. ها هنا فنائي، ها هنا بقائي".
منذ
عدة أيام، قرع باب بيتنا تاجر أحمر الشعر، بدا أنه أسوأ كذاب على وجه الأرض. فقد قال إنه يعرف شمس التبريزي منذ سنوات
عندما كان في بغداد، ثمّ انخفض صوته واستحال
همساً سرياً، وأقسم أن شمس حيّ وبصحة جيدة، وقال إنه يقيم في مكان بعيد عن الأعين
ويمارس التأمّل في أشرم بالهند، وأنه ينتظر الوقت الملائم حتى يظهر.
وعندما
كان يقول ذلك، لم يبد على وجهه أي أثر للصدق،
لكن أبي أخذ يهذي، وسأل الرجل ماذا يريد لقاء هذا النبأ العظيم. ومن دون أي إحساس بالخجل، قال التاجر إنه عندما كان صبياً صغيراً كان
يرغب في أن يصبح درويشاً، لكن بما أن الحياة جرفته باتجاه آخر، فهو يرغب في أن
يحصل، على الأقل، على قفطان رجل دين مشهور كالرومي. عندها، خلع أبي قفطانه المخملي وقدمه له.
"لكن
يا أبي، لماذا أعطيت قفطانك الثمين إلى هذا الرجل وأنت تعلم أنه يكذب؟"،
سألته عندما غادر الرجل.
فقال
أبي: "ألا تظن أن ثمن القفطان يساوي ثمن أكذوبته؟ لكن يا ولدي العزيز، تخيّل، لو كان صادقاً في
قوله، لو كان شمس لا يزال حياً، لكنت مستعداً لتقديم حياتي من أجله".
الرومي
قونية، 31 تشرين الأول (أكتوبر) 1260
مع
الزمن، يتحوّل الألم إلى حزن، ويتحوّل الحزن إلى صمت، ويتحوّل الصمت إلى وحدة ضخمة
وشاسعة كالمحيطات المظلمة. يصادف اليوم
الذكرى السادسة عشرة للقائي بشمس أمام خان تجار السكر. لقد أصبحت أخلو إلى نفسي التي بدأت تزداد ثقلاً
يوماً بعد يوم، أخلو إليها في آخر يوم من شهر تشرين الأول (أكتوبر) في كلّ سنة
لمدة أربعين يوماً، وأتمعّن في القواعد الأربعين.
أتذكّر كل قاعدة وأراجعها، لكن لا يوجد في حواف عقلي البعيدة إلا شمس
التبريزي، متألقاً.
يخيّل
إليك أنه لم يعد بوسعك مواصلة الحياة، يخيّل إليك أن نور روحك قد انطفأ، وأنك
ستعيش في الظلام إلى الأبد، لكن عندما يبتلعك هذا الظلام الدامس، عندما تطبق عيناك
على العالم، تُفتح عين ثالثة في قلبك.
عندها فقط تدرك أن البصر يتناقص مع المعرفة الداخلية، فلا يمكن لعين أن ترى
بوضوح وبحدة مثل عين العشق. وبعد الحزن
يأتي فصل آخر، واد آخر، أنت آخر. وتبدأ
برؤية الحبيب الذي لا يمكن ان تجده في أي مكان، تراه في كل مكان.
تراه
في قطرة الماء التي تسقط في المحيط، في المدّ الذي يلي ظهور القمر، أو في نسيم
الصباح الذي ينشر رائحته النقية الطازجة، تراه في الرموز والأشكال التي تتشكل في
الرمل، وفي الجزيئات الصغيرة لصخرة تتألّق تحت أشعة السمي، في ابتسامة رضيع حديث
الولادة، أو في أحد عروقك النابضة. كيف
يمكنك القول إن شمس قد ذهب وهو موجود في كل مكان وفي كلّ شيء؟
وفي
عمق ثنايا الحزن والشوق الذين يدوران ببطء، أكون برفقة شمس في كلّ يوم، في كلّ
دقيقة. إن صدري كهف يقبع فيه شمس مرتاحاً،
وكما يحتفظ الجبل بالصدى في داخله، يقبع صوت شمس في داخلي. ولم يبق فيّ، من العالم والخطيب الذي كنته، ولا
حتى أصغر نقطة. فقد جرف العشق كلّ
ممارساتي وعاداتي، وملأني بدلاً من ذلك بالشِّعر.
ومع أنني أعرف أنه لا توجد كلمات قد تعبّر عن رحلتي الداخلية تلك، فإني
أؤمن بالكلمات. أنا مؤمن بالكلمات.
لقد
ساعدني شخصان في أيامي العصيبة: بكر أولادي ووليّ يدعى صلاح الدين، طارق
الذهب. فعندما كنت أستمع إليه وهو يعمل في
دكانه الصغير، يطرق أوراق الذهب إلى درجة الكمال، أتاني أروع إلهام لوضع اللمسات
الأخيرة على رقصة الدراويش، فقد كان الإيقاع المنبعث من دكان صلاح الدين يشبه نبض
الكون، الإيقاع الإلهي الذي تحدّث عنه شمس، والذي اهتممت به كثيراً.
ومع
مرور الوقت، تزوّج ابني الأكبر فاطمة، ابنة صلاح الدين، التي كانت تذكّرني بكيميا،
بذكائها وحبها للمعرفة. فعلّمتها القرأن،
وأصبحت عزيزة عليّ إلى حد أنني بدأت أشير إليها بعيني اليمنى،
وإلى أختها هدية بعيني اليسرى. هذا ما أثبته لي غاليتي كيميا منذ زمن بعيد:
بأن الفتيات تلميذات نجيبات كما هم الفتيان، إن لم يكنّ أفضل منهم، وبدأت أرتّب
جلسات الرقصة الصوفية "السما" للنساء، وأنصح أخواتي الصوفيات أن يواصلن
ممارستها.
وقبل
أربع سنوات بدأت أنظم "المثنوي"، فقد خطر ببالي السطر الأول منه في فجر
أحد الأيام من لا شيء، بينما كنت أراقب نور الشمس وهو يقسّم الظلام إلى
شرائح. ومنذ ذلك الحين، بدأت القصائد
تتدفق من بين شفتيّ من تلقاء نفسها. ولم
أكتبها، وتجشّم صلاح الدين عناء كتابة تلك القصائد المبكّرة، ونسخها ابني كلها.
وبفضله عاشت هذه القصائد، لأنه لو طلب مني أن أتذكر أي قصيدة منها اليوم، فلن
أتمكن من تذكرها. وسواء أكانت نثراً أم
شعراً، فقد كانت الكلمات تنثال عليّ أسراباً ثم تغادرني بالسرعة التي تأتي بها،
كالطيور المهاجرة. فما أنا سوى سرير الماء
الذي تتوقف عليه وتستريح وهي في طريقها إلى المناطق الأكثر دفئاً.
وعندما
كنت أبدأ قصيدة، لم أكن أعرف ما سأقوله سلفاً، ولم أكن أخطط هل ستكون القصيدة
طويلة أم قصيرة. وعندما تنتهي القصيدة،
كان يتملكني الهدور مرة أخرى، فأعيش بصمت.
وكانت كلمة صمت، او "خاموش"، أحد التوقيعين اللذين أوقع بهما
الغزليات، أما التوقيع الآخر فكان اسم شمس التبريزي.
إن
العالم يتحرّك ويتغيّر بسرعة لا نستطيع نحن البشر التحكم بها أو فهمها. فقد سقطت بغداد بيد المغول في العام 1258. لقد منيت المدينة التي كانت تفتخر بصمودها وشجاعتها وسحرها
وروعتها،
والتي كانت مركز العالم بالهزيمة، ومات صلاح
الدين في تلك السنة، وأقمت أنا ودراويشي احتفالاً ضخماً، وجبنا الشوارع نقرع
الطبول ونعزف المزامير، ونرقص ونغني مبتهجين،
لأن الأولياء يدفنون هكذا.
في
العام 1260 هُزم المغول على يد المماليك المصريين، وأصبح منتصرو الأمس المهزومين
اليوم، فكلّ منتصر ينحو للاعتقاد بأنه سيكون منتصراً إلى الأبد، وكلّ مهزوم يميل
إلى الاعتقاد بأنه سيكون مهزوماً إلى الأبد، لكن كلاهما مخطئ للسبب ذاته: فكلّ شيء
يتغير إلا الله.
وبعد
موت صلاح الدين، ساعدني حسام، المريد الذي نضج بسرعة وسار على الدرب الروحي، والذي
أصبح يناديه الجميع حسام شلبي، في تدوين أشعاري، وهو الذي أمليت عليه كتاب
"المثنوي" كله. كان متواضعاً
وكريماً، وكان إذا سئل من هو أو ماذا يفعل، يجيب بلا تردد: "أنا مريد متواضع
من مريدي شمس التبريزي. هذا أنا".
وشيئاً
فشيئاً، يبلغ المرء الأربعين، ثم الخمسين، ثم الستين من العمر، ومع مرور كلّ عقد،
يبدو أنه ازداد اكتمالاً، ويتعين عليه مواصلة السير، مع أنه لا توجد نقطة معينة
يمكن بلوغها. فالكون يدور، بثبات
واستمرار، وكذلك الأرض والقمر، لكن ما يجعله يتحرك هو سرّ يكمن في داخلنا نحن
البشر. وبهذه المعرفة، سنرقص نحن الدراويش
بطريقتنا من خلال الحبّ والأسى حتى لو لم يفهم أحد ما نفعله. سنرقص في خضم القلاقل أو في وسط الحرب.
سنرقص في جراحنا وحزننا، ببهجة وانتشاء،
وحدنا معاً، ببطء وبسرعة، مثل تدفق الماء. سنرقص في دمنا. يوجد انسجام كامل وتوازن دقيق في كلّ ما في
الكون وكلّ ما فيه. وتتغيّر النقاط
باستمرار، وتحلّ إحداها محل الأخرى، لكن الدائرة تظل كما هي. وها هي القاعدة التاسعة والثلاثون: مع أن
الأجزاء تتغيّر، فإن الكلّ يظل ذاته، لأنه عندما يغادر لصّ هذا العالم، يولد لصّ
جديد، وعندما يموت شخص شريف، يحلّ مكانه شخص شريف آخر. وبهذه الطريقة لا يبقى شيء من دون تغيير، بل لا
يتغيّر شيء أبداً أيضاً.
لأنه
مقابل كلّ صوفي يموت، يولد صوفي آخر في مكان ما في العالم.
إن
ديننا هو دين العشق، وجميع البشر مرتبطون بسلسلة من القلوب. فإذا انفصلت حلقة منها، حلّت محلها حلقة أخرى
في مكان آخر، ومع موت كلّ شمس تبريزي، يظهر شمس جديد في عصر مختلف، باسم مختلف.
إن
الأسماء تتغيّر، تأتي وتذهب، لكن الجوهر يبقى ذاته.
إيلا
قونية، 7 أيلول (سبتمبر) 2009
كانت
إيلا نائمة على كرسي بلاستيك بجانب سريره، عندما فتحت عينيها فجأة وراحت تسمع
صوتاً غير متوقع. فقد كان أحد يتفوه
بكلمات لم تسمعها من قبل في الظلام، ثم أدركت أن صوت الأذان الذي يدعو إلى صلاة
الفجر آت من الخارج. كان يوماً جديداً على
وشك أن يبدأ، لكن اعتراها إحساس بأنه سيكون أيضاً نهاية شيء ما.
اسأل
أي شخص سمع صوت الأذان الداعي إلى صلاة الصبح لأول مرة، وسيقول لك الشيء
ذاته. يا له من إحساس غريب، يكاد يكون
مخيفاً. كالعشق تماماً.
في
هدأة الليل، أفاقت إيلا على هذا الصوت.
رمشت بعينيها عدة مرات في العتمة حتى تمكّنت من إدراك الصوت الذكوري الذي
ملأ الغرفة من النوافذ المفتوحة. استغرقت
دقيقة كاملة لتتذكر أنها لم تعد في ماساشوستس.
ولم يكن هذا هو البيت الواسع الذي تعيش فيه مع زوجها وأطفالها
الثلاثة. كان كلّ ذلك يعود إلى زمن آخر –
زمن
سحيق، وشديد الغموض إلى حد أنها أحست بأنها
تعيش في إحدى قصص الجنيات، ليس مثل ماضيها.
لا،
إنها ليست في ماساشوستس، بل في بقعة أخرى من بقاع هذا العالم، في مستشفى في مدينة
قونية بتركيا، والرجل الذي يتنفّس بانتظام وبعمق الذي سمعته الآن يدعو بصوت خفيض
رقيق إلى صلاة الصبح ليس زوجها الذي تزوجته منذ عشرين سنة، بل العشيق الذي تركت
زوجها من أجله ذات يوم مشمس في الصيف الماضي.
"هل
ستتركين زوجك من أجل رجل لا مستقبل له؟"، لم يتوقف أصدقاؤها وجيرانها عن
سؤالها: "وماذا عن أطفالك؟ هل تظنين أنهم سيغفرون لك؟".
هكذا
فهمت إيلا أنه كان هناك شيء في نظر المجتمع أسوأ من أن تهجر امرأة زوجها إلى رجل
آخر، فهو أنها امرأة تهجر مستقبلها من أجل الحاضر.
أضاءت
مصباح المنضدة وراحت تتفحص وهجها العنبري الناعم، كأنها تريد أن تتأكد من أن شيئاً
لم يتغيّر منذ أن غطت في النوم منذ سويعات.
كانت أصغر غرفة في مستشفى رأتها في حياتها، مع أنها لم تر مستشفيات كثيرة
في حياتها. فقد شغل السرير معظم مساحة
الغرفة، ورتب كلّ شيء آخر بحسب وضعية السرير – خزانة خشب، ومنضدة صغيرة مربّعة،
وكرسي إضافي، ومزهرية فارغة، وصينية فيها حبوب بألوان مختلفة، وإلى جانبها الكتاب
الذي كان عزيز يقرأ منذ بداية هذه الرحلة: "أنا والرومي".
مضى
على وصولهما إلى قونية أربعة أيام، وأمضيا الأيام الأولى في
المدينة مثل جميع السيّاح الذين يزورون
المدينة – المناطق الأثرية، والمتاحف، والمواقع الأثرية – وتناولا الأطباق
المحلية، وأخذا صوراً لكلّ شيء جديد، مهما كان عادياً أو سخيفاً. كان كلّ شيء يسير على ما يرام، حتى البارحة،
عندما نُقل عزيز إلى أقرب مستشفى، بعد أن انهار وسقط على الأرض عندما كانا
يتناولان الغداء في أحد المطاعم. ومنذ ذلك
الحين، راحت تنتظر بجانب سريره، لا تعرف ماذا سيحدث، تأمل عكس الأمل، وفي نفس
الوقت، تتشاجر بصمت مع الله لأنه استردّ بسرعة العشيق الذي منحها إياه في وقت
متأخر من حياتها.
"عزيزي،
هل أنت نائم؟"، سألته إيلا. لم تكن
تنوي إزعاجه، لكنها كانت تريد أن يكون مستيقظاً".
لم
يأتها أي ردّ سوى فترة هدوء عابرة في إيقاع تنفّسه، نبرة مفقودة في السلسلة.
"هل
أنت مستيقظ ؟"، سألته همساً، ثم رفعت صوتها.
"استيقظت
الآن"، قال عزيز ببطء، "ماذا في الأمر، ألم تنمي؟".
"صلاة
الصبح . . ."، قالت إيلا، وتوقفت كما لو أنّ ذلك يفسر كلّ شيء: صحته
المتدهورة، خوفها المتزايد من أن تفقده، والحماقة المطلقة التي ينطوي عليها العشق –
كلّ شيء يغلّف هذه الكلمات الثلاث.
استوى
عزيز جالساً، عيناه الخضراوان من دون أن ترمش عيناه. وتحت ضوء المصباح الناعم، محاطاً بالشراشف
البيض، بدا وجهه الجميل شاحباً على نحو محزن، لكن كان يوجد كذلك شيء قوي، بل حتى
خالد فيه.
"إن
صلاة الصبح خاصة"، همهم قائلاً: "هل تعرفين أن من بين الصلوات الخمس
المفروضة على المسلم كلّ يوم، يقال إن صلاة الصبح أكثرها قداسة، لكنها أيضاً
أكثرها اختباراً؟".
"أظن
لأنها توقظنا من أحلامنا، ونحن لا نحبّ ذلك، بل نفضّل أن نتابع نومنا، لذلك توجد
عبارة في أذان الصبح لا توجد في أذان أوقات الصلاة الأخرى وهي: الصلاة خير من
النوم".
لكن
ربما كان النوم خيراً لكلينا، قالت إيلا لنفسها.
لشدّ ما كنت أتمنى أن ننام معاً.
كانت تشتاق إلى نوم هادئ، سهل، لا يقلّ سحراً عن نوم الحسناء النائمة، نوم
هادئ لمائة سنة حتى تخفف من حدة هذا الألم.
وبعد
قليل، توقف الأذان، وابتعدت أصداؤه كالموجات.
وبعد أن تلاشى الصوت الأخير، بدا العالم هادئاً على نحو غريب، لكنه كان
صامتاً على نحو لا يطاق. لقد مضى عام على
لقائهما، سنة من الحبّ والإدراك. وفي معظم
تلك الفترة، مكنت صحة عزيز الجيدة من مواصلة السفر برفقة إيلا، لكن صحته بدأت
تتدهور في الأسبوعين الماضيين.
راحت
إيلا تراقبه وهو ينام ثانية. كان وجهه
هادئاً وعزيزاً. امتلأ عقلها
بالهواجس. تنهّدت بعمق وخرجت من الغرفة. مشت في الممرات التي طليت جدرانها بظلال من
اللون الأخضر، وزارت عدة أجنحة رأت فيها مرضى، من المسنين والشباب، من الرجال
والنساء، بعضهم أخذ يتماثل للشفاء، بينما أخذ المرض يشتد على بعضهم الآخر.
حاولت ألا تبالي بنظرات الناس الفضولية، لكن شعرها الأشقر وعينيها
الزرقاوين جعلت غربتها متألقة، فلم تشعر أنها في المكان غير الملائم. مع أن إيلا لم تكن كثيرة السفر والترحال.
بعد
عدة دقائق، وجدت نفسها تجلس بالقرب من بركة في حديقة المستشفى الصغيرة اللطيفة،
حيث ينتصب في وسط البركة تمثال لملاك صغير، والتمعت في قعر البركة بضع قطع نقدية
فضّية، تحمل كلّ منها أمنية سرية لأحدهم.
تلمّست في جيوبها وبحثت عن قطعة معدنية، لكنها لم تجد شيئاً سوى قصاصات
خربشت عليها بعض الكلمات وبعض الخطوط، وما إن وقعت عيناها على الحديقة، حتى رأت
بعض الحصى، ناعمة، سوداء، براقة. التقطت
إحداها، وأغمضت عينيها، وألقت بها في البركة، ودمدمت شفتاها أمنية تعرف أنها لن
تتحقق. ارتطمت الحضى بحائط البركة وارتفعت
ثم سقطت في حضن الملاك المصنوع من الحجر.
لو
كان عزيز هنا، قالت إيلا لنفسها، لرأى فيها علامة.
عندما
عادت بعد قرابة نصف ساعة، وجدت طبيباً وممرضة شابة تغطي رأسها بمنديل في الغرفة،
وقد غطت ملاءة السرير وجه عزيز. لقد مات.
***
دفن
عزيز في قونية، اقتداء بمحبوبه الرومي.
قامت
إيلا بجميع التحضيرات، وحاولت أن تنفذ جميع التفاصيل الصغيرة، لكنها كانت تثق
أيضاً بأن الله سيساعدها في الأمور التي لا تستطيع عملها. ففي البداية، أعدّت قطعة الأرض التي سيدفن
فيها،
تحت شجرة مانوليا ضخمة في مقبرة إسلامية
قديمة، ثمّ وجدت عازفين صوفيين وافقوا على عزف الناي خلال مراسم الدفن، وبعثت
رسائل إلكترونية إلى أصدقاء عززي في كل مكان، ووجهت إليهم الدعوة لحضور
الجنازة. وسعدت كثيراً، لأن عدداً كبيراً
منهم حضروا من أماكن بعيدة، من كيب تاون، ومن سان بطرسبورغ، ومن مرشد آبار، ومن ساو
باولو. وكان بينهم مصورون مثله، وعلماء،
وصحفيون، وكتّاب، وراقصون، ونحّاتون، ورجال أعمال، ومزارعون، وربّات بيوت،
والأطفال الذين تبناهم عزيز.
تمت
مراسم دفن دافئة حضرها أشخاص من جميع المعتقدات.
وقد احتفلوا بموته، كما كان يرغب، ولعب الأطفال بسعادة، ووزّع شاعر مكسيكي
"خبز الموتى"، ونثر أصدقاء عزيز القدامي وهو شخص إسكتلندي بتلات ورد على الجميع، تناثرت فوق رؤوسهم، كانت كلّ بتلةٍ شهادةَ ملوّنة بأن الموت شيء يجب ألا يخشاه الإنسان. وقال أحد أهالي قونية، وهو شيخ مسلم محني الظهر، كان يراقب المشهد كله بابتسامة عريضة وعينين ثاقبتين، إنه لم ير جنازة كهذه في تاريخ قونية، فضلاً عن جنازة مولانا منذ قرون خلت.
"خبز الموتى"، ونثر أصدقاء عزيز القدامي وهو شخص إسكتلندي بتلات ورد على الجميع، تناثرت فوق رؤوسهم، كانت كلّ بتلةٍ شهادةَ ملوّنة بأن الموت شيء يجب ألا يخشاه الإنسان. وقال أحد أهالي قونية، وهو شيخ مسلم محني الظهر، كان يراقب المشهد كله بابتسامة عريضة وعينين ثاقبتين، إنه لم ير جنازة كهذه في تاريخ قونية، فضلاً عن جنازة مولانا منذ قرون خلت.
وبعد
مضي يومين على الجنازة، بعد أن عادت إيلا أخيراً إلى وحدتها، راحت تطوف في أرجاء
المدينة، تراقب الأسر التي تمر بجانبها، والتجار في محلاتهم، والباعة الجوالين الذي
كانوا يلحون عليها لشراء أيّ شيء. كان
الناس يحدّقون في هذه المرأة الأمريكية التي تمشي في وسطهم، بعينيها المتورمتين من
البكاء. كانت غريبة تماماً هنا، غريبة في
كل مكان.
عادت
إيلا إلى الفندق، وقبل أن سدد حسابها وتغادر إلى المطار، خلعت سترتها وارتدت بلوزة
من صوف أنقرة بلون الخوخ، لون وديع ورقيق بالنسبة لامرأة تحاول ألاّ تكون كذلك،
قالت لنفسها، ثمّ اتصلت بجانيت، التي دعمتها، من بين أطفالها الثلاثة، في قرارها
باتباع قلبها، وأصرت أورلي وآفي على ألاّ يتكلما مع أمّهما.
"ماما
كيف حالك؟"، سألتها جانيت، بصوتها المفعم بالدفء.
مالت
إيلا إلى الأمام في المكان الفارغ، وابتسمت كما لو كانت ابنتها تقف أمامها، ثمّ
قالت بصوت يكاد يكون مسموعاً، "لقد مات عزيز".
"آه
يا أمي، البقية في حياتك".
سادت
لحظات من السكون عندما راحتا تتأمّلان ما تريدان قوله بعد ذلك. وكانت جانيت هي أول من خرجت عن صمتها، وقالت:
"ماما، هل ستعودين إلى البيت الآن؟".
أحنت
إيلا رأسها، وراحت تفكر. فقد سمعت في سؤال
ابنتها سؤالاً آخر لم يخطر لها. هل ستعود
إلى زوجها في نورثامبتون، وتوقف عملية الطلاق، التي تحوّلت إلى متاهة من الاستياء
المتبادل والاتهامات؟ ماذا ستفعل الآن،
فهي لا تملك نقوداً، ولا يوجد لديها عمل، لكن بإمكانها أن تعطي دروساً خصوصية
باللغة الإنكليزية، أو أن تعمل في إحدى المجلات، أو من يعرف، فقد تصبح ذات يوم
محرّرة جيدة لأعمال أدبية مهمة.
أغمضت
إيلا عينيها للحظة،وتنبّأت لنفسها بثقة وبسعادة ما ستحمل لها الأيام القادمة. وبالرغم من أنها لم تكن وحيدة هكذا من قبل، فلم
تشعر بالوحدة حقاً.
قالت:
"لقد اشتقت إليك يا حبيبتي، واشتقت إلى أخيك وأختك أيضاً. هل ستأتون لزيارتي؟".
"طبعاً
يا أمي – سنأتي – لكن ماذا ستفعلين الآن؟
هل أنت متأكّدة من انك لن تعودي؟".
فقالت
إيلا: "سأذهب إلى آمستردام، حيث توجد شقق صغيرة جميلة تطل على القنوات. يمكنني أن أستأجر واحدة. يجب أن أتعلم ركوب الدراجة الهوائية. لا أعرف . . . لن أضع خططاً، يا حبيبتي. سأحاول أن أعيش يوماً، وسأرى ما سيقوله لي
قلبي، فهذه قاعدة من القواعد، أليس كذلك؟".
"أي
قواعد يا أمّي؟ عمَّ تتحدّثين؟".
اقتربت
إيلا من النافذة ونظرت إلى السماء الزرقاء في كلّ الجهات، ودارت بسرعة من تلقاء
ذاتها، وتلاشت وذابت في العدم، وواجهت احتمالات كثيرة، مثل درويش يدور حول نفسه.
قم قالت
ببطء: "تقول القاعدة الأربعون: لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم
مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي . . . فالانقسامات لا تؤدّي إلاّ إلى مزيد من
الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات
ولا تعارف. إنه كما هو، نقي وبسيط.
"العشق
ماء الحياة. والعشيق هو روح النار!
"يصبح
الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق