الجزء
الثالث
الريح
الأشياء
التي تتحرّك، تتطوّر، وتتحدى
المتعصِّب
قونية، 19 تشرين
الأول (أكتوبر) 1244
كانت الكلاب تنبح
أسفل نافذتي المشرعة على مصراعيها. استويت
في جلستي على السرير، أو سكيراً قذراً يمرّ من أمام البيت. فلم يعد الناس المحترمون ينعمون بنوم هادئ، بعد
أن انتشر الفسق والفجر في كل مكان. لكن
الحال لم يكن كذلك في الماضي، فقد كانت هذه المدينة أكثر أماناً منذ بضع
سنوات. وفي رأيي أن الفساد الأخلاقي لا
يختلف كثيراً عن الإصابة بمرض فظيع يأتي فجأة وينتشر بسرعة، فيصيب الأغنياء
والفقراء، الصغار والكبار على حد سواء.
وهذا هو حل مدينتنا اليوم. ولو لا
عملي في المدرسة، لما غادرت البيت.
وإني
أحمد الله على أنه يوجد أناس يقدمون مصلحة المجتمع على مصالحهم ويعملون ليل نهار
لفرض النظام. ومنهم بيبرس، ابن أخي الشاب،
الذي يحبه الناس والذي أفتخر به أنا وزوجتي.
ومما يثلج صدري أن بيبرس ورفاقه الحرّاس يجوبون أطراف المدينة لحمايتنا، في
هذه الساعة المتأخرة من الليل، عندما يعيث الأوغاد والمجرمون والسكارى فساداً.
عندما توفي أخي
أصبحت ولي أمر بيبرس. كان شاباً،
متعصّباً، وكان قد بدأ عمله حارساً منذ ستة أشهر.
ويدّعي الثرثارون أنه حصل على هذا العمل لأنني أعمل معلّماً في المدرسة. لكنني أجيبهم بأن ما يقولونه هراء، لأن بيبرس
شاب قوي وشجاع ومؤهل لهذا العمل، وقد يكون جندياً ممتازاً أيضاً. فقد كان متحمساً للذهاب إلى القدس لقتال
الصليبيين، لكني قررت أنا وزوجتي أنه حان الأوان له لكي يستقرّ وينشئ أسرة.
"قلت
له: إننا بحاجة إليك هنا يا بني، حيث توجد
أشياء كثيرة تجب مواجهتها أيضاً".
وبالفعل توجد
أمور تجب محاربتها هنا. وفي هذا الصباح
بالذات، قلت لزوجتي إننا نعيش في أوقات عصيبة.
وليس من قبيل الصدفة أن نسمع كلّ يوم عن وقوع مأساة جديدة. فإذا انتصر المغول، وإذا تمكن المسيحيون من نشر
رسالتهم، وإذا رأينا أعداء الإسلام يدمرون ويسلبون وينهبون مدينة إثر مدينة، وقرية
بعد قرية، فذلك لأن الناس أصبحوا مسلمين بالاسم فقط. فعندما لا يتمسك الناس بأهداب الدين ولا
يعتصمون بحبل الله، فإنهم سيضلون السبيل.
فقد أرسل الله المغول، لوقع زلزال أو حلّت مجاعة أو فيضان. كم كارثة يجب أن تصيبنا بسبب الآثمين الذين
يعيثون فساداً في هذه المدينة حتى يفهموا الرسالة ويتوبوا؟ وفي المرة القادمة أخشى
أن تمطرنا السماء بالحجارة. وفي يوم قريب،
سنزول جميعاً من الوجود، ونقتفي آثار قوم سدوم وعمورة.
أما هؤلاء
الصوفيون، فتأثيرهم السيئ شديد. فكيف
يجرؤون على تسمية أنفسهم مسلمين وهم يرددون أشياء لا تمت إلى الإسلام بصلة، أشياء
يجب ألا تخطر على بال أي مسلم أو يفكّر بها.
إذ يبدأ دمي يغلي عندما أسمعهم يذكرون اسم النبي صلى الله عليه وسلم،
لينشروا آراءهم وأفكارهم السخيفة. فهم
يدّعون أن النبي محمد قال بعد إحدى المعارك التي خاضها، بأننا عدنا من الجهاد
الأصغر إلى الجهاد الأكبر –مجاهدة النفس-.
ويجادل الصوفيون أنه منذ ذلك الحين أصبحت "النفس" الخصم الوحيد
الذي يحاربه المسلم. يبدو هذا الكلام
لطيفاً، لكني أتساءل كيف سيساعد ذلك في محاربة أعداء الإسلام؟
بل يذهب الصوفيون
شأواً بعيداً إلى حدّ أنهم يدّعون أن الشريعة مجرد مرحلة في الطريق. وأنا أتساءل أي مرحلة، عمّا يتكلمون؟ وكأن هذا بحد ذاته يا يثير الخوف والقلق، فإنك
تراهم يجادلون بأن الشخص المتنوّر لا يمكن أن تقيّده قواعد المراحل الأولى. وبما أنهم
يدّعون أنهم بلغوا مرتبة سامية، فإنهم يتخذون ذلك ذريعة لتجاهل قواعد
الشريعة وعدم الأخذ بها بجدية. إذ يبدو
أنهم يعتبرون الشراب والرقص والموسيقى والشعر والرسم أموراً أهم من الواجبات
الدينية. ويقولون بما أنه لا توجد تراتبية
في الإسلام، فإنه يحق لكلّ إنسان البحث عن الله.
في الظاهر يبدو هذا الكلام جيداً لا ضرر منه ولا أذية، لكن بعد التعمق في
الأمر، يتبين لك وجود جانب شرّير في فحوى كلامهم، وهو أنه لا حاجة للاستماع إلى
الهيئة الدينية.
ويعتبر الصوفيون
أن القرآن الكريم مليء بالرموز الغامضة والتلميحات المتعددة الطبقات، وأنه يجب
تفسير كلّ منها بطريقة
صوفية باطنية.
لذلك فهم يدرسون كيف أن كلّ كلمة تتحول إلى عدد، ويدرسون المعنى الخفي
للأعداد، ويبحثون عن الإشارات والمراجع الخفية في النص، ويبذلون كلّ ما بوسعهم
لتحاشي قراءة رسالة الله بسهولة ووضوح.
بل يدّعي بعض
الصوفيين أن البشر هم القرآن الناطق نفسه.
فإذا لم يكن هذا الكلام كفراً مطلقاً، فأنا لا أعرف ما هو؟ وهناك الدراويش الجوّالون، وهم مجموعة مشوشة
أخرى من الأشخاص غير الأسوياء الذين اختلطت عليهم الأمور. القلندرية والحيدرية –وأسماء كثيرة عدة يعرفون
بها. وأنا أقول إنهم أسوأ خلق الله. فما هي الأمور المفيدة التي يمكن أن يجلبها رجل
لا يمكنه الاستقرار في مكان واحد. فإذا لم
يكن لدى المرء إحساس بالانتماء، فقد يطوف في جميع الاتجاهات، مثل ورقة شجرة هشيم
تذروها الرياح. إنه الضحيّة المثالية
للشيطان.
وأما الفلاسفة
فهم ليسوا بأفضل حال من الصوفيين، فهم يجترّون ويفكّرون وكأن عقولهم المحدودة
تستطيع أن تدرك غموض الكون. وهناك قصّة
تشير إلى ما بين الفلاسفة والصوفيين من تواطؤ.
في أحد الأيام
التقى فيلسوف بدرويش، وسرعان ما أصبحا على وئام.
وراحا يتحدثان لأيام وأيام، يكمّل أحدهما جملة الآخر.
وأخيراً، عندما
افترقا، قال الفيلسوف عن الحديث الذي دار بينهما، "إن كلّ ما أعرفه،
يراه".
وأخيراً قال
الصوفي: "إن كلّ ما أراه، يعرفه".
وهكذا فإن الصوفي
يعتقد بأنه يرى، ويعتقد الفيلسوف بانه يعرف.
وفي رأيي فهم لا
يرون شيئاً ولا يعرفون شيئاً. أفلا يدركون
أننا نحن، معشر البشر، باعتبارنا كائنات فانية، ببساطتنا وقدراتنا المحدودة، لا
ينتظر منا أن نعرف أكثر مما ينبغي لنا أن نعرفه؟ إذ إن أكثر ما يستطيع الإنسان أن
يحققه هو الحصول على قدر يسير من المعلومات عن الله. هذا كلّ شيء.
ولا تكمن مهمّتنا في تفسير تعاليم الله، بل في إطاعتها والعمل بها.
عندما يعود بيبرس
إلى البيت فإننا سنتحدّث في هذه الأمور.
فقد أصبح ذلك عادة من عاداتنا، وطقوسنا الصغيرة. ففي كلّ ليلة بعد أن ينهي دوريته، يتناول الحساء والخبز الذي تعدّه له زوجتي،
ونتحدث عما يجري من أحداث في هذه المدينة.
ويسرّني كثيراً أن أرى أن شهيته للطعام جيدة. لأنه يجب أن يكون قوياً، إذ إن أمامه كشاب يحمل
مبادئ، الكثير من العمل في هذه المدينة الشريرة.
شمس
قونية، 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
قبل ليلة واحدة
فقط من لقائي بالرومي، جلست على الشرفة في خان تجار السكّر. كان قلبي يتقد فرحاً بعظمة وروعة الكون الذي
خلقه الله على صورته، لذلك أينما استدرنا ونظرنا، نستطيع أن نبحث عنه وأن
نجده. لكن البشر نادراً ما يفعلون ذلك.
تذكّرت الأشخاص
الذين التقيت بهم: الشحاذ والمومس والسكران.
أناس عاديون يعانون من مرض مشترك وهو الانفصال عن الواحد الأحد. هذا النوع من الناس الذين لا يراهم العلماء،
الذين يجلسون في أبراجهم العاجيّة.
وتساءلت هل يختلف الرومي عنهم؟
وقلت لنفسي إنه إذا لم يكن مختلفاً، فيجب أن أكون الواسطة بينه وبين قاع
المجتمع.
وأخيراً غطّت
المدينة في سبات عميق. وفي ذلك الوقت من
الليل، ترفض حتى الحيوانات الليلة أن تعكّر صفو الهدوء المخيّم على المنطقة. إن الإنصات إلى المدينة وهي غافية يجعلني
حزيناً وسعيداً في وقت واحد، وأتساءل ما نوع القصص التي تروى وراء الأبواب
الموصدة، وما هي القصص التي قد أعيشها لو أنني خُيِّرت
سلوك طريق آخر. لكني لم أختر، بل الطريق
هو الذي اختارني.
تذكّرت حكاية
تقول إن درويشاً جوّالاً وصل إلى بلدة لا يثق أهلها بالغرباء، فصاحوا به:
"اخرج! فلا أحد يعرفك هنا".
فأجاب الدرويش
بهدوء، "نهم، لكني أعرف نفسي، صدّقوني، كان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ
بكثير لو كان غير ذلك".
فما دمت أعرف
نفسي، فإن الأمور ستسير على ما يرام. فمن
يعرف نفسه، يعرف الواحد الأحد.
غمرني القمر بوهج
شعاعه الدافئ. وبدأ رذاذ ناعم يهمني على
المدينة، رهيفاً مثل وشاح حريري. شكرت
الخالق على هذه اللحظة المباركة، وأسلمت نفسي بين يديه. وتذكّرت أن الحياة هشة وقصيرة، وتذكّرت قاعدة
أخرى: ما الحياة إلا دين موقت، وما هذا العالم إلا تقليد هزيل للحقيقة. والأطفال فقط هم الذين يخلطون بين اللعبة
والشيء الحقيقي. ومع ذلك، فإمّا أن يفتتن
البشر باللعبة، أو يكسروها بازدراء ويرموها جانباً. في هذه الحياة تحاشى التطرف بجميع أنواعه، لأنه
سيحطّم اتزانك الداخلي.
فالصوفي لا يتصرف
بتطرف، بل يظل متسامحاً، ومعتدلاً على الدوام.
في صباح
الغد سأتوجه إلى المسجد الكبير وأستمع إلى الرومي. فقد يكون خطيباً عظيماً كما يقول الجميع عنه،
لكن أهمية وشعبية كلّ خطيب تقاسان في النهاية بعدد الأشخاص الذين يأتون لسماع
خطبه. قد تكون كلمات الرومي مثل حديقة
برّية، مليئة بالنباتات والأعشاب
والصنوبر والشجيرات، لكنه يحق للزائر دائماً أن يلتقط
منها ما يشاء. ففي حين يهرع الكثيرون إلى
قطف الأزهار الجميلة في الحال، فإن قلة قليلة تبدي اهتماماً بالنباتات ذات
الأشواك، لكن الحقيقة هي أنه يمكن صنع أدوية عظيمة منها.
ألا
ينطبق الأمر نفسه على حديقة العشق؟ كيف
يمكن للعشق أن يكون جديراً باسمه ما لم يختر المرء منه إلا الأشياء الجميلة، ويترك
الأشياء الصعبة؟ فمن السهل الاستمتاع
بالأشياء الجيدة، والنفور من الأشياء السيئة.
يمكن لأي امرئ أن يفعل ذلك. لكن
التحدي الحقيقي هو أن يحبّ المرء الأشياء الجيدة والسيئة معاً، لا لأنه يجب أن
يقبّل الأشياء بحلوها ومرّها، بل لأنه يجب أن يتجاوز هذه الأوصاف، وأن يقبّل الحبّ
برمته.
لم يبق سوى يوم
واحد حتى ألتقي برفيقي. لقد جافاني النوم.
أيها الرومي! ملك
عالم الكلمات والمعاني! هل ستعرفني عندما تراني؟
لنلتق!
الرومي
قونية، 31 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
إنه ليوم مبارك
حقاً، فقد التقيت شمس التبريزي. ففي هذا
اليوم، وهو آخر يوم من شهر تشرين الأول (أكتوبر) كان الهواء أكثر برودة، وهبّت
رياح أقوى، معلنة انتهاء الخريف. وكالعادة
كان المسجد مكتظاً بالمصلين في عصر هذا اليوم.
فعندما أعظ الحشود الغفيرة، فإني أحرص دائماً على ألا أنسى المؤمنين الذين يستمعون
إلى خطبي. ولا توجد إلا وسيلة واحدة لعمل
ذلك وهي أن أتخيّل أن الحشد شخص واحد، فعلى الرغم من أن المئات يستمعون إلى خطبي
كلّ أسبوع، فإني أكلّم شخصاً واحداً فقط على الدوام، وهو الشخص الذي يسمع صدى
كلماتي تتردّد في قلبه، والذي يعرفني كما لا يعرف أحداً آخر.
عندما أنهيت
خطبتي وخرجت من المسجد، كانوا قد جهّزوا لي حصاني. وكانوا قد ضفروا عرف الحصان بخيوط من الأجراس
الفضية والذهبية الصغيرة. كنت أجد متعة في
سماع رنين الأجراس في كلّ خطوة يخطوها، لكن كان يستحيل عليّ أن أمضي بسرعة أكبر
وأمامي هذا العدد الكبير من الأشخاص الذين يسدّون
طريقي. وببطء رحنا نمر أمام محلات وبيوت
متداعية ذات سقوف مصنوعة من القش، وقد اختلطت نداءات البائعين ببكاء الأطفال
وصيحات الشحاذين الذي يطلبون حفنة من النقود.
وكان معظم الناس يريدون أن أباركهم وأبتهل من أجلهم، وكان بعضهم الآخر
يكتفي بالسير بالقرب مني، لكن كان لدى بعضهم الآخر توقّعات أكبر، فكانوا يطلبون مني
أن أشفيهم من مرض عضال، أو من رقية شريرة.
كان هؤلاء هم الذين يثيرون قلقي، فكيف لا يرون أنه لم يكن بمقدور النبي ولا
أي حكيم آخر، الإتيان بأي معجزة من هذا القبيل؟
عندما
انعطفنا عند ناصية الشارع، واقتربنا من خان تجار السكّر، لمحت ولياً تقياً جوّالاً
يشقّ طريقه عبر الحشد، يتهادى نحوي مباشرة ويرمقني بعينين ثاقبتين. كانت حركاته حاذقة ومركّزة، وكانت تشعّ منه هالة من القدرة الذاتية. كان حليقاً، لا لحية له، ولا حاجبين. ومع أن وجهه كان مكشوفاً كما ينبغي لوجه أي رجل
أن يكون، فإن قسمات وجهه يكتنفها الغموض.
لكن لم يكن مظهره
هو الذي فتنني وجذب انتباهي. فخلال سنوات
كثيرة، رأيت دراويش جوّالين من جميع الأنواع يجتازون قونية سعياً وراء الله. ويُعرف معظم هؤلاء الدراويش بسلوكهم المشاكس، بأوشامهم
البارزة، وأقراطهم العديدة، والحلقات في أنوفهم.
وكانوا إمّا يطيلون شعورهم، أو يحلقونها تماماً، بل إن بعض الدراويش من
الطريقة القلندرية يثقبون ألسنتهم وحلماتهم بحلقات. لذلك عندما وقعت عيناي على هذا الدرويش، لم تكن
قشرته الخارجية هي التي أثارت انتباهي، بل يمكنني القول إن نظرته هي التي فتنتني.
كانت عيناه
السوداوان تحدّقان بي بنظرة أحدّ من الخنجر.
وقف في منتصف الشارع، ورفع ذراعيه عالياً، وفتحهما على وسعيهما، وكأنه لم
يكن يريد أن يوقف الموكب فقط، بل يوقف تدفق الزمن كذلك. أحسست برعدة تسري في أوصالي، مثل حدس
مفاجئ. وتوتر حصاني وبدأ يصهل بصوت مرتفع،
وراح يهزّ رأسه إلى الأعلى وإلى الأسفل.
حاولت أن أهدئ من روعه، لكنه أجفل، واعتراني شعور بالتوتر أنا أيضاً.
أمام عينيَّ
اقترب الدرويش من حصاني، الذي أجفل، وهمس شيئاً في أذنه. بدأ الحصان يتنفّس بصعوبة، لكنه عندما لوّح
بيده بإيماءة نهائية، هدأ الحصان على الفور، وسرت موجة من الحماسة في الحشد، وسمعت
أحدهم يتمتم، ويقول: "هذه شعوذة".
نظر الدرويش إليّ
بفضول، غير عابئ بما يحيط به، وقال: أيها العالم العظيم في الشرق والغرب، لقد سمعت
عنك الكثير. لقد جئت إلى هنا اليوم لأسألك
سؤالاً، لو سمحت؟".
"تفضل"،
قلت هامساً.
"حسناً، يجب
عليك أولاً أن تترجل عن حصانك كي نكون على سوية واحدة".
ذهلت لسماع ذلك،
فلم أتمكن من أن أنبس بكلمة لوهلة، وأبدى الناس حولي دهشتهم، فلم يجرؤ أحد على
مخاطبتي بهذه الطريقة.
أحسست بوجهي
يلتهب، وببطني تؤلمني، لكني كبحت انزعاجي وترجلت عن حصاني. كان الدرويش قد أدار ظهره وسار مبتعداً.
"يا صاح،
انتظر"، صحت ولحقت به، "أريد أن أسمع سؤالك".
توقّف واستدار،
وابتسم لي لأول مرة، وقال: "حسناً، قل لي أرجوك، من هو الأعظم برأيك: النبي
محمد أم الصوفي أبو يزيد البسطامي؟".
فقلت: "ما
هذا السؤال؟ كيف يمكنك أن تقارن بين نبينا العظيم عليه الصلاة والسلام، خاتم
الأنبياء والمرسلين، وبين صوفي سيئ السمعة؟".
تجمّع حولنا حشد
من الناس الفضوليين، لكن الدرويش بدا غير مكترث بهم، وقال بإلحاح وهو لا يزال
يحدّق في وجهي: "أرجو أن تفكّر في الموضوع.
أفلم يقل النبي: يا رب اغفر لي عجزي عن معرفتك حق المعرفة، وفي حين قال
البسطامي، طوبي لي، فأنا أحمل الله داخل عباءتي؟ فإذا كان هناك رجل يشعر بأنه صغير
بالنسبة لله، بينما يدعّي رجل آخر بأنه يحمل الله في داخله، فأيهما أعظم؟".
بدأ قلبي يخفق
بقوة. فما عاد السؤال يبدو غريباً. في الواقع، بدأ كأن حجاباً قد أزيل وكان تحته
لغز مثير ينتظرني. ارتسمت على شفتيّ
الدرويش ابتسامة ماكرة، مثل نسيم عابر.
وعرفت الآن أنه ليس مجنوناً، بل مجرد رجل يطرح سؤالاً، سؤال لم أفكّر به من
قبل.
"أرى ما
تحاول أن تقوله"، قلت له، ولم أرغب في أن يسمع الرعشة التي اعترت صوتي
المتهدج، "سأقارن بين القولين. ومع
أن قول البسطامي يبدو أعلى، فإني سأخبرك لماذا إن العكس هو الصحيح".
فقال
الدرويش: "كلي آذان صاغية".
"كما ترى،
فإن حبّ الله محيط لا نهاية له، ويحاول البشر أن ينهلوا منه أكبر قدر من
الماء. لكن في نهاية المطاف، يعتمد مقدار
الماء الذي يحصل عليه كلّ منا على حجم الكوب الذي يستخدمه. ففي حين
يوجد لدى البعض براميل، ولدى البعض دلاء، فإن لدى البعض
الآخر طاسات فقط".
بينما كنت
أتحدّث، رحت أراقب قسمات الدرويش وهي تتحوّل من ازدراء خفيف إلى شكر واضح، ومنها
إلى ابتسامة رقيقة لشخص يرى أفكاره في كلمات شخص آخر.
"كان وعاء
البسطامي صغيراً بعض الشيء، وقد روى عطشه بعد أن نهل جرعة، وكان سعيداً بالمرحلة
التي بلغها. كان شيئاً عظيماً أن يدرك
الإله في نفسه، لكن بالرغم من ذلك، لم يتمكن من التمييز بين الله وبين وحدة النفس. أما النبي، فقد اختاره الله ولديه كوب أكبر
بكثير لكي يملأه. لذلك سأله الله في
القرآن: ألم نشرح لك صدرك؟ وهكذا شرح
صدره، وكان كوبه ضخماً، كان عطشاً على عطش بالنسبة له. ولا عجب أنه قال: "إننا لا نعرفك كما
ينبغي لنا أن نعرفك، مع أنه من المؤكد انه يعرفه كما لا يعرفه شخص آخر".
ابتسم الدرويش
ابتسامة عريضة ودودة، وأومأ وشكرني. ثمّ
وضع يده على قلبه ببادرة امتنان، ولبث هكذا لبضع ثوان. وعندما التقت عيوننا ثانية، لاحظت مسحة من
اللطف قد تسللت إلى نظرته.
رحت أحدّق وراء
الدرويش ورأيت المشهد الطبيعي الرمادي اللؤلؤي الذي يميّز مديتنا في هذا الوقت من
السنة. وانسلت بضع أوراق أشجار جافة حول
أقدامنا: وراح الدرويش ينظر إليّ باهتمام متجدّد، وفي ضوء الشمس الآفلة للغروب،
أقسم بأنني لوهلة رأيت حوله هالة عنبرية اللون.
انحنى لي
احتراماً، وانحنيت له. لا أدري كم وقفنا
هكذا، كانت السماء بلونها البنفسجي تتدلى رؤوسنا.
وبعد قليل، بدأ الناس
المتحلقون حولنا يتململون بعصبية، بعد أن كانوا
يراقبوننا ونحن نتبادل الحديث بدهشة تكاد تتسم بالرفض. إذ لم يرني أحد أنحني لأي شخص قط، لذلك صدم
البعض عندما رأوني أنحني لصوفي جوّال بسيط، بمن فيهم أقرب المريدين لي.
لا بد
أن الدرويش شعر باستياء عامة الناس.
"من
الأفضل لي أن أذهب الآن وأتركك مع مريديك"، قال، وانخفض صوته ليصبح مثل جرس
مخملي، يكاد يكون همساً.
فقلت
معترضاً: "انتظر. لا تذهب،
أرجوك. ابق".
لمحت مسحة من
الاهتمام على وجهه، وزمّ شفتيه بحزن، كما لو كان يريد أن يقول شيئاً لكن إما أنه
لم يستطع، أو أنه لم يشأ أن يقوله. وفي
تلك اللحظة، في فترة الصمت القصيرة تلك، سمعت السؤال الذي لم يسألني إياه.
وماذا عنك أنت،
أيها الخطيب العظيم؟ قل لي، ما هو حجم كوبك؟
لم يكن لديّ شيء
أقوله، فقد نضبت الكلمات مني. اقتربت من
الدرويش حتى إني رأيت الخطوط الذهبية في عينيه السوداوين. وفجأة غمرني إحساس غريب، كما لو أنني كنت قد
عشت هذه اللحظة من قبل. لا مرة واحدة، بل
أكثر من عشر مرات. وبدأت أتذكر شذرات. رجل طويل نحيف يستر وجهه بحجاب، وأصابعه
ملتهبة. ثم أدركت. فلم يكن الدرويش الواقف أمامي إلا ذاك الرجل
الذي كنت أراه في أحلامي دائماً.
عرفت أنني وجدت
رفيقي. لكن بدلاً من أن أبتهج نشوة، كما
خيّل إليّ، غمرني شعور بالرهبة.
إيلا
نورثامبتون، 8 حزيران (يونيو) 2008
وجدت إيلا،
المحاطة بأسئلة لم تجد لها إجابات شافية، أن عدة أشياء فاجأتها في رسائلها المتبادلة
مع عزيز، وخاصة الحقيقة بأنها تحدث فعلاً.
فقد كانا مختلفين تمام الاختلاف من جميع الجوانب، الأمر الذي جعلها تتساءل
عمّا قد يجمع بينهما من الأمور المشتركة حتى يتبادلا الرسائل.
فقد كان عزيز
يشبه لوحة مركبة مؤلفة من قطع كثيرة. ففي
كلّ رسالة إلكترونية جديدة كان يرسلها، كانت توضع قطعة أخرى في مكانها الصحيح في
تلك اللوحة. كانت إيلا ترغب في رؤية
اللوحة كلها، لكنها اكتشفت عدة أمور عن الرجل الذي تبادله الرسائل.
ومن مدوّنة عزيز
على الإنترنت، علمت إيلا أنه مصور محترف يجول في أنحاء الكرة الأرضية، ويجد في
الذهاب إلى أقصى أقاصي المعمورة أمراً طبيعياً وسهلاً كأنه يتنزه في حديقة
الحيّ. بدوي عنيد في الصميم، جاب أرجاء
الدنيا، يرتاح في كل مكان يحلّ فيه، سواء أكان في سيبيريا، أم في شنغهاي، أم في
كلكتا، أم في الدار البيضاء.
يسافر حاملاً معه حقيبة ظهر وناياً مصنوعاً من القصب،
ويتخذ لنفسه أصدقاء في أماكن لا تستطيع إيلا أن تحدد موقعها حتى على الخريطة. ويصادف حرس حدود فظين يصعب التعامل معهم، ويجد
صعوبة في الحصول على تأشيرات دخول إلى بلدان فيها حكومات غير ودية، ويتعرض للإصابة
بأمراض طفيلية تنتقل عن طريق الماء، واضطرابات معوية من تناول أطعمة ملوثة، ويتعرض
لخطر السرقة، والصراعات الدائرة بين القوات الحكومية والثوار، لم يكن هناك شيء
يمكن أن يحول بينه وبين الترحال شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً.
قالت إيلا لنفسها
إن عزيز شلال هادر. فقد كان ينطلق بكامل
طاقته وقوته إلى أماكن تخاف أن تطأها. وفي
حين كانت إيلا تتردّد وتقلق قبل الإقدام على أي عمل، إذ تكون متحمسة جداً في
البداية، ثم يعتريها التردد والقلق، لم يكن يعتريه هو أي قلق. فشخصية مفعمة بالحيوية، وهو يتصف بقدر كبير من
المثالية والمحبة لا يمكن أن يسعهما جسد واحد.
لقد كان يعتمر قبعات عدة، وكان يستطيع أن يعتمرها جميعها بشكل جيد.
كانت إيلا ترى
نفسها امرأة متحررة، تنتمي إلى الحزب الديمقراطي، يهودية غير متدينة، ونباتية
طموحة، عازمة على إزالة جميع أنواع اللحم من وجبات طعامها ذات يوم. وكانت تصنّف الأمور في فئات واضحة، وتنظّم
عالمها كما تنظّم شؤون بيتها، بدقة وترتيب.
وكان عقلها يعمل بقائمتين متعارضتين طويلتين: الأشياء التي تحبّها إزاء الأشياء التي تكرهها.
ومع أن إيلا لم
تكن مديّنة، فقد كانت تستمتع بممارسة بعض
الطقوس الدينية من حين لآخر، وكانت ترى أن الدين هو
المشكلة الرئيسية التي تشغل العالم اليوم، كما كانت تشغله في الماضي. فقد كان المتدينون، بغطرستهم الشديدة، وإيمانهم
الذاتي بتفوق أساليبهم وأفعالهم، يثيرون أعصابها.
فهي لا تحتمل المتعصّبين مهما كانت دياناتهم وطوائفهم، لكنها كانت تظن في
أعماقها بأن المتعصّبين المسلمين هم الأسوأ.
أما
عزيز فكان رجلاً روحانياً، يأخذ الأمور الدينية والإيمان بجدية، ويبتعد عن الأمور
السياسية المعاصرة، ولم يكن "يكره" شيئاً أو أحداً. وكان آكل لحم نهماً، ويقول إنه لا يستطيع أن
يرفض طبق كباب لذيذاً. وقد اعتنق الإسلام
بعد أن كان ملحداً في منتصف السبعينات، كما يقول ساخراً، "بعد كريم عبد
الجبّار، وقبل كانت ستيفنز". ومنذ
ذلك الحين، أصبح يقتسم الخبز مع مئات الصوفيين من مختلف البلدان والأديان، ويقول
إنهم "إخوة وأخوات على طول الطريق".
كان عزيز رجلاً
مسلماً، يرفض العنف، وله آراء إنسانية قوية، وكان يؤمن بأن جميع الحروب الدينية هي
في جوهرها "مشكلة لغوية". فهو
يقول إن اللغة تخفي الحقيقة أكثر مما تكشفها، لذلك، يسيء الناس دائماً فهم أحدهم
للآخر وتقديره له. وفي عالم محفوف
بالترجمات السيئة، لا فائدة ترجى في أن يكرس المرء نفسه لأيّ موضوع، لأنه يمكن أن
تكون أشد قناعاتنا ناجمة عن سوء فهم بسيط.
وبصورة عامة، يجب ألاّ يكون المرء متشدداً ومتصلباً في أيّ شيء لأنه
"لكي يعيش المرء لا بد له من أن يغيّر الألوان باستمرار".
كان عزيز وإيلا
يعيشان في مناطق تختلف في توقيتها، من الناحية
الحرفية والمجازية.
فالزمن يعني لها المستقبل بشكل رئيسي.
فقد أمضت شطراً كبيراً من أيامها وهي تفكر بهوس في وضع خطط للسنة التالية،
للشهر التالي، لليوم التالي، بل حتى للدقيقة التالية. حتى في الأمور البسيطة كالتسوّق أو استبدال
كرسي مكسور، كانت إيلا تخطّط لكلّ تفصيل مقدماً،
وتنفذ أعمالها وفق جداول وقوائم دقيقة تملأ حقيبتها.
أما
الزمن في تصور عزيز، فيتمحور حول اللحظة الراهنة، وأيّ شيء سوى هذه اللحظة، ليس
إلا وهماً فحسب. وللسبب نفسه، فإنه يعتقد
بأن لا علاقة للحبّ "بخطط الغد" أو "بذكريات علاء الدين
البارحة"، فلا يمكن أن يكون الحبّ إلاّ هنا والآن. وقد اختتم إحدى رسائله السابقة بهذه العبارة:
"أنا صوفي، طفل اللحظة الراهنة".
فردت
عليه إيلا: "من الغرابة أن تقول ذلك لامرأة تفكّر بالماضي كثيراً، وتفكّر
بالمستقبل أكثر، لكن بطريقة ما، لم تمسّها اللحظة الراهنة".
علاء الدين
قونية، 16 كانون الأول (ديسمبر) 1244
بالصدفة
لم أكن موجوداً عندما اعترض الدرويش طريق أبي.
فقد خرجتُ في رحلة لصيد الغزلان مع بعض الأصدقاء وعدت في اليوم التالي،
وأصبح الآن لقاء أبي بشمس التبريزي الحديث السائر على كل لسان. فقد تساءل الناس من هو هذا الدرويش، وكيف يمكن
لعالم جليل مثل الرومي أن يأخذه بجدية، إلى درجة أن ينحني له؟
فمنذ أن
كنت صبياً، كنت أرى الناس ينحنون أمام أبي، ولم أكن أتخيّل أن يأتي يوم أرى فيه
أبي وهو ينحني لشخص آخر، غير الملك أو الصدر الأعظم. لذلك يم أصدّق نصف ما سمعته ولم أنزعج، إلا
عندما وصلت إلى البيت، وأكدت لي كيرا، زوجة أبي، التي لا تكذب ولا تبالغ أبداً،
القصّة كلها. نعم، صحيح أن درويشاً يدعى
شمس التبريزي تحدّى أبي أمام عامة الناس، بل ويعيش في بيتنا حالياً.
من هو
هذا الغريب الذي هبط إلى حياتنا مثل صخرة غامضة قذفتها السماء؟ متلهّفاً لرؤيته
بأمّ عيني، سألت كيرا: "إذاً أين هو هذا الرجل؟".
"اصمت"،
قالت كيرا هامسة، بشيء من التوتر، "أبوك والدرويش في المكتبة".
تناهى إلينا
صوتهما من بعيد، مع أنه كان يستحيل علينا تبيّن ما يقولانه. توجّهت نحو المكتبة، لكن كيرا أوقفتني.
"انتظر. لقد طلبا ألا يزعجهما أحدا". ولم يغادرا المكتبة طوال النهار، ولم يخرجا
منها في اليوم التالي، ولا في اليوم الذي تلاه.
عمّ يتكلمان؟ ما الذي يمكن أن يجمع
بين شخص مثل أبي ودرويش بسيط؟
مرّ أسبوع، ثمّ
أسبوع آخر. وفي كلّ صباح كانت كيرا تعدّ
طعام الفطور وتضعه في صينية أمام باب غرفتهما.
ومهما كانت أطايب الطعام التي أُعدّت لهما، كانا يرفضانها، وكانا يكتفيان بتناول
قطعة من الخبز في الصباح وكوب من حليب الماعز في المساء.
خلال هذه الفترة،
تملكني الذعر والقلق، واعتراني مزاج سيئ.
وخلال ساعات مختلفة طوال اليوم، لم أترك ثقباً أو شقاً في الباب إلا
وجربّته لاختلاس النظر إلى داخل المكتبة.
ولم أكن أعبأ إذا ما فتحا الباب فجأة، ووجداني أسترق السمع، وكنت أمضي
وقتاً طويلاً وأنا منحنٍ، أحاول أن أفهم ماذا يتحدّثان. لكن كلّ ما كنت أسمعه مجرد همهمة منخفضة. ولم
أكن أرى الكثير أيضاً، فقد كانت الغرفة شبع معتمة، بسبب الستائر نصف المسدلة. وعندما لم أر أو أسمع الكثير، تركت عقلي يملأ
الصمت، ويختلق الأحاديث التي يمكن أن تدور بينهما.
ذات مرة، وجدتني
كيرا وأنا أضع أذني على الباب، لكنّها لم تقل
شيئاً. فقد كانت
متشوقة أكثر مني لمعرفة ما يجري. فالفضول
طبع من طبائع النساء.
لكن
الأمر كان مختلفاً عندما رآني أخي، سلطان ولد، وأنا أتنصّت عليهما، فقد حدجني
بنظرة ثاقبة، واشتعل وجهه غيظاً.
"لا
يحقّ لك أن تتجسّس على الآخرين، ولا سيما والدك"، قال موبخاً.
هززت
كتفي وقلت: "أصدقني القول يا أخي، ألا يزعجك أن يمضي والدنا وقته مع شخص غريب؟
لقد مضى عليهما أكثر من شهر، أهمل والدنا خلاله أسرته. ألا يضايقك ذلك؟".
"لم
يهملنا والدنا"، قال أخي، "فقد وجد في شمس التبريزي صديقاً جيداً،
فبدلاً من أن تنزعج وتتذمر مثل تلميذ مدرسة، يجب أن تكون سعيداً لأبينا، إن كنت
تحبّه حقاً".
هذه هي
الأمور التي يمكن لأخي أن يقولها. وبما
أنني كنت قد اعتدت على ملاحظاته، فلم أمتعض من ملاحظاته القاسية. فقد كان دائماً ذلك الفتى اللطيف، العزيز على
قلب الأسرة والحيّ، الابن الأثير لدى أبي.
وبعد
أربعين يوماً من اعتكاف أبي والدرويش في المكتبة، حدث شيء غريب. فقد كنت مقرفصاً
عند الباب، أتنصت على صمت أشدّ من المعتاد، سمعت الدرويش يرفع صوته فجأة.
"لقد
مرّ أربعون يوماً على خلوتنا هنا، وكنا نناقش كلّ يوم قاعدة من قواعد العشق
الأربعين لدين الحبّ. أما الآن، بعد أن
فرغنا منها، أظن من الأفضل أن نخرج، فلعل غيابك أزعج أسرتك".
فقال أبي
معترضاً: "لا تقلق. إن زوجتي وأبنائي
على درجة كبيرة من النضج، ويفهمون أنني قد أحتاج إلى بعض الوقت لأمضيه بعيداً عنهم
أحياناً".
"حسناً،
فأنا لا أعرف شيئاً عن زوجتك، لكن ابنيك مختلفان كاختلاف الليل والنهار"، ردّ
الشمس، "إذ إن ابنك الأكبر يسير على خطاك، أما ابنك الأصغر، فإني أخشى أنه
يسير في طريق مختلف تماماً. إذ تغمر قلبه
الكراهية والحسد".
اشتعلت وجنتاي
غضباً. كيف يمكنه أن يتفوّه بأمور سيئة
كهذه عنّي ونحن لم نلتق معاً قط.
"يخيّل إليه
أنني لا أعرفه، لكنني أعرفه جيداً"، قال الدرويش بعد قليل، "فهو يجلس
مقرفصاً ويلصق أذنه بالباب، يراقبني من شقوق الباب، وأنا أراقبه أيضاً".
سرت في جسدي رعشة
مفاجئة باردة، وانتصب شعر ذراعيّ. وبشكل
تلقائي، دفعت الباب ودخلت الغرفة. توسّعت
عينا أبي غير مصدق، لكن سرعان ما حلّ الغضب محل صدمته.
"علاء
الدين، هل فقدت عقلك؟ كيف تجرؤ على إزعاجنا بهذه الطريقة"، قال أبي هادراً.
متجاهلاً سؤاله،
أشرت إلى شمس وصحت: "لماذا لا تسأله أولاً كيف يجرؤ على التحدّث عني
هكذا؟".
لم ينبس أبي
بكلمة، إن كيرا مشتاقة إليك، وكذلك تلاميذك.
كيف
يمكنك أن تولي ظهرك لأحبائك من أجل درويش سيئ؟".
ما إن
تفوهت بهذه الكلمات، حتى ندمت على قولها، لكن فات الأوان. فحدّق أبي فيّ وفي عينيه استياء شديد. لم أره هكذا من قبل قط.
"علاء
الدين، أخرج من هنا – حالاً"، قال أبي، "اذهب إلى مكان هادئ وفكّر بما
فعلته. لا تكلمني حتى تفكّر ملياً في
داخلك وتعرف خطأك".
"لكن،
يا أبي . . . ".
"اخرج"،
كرّر أبي، مشيحاً بوجهه عني.
بقلب
كليم، غادرت الغرفة. كانت راحتا يديّ
مبللتين، وركبتاي تصطكان.
ذفي تلك اللحظة، عرفت أن حياتنا قد تغيّرت بطريقة غير
مفهومة، وأن الأمور لم تعد كما كانت. ومنذ
وفاة أمّي قبل ثماني سنوات، كانت هذه هي المرة الثانية التي أشعر فيها بأن أبي قد
هجرني.
الرومي
قونية، 18 كانون الثاني (يناير) 1244
باطن
الله – يا وجه الله المخفي. افتح لي عقلي
حتى يمكنني أن أرى الحقيقة.
عندما
سألني شمس التبريزي عن النبي محمد والصوفي البسطامي، أحسست كما لو كنا الشخصين
الوحيدين المتبقيين على وجه الأرض، وقد انبسطت أمامنا الأطوار السبعة على طريق
الحقيقة – سبعة مقامات يجب على كلّ روح أن تكابدها حتى تبلغ الوحدانية.
الطور
الأول هو النفس الأمارة، وهو أشدّ الأطوار بدائية وانتشاراً في الوجود، عندما تقع
الروح في شرك المساعي الدنيوية. ويبقى
معظم الناس في هذا الطور، يجاهدون ويعانون في العمل لأنهم منهمكون في خدمة ذواتهم
الوضيعة، لكنهم يحمّلون الآخرين على الدوام مسؤولية شقائهم المستمر.
وعندما
يدرك المرء الحالة التي وصل إليها من انحطاط الروح، يبدأ في جهاد النفس حتى ينتقل
إلى الطور التالي الذي هو عكس الطور الأول.
فبدلاً من أن ينحي باللائمة على الآخرين دائماً، يبدأ المرء
الذي بلغ هذا الطور بنفسه، تصل أحياناً إلى درجة محو
الذات. وهنا تصبح النفس اللوامة وبذلك
يبدأ الرحلة نحو النقاء الداخلي.
وفي
الطور الثالث، يزداد المرء نضجاً وتنتقل النفس لتصبح النفس الملهمة. وفي هذا الطور فقط، وليس قبله، يتمكن المرء من
معرفة المعنى الحقيقي لكلمة "الخضوع"، ويبدأ في الطواف في وادي المعارف
الإلهية. والمرء الذي يبلغ هذه المرحلة
يمتلك الصبر، والمثابرة، والحكمة، والتواضع، ويبدو العالم له جديداً مليئاً
بالإلهام. بيد أن معظم الذين يبلغون
المقام الثالث هذا، يرغبون في الأطوار الأخرى.
لذلك، مع أن الطور الثالث يبدو جميلاً ومباركاً، فإنه بمثابة شرك للشخص
الذي يتطلع إلى بلوغ درجة أعلى.
أما
الذين يتمكنون من المضي قدماً، فهم يبلغون وادي الحكمة ويعرفون النفس
المطمئنة. وهنا يختلف إحساس النفس عما
كانت عليه، لأنها ترتقي إلى درجة أعلى من الوعي.
ومن الصفات التي تلازم الذين بلغوا هذا الطور: الكرم، والعرفان، والشعور الدائم بالرضا، مهما
بلغت مشاق الحياة ومصاعبها. ثم يأتي وادي
الوحدة. ويشعر المرء الذي يبلغ هذا المقام
بالرضا مهما كان الوضع الذي يضعه الله فيه.
فلا تهمه الأمور الدنيوية، لأنه بلغ النفس الراضية.
وفي
الطور التالي، تأتي النفس المرضية، حيث يصبح المرء مشكاة للإنسانية، يبثّ الطاقة
في كلّ من يطلبها، ويعلّم وينوّر مثل أستاذ حقيقي. وقد يمتلك المرء أحياناً قوى شافية أيضاً. فحيثما ذهب، يحدث أثراً كبيراً في حياة
الآخرين. ففي كلّ شيء يفعله ويصبو إلى
عمله، يكون هدفه الرئيسي خدمة الله من خلال خدمة
الآخرين.
وأخيراً
يأتي الطور السابع، حيث يبلغ المرء النفس النقية ويصبح "الإنسان
الكامل". لكن أحداً لا يعرف الكثير
عن هذه الحالة، التي حتى لو بلغها البعض، فإنهم لا يتكلمون عنها.
يسهل
تلخيص أطوار بلوغ الطريق، ويصعب اجتيازها.
ومما يزيد من العقبات التي تظهر على طول طريق الحقيقة، عدم وجود ما يكفل
الاستمرار في المضي قدماً. فالطريق من
الطور الأول حتى الطور الأخير ليس خطاً مستقيماً البتة، وهناك دائماً احتمال
السقوط والعودة إلى الأطوار الأولى، ويكون السقوط أحياناً من أعلى الأطوار إلى
الطور الأول. وبسبب كثرة الأفخاخ المنصوبة
على طول الطريق، فلا عجب ألا يتمكن من بلوغ الأطوار النهائية سوى قلة قليلة في كلّ
قرن.
***
لذلك،
عندما سألني شمس هذا السؤال، لم يكن في نيته عقد مقارنة، بل كان يريد أن يعرف مدى
استعدادي للمضي في محو شخصيتي حتى أذوب في الله.
وكان هناك سؤال خفي داخل سؤاله الأول.
"وماذا
عنك، أيها الخطيب العظيم؟"، سألني، "فمن بين الأطوار السبعة، في أيّ طور
أنت الآن؟ وهل تظن أن لديك الشجاعة للمضي حتى النهاية؟ قل لي، ما هو حجم
كوبك؟".
كيرا
قونية، 18 كانون الأول (ديسمبر) 1244
إن
التحسّر على قدري لا يجدي نفعاً. لكني على
الرغم من ذلك، كنت أتمنى أن أطّلع أكثر على الأمور المتعلقة بالدين والتاريخ والفلسفة،
وعلى جميع الأمور التي يتحدث عنها الرومي وشمس آناء الليل وأطراف النهار. وتمرّ أوقات تعتريني فيها الرغبة في التمرّد
لأنني خلقت امرأة. فعندما تولدين بنتاً،
يجب أن تتعلّمي الطهو والتنظيف، وغسيل الملابس الوسخة، ورتق الجوارب القديمة، وصنع
الزبدة والجبن، وإرضاع الأطفال. كما
تُعلَّم بعض النساء فنّ الحبّ وكيف يجعلن أنفسهن جذّابات للرجال. لكن هذا كلّ شيء، فلا أحد يعطي النساء كتباً
حتى لا يفتحن عيونهن.
ففي
السنة الأولى من زواجنا، كنت أتسلل إلى مكتبة الرومي كلما أتيحت لي الفرصة، فأجلس
في وسط الكتب التي يحبّها كثيراً، أتنشق الغبار الذي يكسوها، ورائحة العفن،
وأتساءل ما هي الألغاز التي تخفيها في داخلها.
كنت أعرف كم يعشق الرومي كتبه التي أورثه معظمها والده الراحل، بهاء
الدين. ومن بين هذه الكتب كان مغرماً
بكتاب "المعارف". فقد سهر العديد من الليالي حتى مطلع الفجر
يقرأها، ويخيّل إليّ أنه حفظها كلها عن ظهر قلب.
كان
الرومي يقول: "حتى لو دفعوا لي أكياساً من الذهب، فلن أبادل كتب أبي بأي شيء
آخر. فكلّ كتاب هو تراث ثمين خلّفه لي
أسلافي، وقد ورثتها من أبي، وسأورثها إلى أبنائي".
لقد
عرفت كم كانت كتبه تعني له. ففي أحد
الأيام، خلال السنة الأولى من الزواج، كنت وحدي في البيت، وخطر لي أن أنظّف
المكتبة. فأنزلت كلّ الكتب من على الرفوف،
ونظّفت أغلفتها بقطعة من المخمل مبللة بماء الورد. ويعتقد السكان المحليون أنه يوجد جني صغير يدعى
"كيبيك"، يستمتع بإتلاف الكتب.
ولمنعه من عمل ذلك، كانوا يدوّنون عبارة تحذيرية في كلّ كتاب: "توقف
يا كيبيك، ابتعد عن هذا الكتاب". كيف
لي أن أعرف أن كيبيك لم يكن الوحيد الذي يجب أن يبتعد عن كتب زوجي، بل أنا أيضاً؟
ففي عصر
ذلك اليوم، أزلت الغبار ونظّفت جميع الكتب في المكتبة. وبينما كنت أفعل ذلك، رحت أقرأ كتاب
"إحياء علوم الدين" للغزالي.
وعندما سمعت صوتاً جافاً ورائي أدركت أنني أمضيت وقتاً طويلاً في القراءة.
"كيرا،
ماذا تظنين أنك تفعلين هنا؟".
كان
الرومي، أو أحد آخر يشبهه –فقد كانت نبرة صوته أكثر حدّة، أكثر صرامة. فخلال السنوات الثماني من زواجنا، كانت تلك هي
المرة الوحيدة التي يكلّمني فيها بهذه الطريقة.
"إني
أنظّف"، تمتمت بصوت واهن، "أدرت أن أجعل ذلك مفاجأة لك".
فردّ قائلاً:
"أفهم ذلك، لكن أرجو ألاّ تلمسي كتبي مرة أخرى. وفي الحقيقة، أفضّل ألاّ تدخلي هذه الغرفة على
الإطلاق".
لم أدخل
المكتبة بعد ذلك اليوم، حتّى عندما لا يكون أحد في البيت. فقد فهمت وقبلت بأن عالم الكتب لم يكن ولن يكون
لي.
لكن
عندما جاء شمس التبريزي إلى بيتنا، واختلى هو وزوجي في المكتبة أربعين يوماً،
أحسست باستياء يعتمل في صدري. جرح لم أعرف
أنه بدأ ينزف.
كيميا
قونية، 20 كانون الأول (ديسمبر) 1244
ولدت في
أسرة بسيطة من الفلاحين في أحد سهول جبال طوروس، وتبنّاني الرومي عندما كنت في
الثانية عشرة من عمري. وكان والداي
الحقيقيان من أولئك الذين يعملون كثيراً ويشيخون قبل أوانهم. وكنا نعيش في بيت صغير، وكنت أنا وأختي نتقاسم
الغرفة مع أشباح أشقائنا الموتى، الأطفال الخمسة الذين ماتوا جميعاً بسبب إصابتهم
بأمراض بسيطة. كنت الوحيدة في البيت التي
تستطيع رؤية الأشباح. وكانت أختي وأمّي
تخافان وتبكيان كلّما ذكرت ماذا تفعل الأرواح الصغيرة. وكنت أحاول أن أقنعهما، بلا جدوى، بألاّ تخافا
أو تقلقا من شيء، لأنه لم يكن يبدو على أي من أشقائي الموتى بأنه خائف أو
حزين. لكني لم أفلح في إقناع أسرتي بذلك.
وفي أحد
الأيام، مرّ ناسك بقريتنا، وعندما رآه أبي متعباً، دعاه لقضاء الليلة في
بيتنا. وفي تلك الأمسية، بينما كنا نتحلق
جميعاً حول الموقد نشوي جبن ماعز، حكى لنا الناسك قصصاً ساحرة من أراض بعيدة. وبينما كان يروي لنا قصصه، أغمضت عيني، وسافرت
معه
إلى الصحراء العربية، وإلى مضارب البدو في شمال أفريقيا،
وإلى بحر مياهه من أشد المياه زرقة، يطلقون عليه اسم البحر الأبيض المتوسط. وعثرت على شاطئه على صدفة كبيرة ملفوفة،
فوضعتها في جيبي. وكنت أزمع أن أمشي على
الشاطئ من بدايته إلى نهايته، لكن رائحة كريهة، حادّة، أوقفتني في منتصف الطريق.
عندما
فتحت عينيَّ، وجدت نفسي ممدة على الأرض وقد أحاط بي جميع من في البيت، والقلق
الشديد باد على محياهم. كانت أمّي تمسك
رأسي بيد، وتمسك بيدها الأخرى وهي تصفّق مغتبطة.
"الحمد
لله"، قالت أمّي وهي تتنهد، ثمّ التفتت إلى الناسك، وقالت موضحة: "منذ أن
كانت كيميا فتاة صغيرة، تنتابها دائماً نوبات إغماء".
في
الصباح، شكرنا الناسك على الكرم الذي أسبغاه عليه وودّعنا.
لكنه قبل أن
يغادر، قال لأبي: "إن ابنتك كيميا طفلة غير عادية، إنها فتاة موهوبة، ومن
المؤسف ألاّ يقدِّر أحد هذه المرهبة. يجب
أن ترسلها إلى المدرسة".
"وما
الفائدة إذا تعلمت الفتاة؟"، صاحت أمّي، "أين سمعت شيئاً كهذا؟ يجب أن تبقى بجانبي وتساعدني في حياكة السجاد
حتى تتزوّج. فهي كما تعرف حائكة سجاد
رائعة".
فأجاب الناسك من
دون تردّد: "قد تصبح عالمة معروفة ذات يوم.
من الواضح أن الله لا يكره ابنتك لأنها فتاة، لذلك منحها مواهب عدة"،
ثم سألها: "هل تدّعين أنك تعرفين أكثر مما يعرف الله؟ فإذا لم
تكن توجد مدرسة، أرسلوها إلى أحد العلماء كي تتلقى
التعليم الذي تستحقه على يده".
هزّت
أمّي رأسها، لكني رأيت أن لأبي رأياً مختلفاً.
وبما أنني كنت أعرف مدى حبّه للتعلم والمعرفة، وتقديره لقدراتي، لم أفاجأ
عندما سمعته يسأل: "إننا لا نعرف أيّ عالم.
أين يمكنني أن أجد واحداً؟".
عندها نطق الناسك
بالاسم الذي سيغيّر مجرى حياتي، فقل: "إني أعرف عالماً بارزاً في قونية يدعى
مولانا جلال الدين الرومي، وأظن أنه قد يكون سعيداً لتعليم فتاة مثل كيميا. خذها إليه، ولن تندم على ذلك".
عندما
ذهب الناسك، رفعت أمّي ذراعيها إلى الأعلى، وقالت: "إني حامل، وسرعان ما
سيأتينا فم آخر لإطعامه في هذا البيت.
وسأكون بحاجة إلى مساعدة. إن
البنات لا يحتجن إلى كتب، بل يحتجن إلى تعلّم الأعمال المنزلية ورعاية
الأطفال".
كنت أتمنى
أن تعارض أمّي ذهابي لأسباب أخرى. فلو
قالت إنها ستفتقدني وإنها لا تقوى على منحي إلى أسرة أخرى، حتى لفترة موقتة، لكان
من الممكن أن أبقى. لكنّها لم تقل شيئاً
من هذا القبيل لكن أبي كان مقتنعاً بأن الناسك على حق.
وبعد
فترة، سافرت أنا وأبي إلى قونيا، وانتظرنا الرومي خارج المدرسة التي يدرّس
فيها. وعندما خرج، كنت في حرج شديد لأن
أرفع رأسي وأنظر إليه، لذلك رحت أنظر إلى يديه.
كانت أصابعه طويلة، منقّطة، ورفيعة، تشبه أصابع حرفيّ أكثر منها أصابع
عالم. دفعني أبي نحوه.
"إن ابنتي
موهوبة جداً، لكنني رجل بسيط، وكذلك زوجتي.
قيل لنا إنك أكثر الرجال تبحّراً في المنطقة. هل تريد أن تعلّمها؟".
من دون
أن أنظر إلى وجهه، أحسست بأن الرومي لم يفاجأ بطلب الحديث، مشيت نحو الساحة حيث
رأيت عدداً من الفتيان ولم أر أي فتاة.
وفي طريق عودتي، فوجئت برؤية شابّة تقف عند الناصية وحدها، كان وجهها
المستدير هادئاً وأبيض كأنه مصنوع من الرخام، لوّحت لها بيدي. بدا أنها دهشت لرؤيتي، لكنها بعد تردد قصير،
لوّحت لي.
سألتني:
"مرحباً أيتها الشابة، هل تستطيعين رؤيتي؟".
عندما
أومأت برأسي، ابتسمت المرأة، وصفّقت بيدها وقالت: "هذا رائع! لا أحد غيرك
يكنه ذلك".
سرنا
باتجاه أبي والرومي. ظننت أنهما سيتوقّفان
عن الكلام لدى رؤيتها، لكنها كانت محقّة، فلم يتمكنا من رؤيتها.
قال
الرومي: "تعالي يا كيميا. قال لي
والدك إنك تحبّين الدراسة. أخبريني، ما
الذي تحبينه في الكتب؟".
ابتلعت
ريقي بصعوبة، ولم أستطع أن أجيبه. كنت
عديمة الحيلة.
"تعالي
يا عزيزتي"، قال أبي، وقد بدا عليه الانزعاج.
أردت أن
أجيب بردّ ملائم، ردّ يجعل أبي فخوراً بي.
وفي غمرة قلقي، كان الصوت الوحيد الذي انبعث من فمي، لهاثاً يائساً.
كان من
الممكن أن أعود أنا وأبي إلى قريتنا خاويي الوفاض لو لم تتدخل هذه المرأة. فقد أمسكت يدي وقالت: "قولي له ماذا
ترغبين في دراسته. سيكون الأمر على ما
يرام، أعدك بذلك".
عندما أحسست
بأنني في حال أفضل، التفتُّ نحو الرومي وقلت: "يشرّفني أن أدرس القرآن على
يدك يا مولانا، وأنا مستعدة للاجتهاد في الدراسة".
أشرق
وجه الرومي وقال: "هذا رائع"، لكنه توقف وكأنه تذكّر تفصيلاً سيئاً
قولا: "لكنك فتاة. حتى لو درست وأحرزت
تقدماً كبيراً، سرعان ما ستتزوّجين وتنجبين أطفالاً. عندها لن تجدي سنوات التعليم نفعاً".
لم أعرف
ماذا أقول، وأحسست بأني فتاة بائسة. بل
مذنبة. وبدا أن أبي كان قلقاً أيضاً، فراح
يبحث عن حذائه. مرة أهرى هبّت الشابّة
لنجدتي، فقالت: "قولي له إن زوجته كانت ترغب في إنجاب فتاة وأنها ستكون سعيدة
عندما ترى أنه يعلّم فتاة أخرى".
ضحك
الرومي عندما نقلت له الرسالة، وقال: "هذا يععني أنك زرتِ بيتي وكلّمتِ
زوجتي. لكن دعيني أطمئنك أن كيرا لا تتدخل
في أمور تعليمي".
ببطء، وعلى نحو
يائس، هزّت الشابّة رأسها، وهمست في أذني: "قولي له إنك لا تتحدّثين عن كيرا،
زوجته الثانية، بل عن جوهر، أمّ ولديه".
فقلت: "كنت
أتحدّث عن جوهر"، ونطقت الاسم بعناية، "أمّ ولديك".
شحب وجه الرومي،
وقال بجفاف: "إن جوهر ميتة يا طفلتي.
لكن ماذا تعرفين عن زوجتي المرحومة؟
هل هذه مزحة سخيفة؟".
فتدخّل أبي وقال:
"إني واثق من أنها لا تقصد سوءاً يا مولانا.
يمكنني أن أطمئنك أن كيميا طفلة جدّية. وهي تكنّ لمن يكبرونها احتراماً كبيراً".
أدركت
أنني يجب أن أقول الصدق، فقلت: "إن زوجتك المرحومة هنا. إنها تمسك بيدي وتشجّعني على الكلام. إن عينيها لوزيتان وبنيتان داكنتان، ويكسو
وجهها نمش جميل، وترتدي عباءة صفراء طويلة . . . . ".
توقّفت عندما
لاحظت أن الشابّة تومئ باتجاه نعليها، وقلت: "إنها تريدني أن أخبرك عن
نعليها، فهما نعلان حريريان، فونهما برتقالي ناصع ومطرّزان بأزهار صغيرة حمر. إنهما جميلان للغاية".
"لقد
جلبتهما لها من دمشق"، قال الرومي، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، "كانت
تحبّهما".
عند ذلك، صمت
مولانا، وحكّ لحيته. كانت قسماته
جادة وساهمة. لكنه عندما تكلّم ثانية، كان صوته لطيفاً
وودّياً، لا أثر فيه لأي مسحة من الحزن.
"الآن فهمت
لماذا يقول الجميع إن ابنتك موهوبة"، قال الرومي لأبي، "لنذهب إلى بيتي
ونتحدّث عن مستقبلها، ونحن نتناول طعام العشاء.
إني على ثقة من أنها ستكون تلميذة ممتازة، أفضل من الكثير من
الفتيان".
ثمّ التفت الرومي
إليّ وسألني: "هل ستخبرين جوهر بذلك؟".
فقلت: "لا
توجد حاجة لذلك يا مولانا، فقد سمعتك"، وأضفت: "إنها تقول إنها يجب أن
تذهب الآن. لكنها تراقبك دائماً
بحبّ".
ابتسم الرومي
ابتسامة دافئة. وابتسم أبي أيضاً. ساد الآن شعور
بالارتياح لم يكن موجوداً من قبل. في تلك اللحظة، كنت أعرف أنه سيكون للقائي مع
الرومي نتائج بعيدة المدى.
لم تكن
علاقتي بأمّي علاقة قوية قط، لكن كما لو كنت أريد أن أعوّض عن غيابها، منحني الله
أبوين، أبي الحقيقي، وأبي الذي تبنّاني.
هكذا
وصلت إلى بيت الرومي قبل ثماني سنوات، طفلة خجولة متلهفة للمعرفة. كانت كيرا امرأة محبّة وعطوفة، أكثر من أمّي،
وكان ابنا الرومي لطيفين، لا سيما ابنه الأكبر، الذي أصبح الأخ الأكبر لي مع مرور
الوقت.
في
النهاية كان الناسك محقاً. وبقدر ما
افتقدت أبي وأشقائي، لم أشعر بالأسف للحظة واحدة لقدومي إلى قونية وانضمامي إلى
أسرة الرومي. فقد أمضيت أياماً سعيدة
كثيرة تحت سقف هذا البيت.
ظل
الأمر على هذا الحال، حتى مجيء شمس التبريزي، الذي غيّر وجوده كلّ شيء.
إيلا
نورثامبتون، 9 حزيران (يونيو) 2008
بما أن
إيلا لم تكن تستمتع بالاختلاء بنفسها قط، تبيّن لها في ما بعد أنها كانت تفضّل ذلك.
فقد كانت منهمكة في وضع اللمسات الأخيرة على تقريرها النهائي عن رواية
"الكفر الحلو". وكانت قد طلبت
من ميشيل أن تمهلها أسبوعاً آخر. كان
بإمكانها إنجاز عملها في وقت أبكر، لكنها لم ترغب في القيام بذلك. فقد منحها هذا العمل ذريعة لكي تنسحب إلى عقلها
وتتجنّب واجباتها العائلية، والمواجهات الزوجية التي طال انتظارها. ولأول مرة لم تذهب إلى نادي الطهو هذا الأسبوع،
لأنها لم تشعر بالرغبة في الطهو والثرثرة مع خمس عشرة امرأة تتشابه ظروف حياتهن،
في حين لم تكن واثقة ماذا ستفعل بحياتها.
فقد اتصلت بهن وأخبرتهن أنها متوعكة.
كانت
إيلا تحيط تبادلها الرسائل مع عزيز بسرية تامة.
ولم يكن عزيز يعرف أنها لم تكن تقرأ روايته فقط، بل كانت تكتب تقريراً عنها
أيضاً، ولم تكن الوكالة الأدبية تعرف أنها
تغازل مؤلف الرواية التي كلفت بقراءتها وإبداء رأيها فيها، كما لم يكن أطفالها
وزوجها يعرفون شيئاً
عن موضوع الرواية ولا عن المؤلف أو الرسائل الغزلية
المتبادلة. خلال بضعة أسابيع، تحوّلت إيلا
من امرأة كانت حياتها شفّافة كجلد الوليد إلى امرأة تتمرّغ في لجج الأسرار
والأكاذيب. وما فاجأها أكثر في هذا
التغيير هو أنها لم تشعر بأي انزعاج. كانت
تتصرف كأنها تنتظر حدوث شيء بالغ الأهمية بثقة وصبر. فقد كان هذا التوقع اللاعقلاني جزءاً من سحر
مزاجها الجديد، الذي كان على الرغم من جميع الأسرار، فاتناً.
لكن
تبادل الرسائل الإلكترونية لم يعد كافياً.
فمع أن إيلا هي التي بدأت بالكتابة لعزيز، أصبحا الآن، على الرغم من فرق
خمس ساعات في التوقيت، يتحدثان على الهاتف كلّ يوم تقريباً، وقال لها عزيز إن
صوتها ناعم ورقيق. وعندما ضحكت، جاءت
ضحكتها أشبه بخرير جدول ماء، يتخللها لهاث قصير، كأنها لم تكن واثقة من أن عليها
أن تضحك أكثر. كانت ضحكة امرأة لم تتعلم
قط كيف توجّه اهتماماً كبيراً للأحكام التي يطلقها الآخرون.
"دعي
نفسك تنجرف مع التيار"، قال، "دعي نفسك تتدفق مع التيار".
لكن
التدفق حولها لم يكن مستقراً، وكانت تعرقله أشياء عدة تحدث في بيتها. فقد بدأ آفي يتلقى دروساً خاصة في في
الرياضيات، وبدأت أورلي تراجع مستشاراً لمعاجلة اضطراب التغذية الذي تعانيه. فقد تناولت هذا الصباح نصف قطعة من العجة – أول
وجبة طعام كبيرة منذ أشعر – ومع أنها سألت على الفور عن عدد السعرات الحرارية
فيها، كانت المعجزة الصغيرة أنها لم تشعر بالذنب، ولم تعاقب نفسها بأن
تتقيأ ما تناولته.
في هذه الأثناء، فجّرت جانيت قنبلة عندما أعلنت انفصالها عن سكوت. ولم تقدم أي تفسير سوى أن كلاً منهما يحتاج إلى
فضاء خاص به. وتساءلت إيلا هل كلمة
"فضاء" هي رمز لحبّ جديد، لأنه لا يزال أمام كلّ من جانيت وسكوت وقت
لإيجاد شخص جديد.
فالسرعة
التي تبدأ فيها العلاقات الإنسانية وتتلاشى أذهلت إيلا أكثر من أي وقت مضى، ومع
ذلك فقد حاولت ألاّ تطلق أحكاماً على الآخرين.
وإذا كان من شيء تعلّمته من مراسلاتها مع عزيز، فهو أنها كلما لبثت هادئة
ومتزنة، شاطرها أولادها مشاكلهم أكثر.
وعندما توقّفت عن الجري وراءهم، لم يعودوا يهربون منها. فقد بدأت الأمور تسير بيسر على نحو ما، وعلى
نحو أقرب إلى قلبها أكثر مما كانت تحاول تقديم المساعدة بلا كلل.
ويُعتقد
بأنها لم تكن تفعل شيئاً للوصول إلى هذه النتيجة، فبدلاً من رؤية أن دورها في
البيت نوع من مادة لاصقة، الرابطة المركزية الخفية التي تجعل المرء متماسكاً،
أصبحت متفرجة صامتة. وراحت تراقب الأحداث
وهي تتكشف أمامها والأيام تمر، ليس بالضرورة ببرود أو بلا مبالاة، بل بموضوعية
ومراقبة خفية. كانت قد اكتشفت أنها عندما
قبلت ذلك، لم يعد عليها أن تشعر بالتوتر وأن تضغط على نفسها إزاء الأشياء التي لم
تكن تستطيع السيطرة عليها، برزت ذات أخرى من داخلها، ذات أكثر عقلانية وهدوءاً
وحساسية.
"العنصر
الخامس"، تمتمت لنفسها عدّة مرات أثناء اليوم، "تقبّلني الفراغ".
لم يطل
الوقت حتى لاحظ زوجها أن شيئاً غريباً قد طرأ على سلوكها، شيء لم يكن موجوداً في
إيلا الحقيقية. ألهذا السبب أصبح يرغب في
قضاء وقت أطول معها فجأة؟ فقد صار يعود
إلى البيت مبكراً هذه الأيام، شكّت إيلا في أنه لم يكن يرى نساء أخريات منذ فترة
من الزمن.
"حبيبتي،
هل أنت على ما يرام؟"، سألها ديفيد مرات عدة.
"أنا
على ما يرام مثل المطر"، كانت تجيبه بابتسامة في كلّ مرة. وكان يبدو أن انكفاءها إلى فضاء هادئ خاص بها
نزع اللباقة المؤدّبة التي كانت كامنة بهدوء وراء زواجها منذ سنوات عدة. أما الآن، بعد أن تلاشت الذرائع والادعاءات
بينهما، أصبحت ترى عيوبهما وأخطاءهما قد تعرّت، فكفّت عن التظاهر، واعتراها شعور
بأن ديفيد على وشك أن يفعل شيئاً.
أثناء
الفطور والعشاء، كان يتحدّثان عن أحداث اليوم بصوت شخصين بالغين رزينين، كما كانا
يناقشان تقرير العائدات السنوية من استثماراتهما في البورصة، ثمّ يصمتان، مدركين
الحقيقة الصريحة بأنه ليس لديهما أشياء كثيرة يمكنهما الحديث عنها. فلم يعد الأمر كما كان من قبل.
كانت
ترى زوجها ينظر إليها بإمعان أحياناً، ينتظرها أن تقول شيئاً، أي شيء. وكانت إيلا تشعر بأنها لو سألته عن علاقاته
العاطفية، لاعترف بها لها بسرور. لكنها لم
تكن واثقة من أنها كانت تريد أن تعرف.
ففي
الماضي كانت تتظاهر بالجهل لكي لا تهزّ سفينة زواجهما. أما
الآن، فقد توقّفت عن التظاهر والتمثيل في سلوكها، وكأنها
لا تعرف ماذا يفعل عندما يكون خارج البيت.
فقد أظهرت له أنها تعرف، لكنها غير مهتمة بذلك. كان ذلك الانكفاء الجديد هو الذي أخاف زوجها،
وكان بإمكان إيلا أن تفهمه، لأن ذلك كان يخيفها في أعماقها أيضاً.
فقبل شهر من
الآن، كانت لتشعر بالامتنان لو اتخذ ديفيد خطوة صغيرة لتحسين علاقتهما. وأيّ محاولة من جانبه كانت لتدخل البهجة إلى
نفسها. لكن الأمر لم يعد كذلك، وبدأت تشكّ
في أن حياتها لم تكن حقيقية. كيف بلغت هذه
النقطة؟ كيف اكتشفت أمّ متفانية لثلاثة
أطفال كآبتها ويأسها؟ والأهم من كل ذلك،
لو أنها كانت غير سعيدة، كما قالت لجانيت ذات يوم، فلماذا لم تكن تتصرف كما يتصرف
الأشخاص غير السعيدين؟ لا بكاء على أرضية الحمّام، لا نشيج أمام مغسلة المطبخ، لا
سير على القدمين بكآبة بعيداً عن البيت، ولا إلقاء أشياء على الحيطان . . . لا شيء.
حلّ هدوء غريب
على إيلا. وبدا أنها أصبحت أكثر استقراراً
من أي وقت مضى، حتى عندما كانت تنسل بسرعة شديدة بعيداً عن الحياة التي كانت
تعرفها. وفي الصباح أمعنت النظر في المرآة
لترى هل طرأ على وجهها أي تغيير مرئي. هل
أصبحت تبدو أصغر سناً؟ أجمل؟ أو ربما أكثر امتلاء بالحياة؟ لكنها لم تر أيّ فرق. لم يتغيّر شيء، ورغم ذلك لم تعد الأمور كما
كانت.
كيرا
قونية، 5 أيار (مايو) 1245
بدأت الأزهار
تتبرعم على الأغصان المدلاة تحت ثقل الثلج خارج نافذة غرفتنا، وكان شمس التبريزي
لا يزال يقيم معنا. خلال هذه الفترة بدأت
أرى زوجي يتحول إلى رجل مختلف، فأخذ يبتعد عني وعن أسرته يوماً بعد يوم. في البداية خيّل إليّ أنّ أحدهما سيملّ من
الآخر، لكن ذلك لم يحدث. بل إنهما ازدادا
التصاقاً. وعندما يكونان معاً، فهما إما
أن يلوذا بالصمت على نحو غريب، أو يتحدثا بصوت خفيض بشكل متواصل، وفي بعض الأحيان
كانت تتخلل حديثهما ضحكات، فأتساءل ألا
تنضب الكلمات من معينيهما. وكان الرومي،
بعد كلّ حديث مع شمس، يذرع الغرفة وكأنه أضحى رجلاً مختلفاً، ساهماً، غارقاً في
التفكير، كما لو كان منتشياً بمخدر لا يمكنني تذوقه أو رؤيته.
إن الصلة التي
توحّدهما هي عشّ لشخصين، لا مكان فهي لشخص ثالث.
فقد أصبحا يبتسمان ويضحكان، أو يتجهّمان بالطريقة نفسها، وفي الوقت نفسه،
كانا يتبادلان نظرات طويلة ذات مغزى بين
الكلمات التي
يقولانها. حتى إن مزاج أحدهما بات يتوقف
على مزاج الآخر. ففي بعض الأيام، كنت
تراهما هادئين، لا يتناولان شيئاً، لا ينبسان ببنت شفة، وفي أيام أخرى، تراهما
يدوران حول نفسيهما بغبطة وانتشاء إلى حد أنه يخيّل إلى من يراهما أنهما رجلان
فقدا عقليهما. وفي كلتا الحالتين، لم أعد
أعرف زوجي، ذاك الرجل الذي مضى على زواجي به أكثر من ثماني سنوات، الرجل الذي
ربّيت أطفاله كما لو كانوا أطفالي، والذي أنجبت منه طفلاً، أصبح الآن رجلاً
غريباً. وكان الوقت الوحيد الذي أشعر فيه
بأنني قريبة منه، عندما يغطّ في النوم.
ولم أنم لعدة ليالٍ خلال الأسابيع الماضية، أنصت إلى إيقاع تنفّسه، وأشعر
بهمس أنفاسه الرقيقة على بشرتي، وقلبه يخفق في أذني، لأذكّر نفسي بأنه لا يزال
الرجل الذي تزوجته.
ولم أنفك أقول
لنفسي لا، إن هذه المرحلة موقتة وستنقضي.
فلا بد أن يغادر شمس ذات يوم، لأنه درويش جوّال، وعندها سيعود الرومي إليّ،
لأنه ينتمي إلى هذه المدينة وإلى مريديه، لكن لا أملك من أمري شيئاً سوى أن أنتظر
بصبر. لكن الصبر لا يأتي بسهولة، ويزداد
الأمر صعوبة مع مرور كلّ يوم. وعندما
يتملكني شعور باليأس والقنوط، أحاول أن أتذكّر الأيام الخوالي، وخاصة عندما كان
الرومي يدعمني بالرغم من كلّ المصاعب.
"إن كيرا
مسيحية، وحتى لو اعتنقت الإسلام، فلن تصبح واحدة منا على الإطلاق"، كان الناس
يثرثرون عندما سمعوا بزواجنا الوشيك، "فضلاً عن أن عالِماً إسلامياً مرموقاً
يجب ألا يقترن بامرأة لا تنتمي إلى دينه".
لكن الرومي لم
يكن يعيرهم أي اهتمام، لا حينها ولا الآن.
لذلك فإني سأظل ممتنة له على الدوام.
إن الأناضول مزيج
من الأديان والشعوب وأنواع الطعام. فإذا
كنا نتناول الطعام نفسه، ونغنّي الأغاني
الحزينة ذاتها، ونؤمن بالخرافات عينها، ونحلم بذات الأحلام، فلم لا نكون قادرين
على العيش معاً؟ فقد كنت أعرف أطفالاً
مسيحيين سُمُّوا بأسماء إسلامية، وأطفالاً مسلمين ترضعهم أمهات مسيحيات. إن عالمنا عالم سلس يتدفّق فيه كلّ شيء ويمتزج،
وإن كانت توجد حدود بين المسيحية والإسلام، فإنها حدود مرنة أكثر مما يخيّل إلى
رجال الدين من كلا الجانبين.
ولمّا كنت زوجة
عالِم معروفٍ، فإن الناس يتوقعون مني أن أكنّ احتراماً وإجلالاً كبيرين للعلماء،
لكني لم أكن أفعل ذلك حقاً. فمن المؤكد أن
العلماء يعرفون أموراً كثيرة، لكن ألا تقيّد معرفة أمور كثيرة المرء عندما يتعلق
الأمر بالإيمان؟ فهم لا يكفّون عن ترديد
كلمات كبيرة، لذلك يصعب فهم ما يقولونه واستيعابه. فالعلماء المسلمون ينتقدون الدين المسيحي لأنه
يؤمن بالثالوث الأقدس، والقساوسة المسيحيون ينتقدون المسلمين لأنهم يعتبرون أن
القرآن كتاب كامل، ويوحون بأن الدينين عالَمان منفصلان. لكن في رأيي، عندما يتعلق الأمر بالمبادئ
الأساسية، فإن المسيحيين العاديين والمسلمين العاديين يشتركون في أمور أكثر مما
يشترك رجال دينهم.
ويقولون إن أصعب
شيء على المسلم الذي يعتنق المسيحية قبول الثالوث الأقدس، وأصعب شيء على المسيحي
الذي يعتنق الإسلام تركه الثالوث الأقدس.
ففي القرآن، يقول المسيح "إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني
نبياً".
أما أنا فلا يصعب
عليّ تصديق الفكرة بأن المسيح ليس ابن الله بل عبده. لكن الأمر الأكثر صعوبة الذي تبيّن لي هو
التخلي عن مريم. فلم أخبر أحداً بذلك، ولا
حتى الرومي، لكني أتوق أحياناً إلى رؤية عيني مريم البنيتين الرحيمتين، لأن
لنظراتها تأثيراً مهدئاً عليّ على الدوام.
ومنذ أن وطأ شمس
التبريزي عتبة بيتنا، تملكني شعور بالكآبة والاضطراب، ووجدت نفسي أشتاق إلى مريم
أكثر من أي وقت مضى، مثل حمّى سرت في عروقي، وعاودتني الرغبة في الصلاة لمريم،
رغبة لا أكاد أستطيع كبحها. وبدأ الإحساس
بالذنب ينهشني، كما لو كنت أخون ديني الجديد.
لا أحد يعرف
ذلك. حتى جارتي صفية، كاتمة أسراري في كلّ
شيء إلا هذا السرّ، لأنها لن تفهمني. لشدّ
ما كنت أتمنّى أن أشاطر زوجي ذلك، لكني لم أكن أعرف كيف أفاتحه في الأمر. فقد ابتعد عني كثيراً وأخشى أن يزداد بعداً عني
إذا أخبرته بذلك. فالرومي هو كلّ شيء
بالنسبة لي، لكنه أضحى غريباً عني الآن.
ولا أعرف هل بوسعي أن أعيش مع شخص تحت سقف واحد، وأنام معه في السرير نفسه،
وأشعر بأنه غير موجود حقاً.
شمس
التبريزي
قونية، 12 حزيران (يونيو) 1245
مؤمن مضطرب! إذا
صام المرء شهر رمضان كلّه باسم الله، وقدّم خروفاً أو عنزة كلّ عيد ليغفر الله له
ذنوبه، وإذا جاهد المرء طوال حياته ليحجّ إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة،
وإذا سجد خمس مرات كلّ يوم على سجادة صلاة، وليس في قلبه مكان للمحبة، فما الفائدة
من كلّ هذا العناء؟ فالإيمان مجرد كلمة، إن لم تكن المحبّة في جوهرها، فإنه يصبح
رخواً،مترهلاً، يخلو من أي حياة، غامضاً
وأجوف، ولا يمكنك أن تحس به حقاً.
هل يعتقدون بأن
الله يقيم في مكة المكرمة أو في المدينة المنورة؟
أو في أي مسجد من مساجد العالم؟
كيف يمكنهم تصوّر أن الله يمكن أن يكون محصوراً في فضاء محدود وهو الذي
يقول: "ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن".
إني أشفق على
الأحمق الذي يظنّ أن حدود عقله البشري هي حدود الله عز وجل. إني أشفق على الجاهل الذي يعتقد بأنه يستطيع أن
يساوم الله ويسوّي حساباته وديونه معه. هل يظنّ هؤلاء الله بقالاً يزن
حسناتنا وسيئاتنا في ميزانين منفصلين؟ هل يظنّون أنه يسجّل ذنوبنا في دفتر حساباته
بدقة حتى نسدد له ما علينا ذات يوم؟ أهذه
هي فكرتهم عن الوحدانية؟
إن إلهي
ليس بقالاً ولا محاسباً، بل إنه إله عظيم. إله حيّ؟ فلماذا أريد إلهاً ميتاً؟ إنه حيّ.
اسمه الحيّ، القيوم. لماذا أتخبّط
في مخاوف أبدية وقلق لا ينتهي، حيث يقيدني
دائماً بالمحرمات والمحظورات؟ فلا حدود لرحمته.
إذ إن اسمه الودود، الحميد. إني
أحمده بكلّ كلماتي وتصرفاتي، بشكل طبيعي ويسر كما أتنفّس الهواء.
اسمه
الحميد. فكيف يمكنني أن أستغيب الآخرين
وأشهّر بهم وأنا أعلم في أعماق قلبي أن الله هو السميع البصير؟ اسمه البشير.
جميل يفوق كلّ الأحلام والآمال.
الجميل، القيّوم،
الرحمن، الرحيم. أثناء المجاعات
والفيضانات، وخلال الجفاف والظمأ، سأغنّي وأرقص له حتى تخور ركبتاي، حتى ينهار
جسمي، وحتى يتوقّف قلبي عن الخفقان.
سأحطّم نفسي إلى شذرات حتى لا أعدو إلا مجرد ذرة في العدم، عابر سبيل في
الفراغ المحض، هباء الهباء في هندسته العظيمة الرائعة. ولن أكف عن امتداح عظمته وكرمه بامتنان،
وسعادة. سأشكره على كلّ ما منحني إياه وما
حرمني منه، لأنه يعرف ما هو الأفضل لي.
عندما تذكرت
قاعدة أخرى في قائمتي، غرمتني موجة جديدة من السعادة والأمل. يتبوأ الإنسان مكانة فريدة بين خلق الله، إذ
يقول عزّ وجل، "ونفخت فيه من روحي".
فقد خُلقنا جميعاً، من دون استثناء، لكي نكون خلفاء الله على الأرض. فاسأل نفسك، كم مرة تصرفت
كخليفة له، هذا إن فعلت ذلك؟ تذكّر أنه يقع على عاتق كلّ منّا اكتشاف الروح
الإلهية في داخله حتى يعيش وفقها.
وبدلاً
من أن يفني المتدينون المتعصبون ذواتهم في حبّ الله ويجاهدون أنفسهم، فهم يحاربون
أناساً آخرين، يولّدون موجة إثر موجة من الخوف.
وينظرون إلى الكون كلّه بعيون يشوبها الخوف، ولا عجب أنهم يرون أشياء كثيرة
يخافها الناس. فعندما يحدث زلزال أو جفاف،
أو تقع كارثة يعتبرون هذا دليلاً على غضب الله، وكأن الله لا يقول صراحة، "إن
رحمتي سبقت غضبي". وعندما يغضبون من
أحد لسبب أو لآخر، فإنهم يتوقّعون أن الله سبحانه وتعالى سيتدخل بالنيابة عنهم
ويثأر من أجلهم. وتغمر حياتهم حالة
متواصلة من المرارة والعداوة، ويلاحقهم سخط كبير أينما ذهبوا، مثل غيمة سوداء،
فيسودّ ماضيهم ومستقبلهم.
يوجد
شيء في الإيمان يجعل المرء غير قادر على رؤية الغابة لأنه يرى الأشجار. إن الدين بكليته أعظم وأعمق بكثير من الأجزاء
الصغيرة المكوّنة له، ويجب قراءة كل قاعدة في إطار القواعد كلها. والقواعد الكاملة تتوارى في الجوهر.
لكن
بدلاً من البحث عن جوهر القرآن، وأخذه ككل، ينتقي المتعصبون آية أو آيتين بعينهما،
ويمنحون الأولوية للأوامر الإلهية التي يرون أنها تتناغم مع أسلوب تفكيرهم وعقولهم
التي يسكنها الخوف. ولا يكفّون عن التذكير
بأن البشر جميعاً سيرغمون على السير يوم القيامة على السراط، الأرفع من شعرة،
والأحدّ من سيف. وعندها يسقط المذنبون
الذين لا يستطيعون اجتياز السراط، فيسقطون
في قعر جهنم، ويعانون إلى الأبد. أما الذين عاشوا حياة تقية فسيتمكنون من عبور
السراط حتى نهايته، وسيكافئون بفاكهة لذيذة، ومياه عذبة، وحوريات. هذه هي، بإيجاز، فكرتهم عن الحياة الآخرة. ويتركّز هاجسهم الرئيسي في الحياة على الأهوال وعلى
الجزاء والنار والفاكهة، والملائكة والشياطين، وفي سعيهم الدائب للوصول إلى مستقبل
يبرّر من هم اليوم، فإنهم ينسون الله! ألا يعرفون هذه القاعدة من القواعد
الأربعين؟ إن جهنم تقبع هنا والآن، وكذلك
الجنة. توقّفوا عن التفكير بجهنم بخوف أو
الحلم بالجنة، لأنهما موجودتان في هذه اللحظة بالذات. ففي كل مرة نحبّ، نصعد إلى السماء. وفي كلّ مرّة نكره، أو نحسد، أو نحارب أحداً،
فإننا نسقط مباشرة في نار جهنم. هذا ما
تقوله القاعدة الخامسة والعشرون.
هل يوجد
جحيم أسوأ من العذاب الذي يعانيه الإنسان عندما يعرف في أعماق ضميره أنه اقترف
ذنباً، ذنباً جسيماً؟ اسأل ذلك الرجل، فإنه سيخبرك ما هي جهنم. هل توجد جنة أفضل من النعمة التي تهبط على
الإنسان في تلك اللحظات النادرة من الحياة عندما تُفتح فيها مزاليج الكون، ويشعر
بأنه يمتلك كلّ أسرار الخلود ويتحّد مع الله اتحاداً تاماً؟ إسأل الله ذلك الرجل، فإنه سيخبرك ما هي الجنة.
لماذا
كل هذا القلق مما سيحدث بعد الحياة، مستقبل متخيّل، عندما تكون هذه اللحظة بالذات
هي الزمن الوحيد الذي نستطيع أن نشعر حقاً وبصورة كاملة بوجود الله وغيابه في
حياتنا؟ إن الصوفيين يحبّون الله، لا
خوفاً من العقاب في نار جهنم، ولا رغبة في الثواب والمكافأة في الجنة، بل يحبّون
الله لمجرد محبته الخالصة، محبة نقية وسهلة، غير ملوّثة، خالية من أي مصلحة.
الحبّ هو العلة.
الحبّ هو المعلول.
فعندما تحب الله،
وعندما تحبّ كلّ مخلوقاته من أجله، وبفضله، تذوب جميع الانقسامات وتختفي.ومن هنا،
لا يعود هناك شيء يدعى "أنا" وكلّ ما تبلغه هو صفر كبير يغطّي كيانك
كلّه.
قبل أيام، كنت
أنا والرومي نمعن التفكير في هذه الأمور، عندما أغمض عينيه فجأة وردد الأبيات
التالية:
"لست
مسيحياً ولا يهودياً ولا مسلماً، لست بوذياً ولا هندوسياً، ولا صوفياً ولا من
أتباع زن. لا أتبع أيّ دين أو نظام
ثقافي. لست من الشرق، ولا من الغرب.
إن مكاني هو
اللامكان، أثر اللاأثر".
يظنّ الرومي أنه
لا يمكن أن يكون شاعراً، لكن يوجد شاعر في داخله.
شاعر رائع! وقد برز ذلك الشاعر الآن.
نعم، إن الرومي
على حق، فهو ليس من الشرق ولا من الغرب، إنه ينتمي إلى مملكة الحبّ. إنه ينتمي إلى المحبوب.
إيلا
نورثامبتون، 12 حزيران (يونيو) 2008
أنهت إيلا قراءة
"الكفر الحلو"، وبدأت تضع اللمسات الأخيرة على تقريرها. ومع أنها كانت متلهفة لمناقشة تفاصيل الرواية
مع عزيز، فقد منعها إحساسها بالمهنية من ذلك.
فهذا الأمر ليس لائقاً، إلا بعد إنهاء عملها. حتى إنها لم تخبر عزيز بأنها اشترت نسخة من
قصائد الرومي بعد أن أنهت قراءة روايته، وأنها بدأت تقرأ بعضاً من قصائده قبل أن
تأوي إلى الفراش في كلّ ليلة. وبمهارة
تمكّنت من الفصل بين عملها في الرواية وبين الرسائل التي تبادلتها مع الكاتب. لكن في الثاني عشر من حزيران (يونيو)، حدث شيء
جعل الخطّ الفاصل بين الاثنين مضطرباً.
فحتى ذلك اليوم،
لم تر إيلا صورة عزيز. وبما أنه لم تكن
توجد له صورة على موقعه على الإنترنت، لم تتمكن من رسم صورته في مخيلتها. في البداية، استمتعت بالغموض الذي يكتنف
الكتابة إلى رجل من دون وجه. لكن مع مرور
الوقت، بدأ فضولها يزداد، وبدأت رغبتها في وضع وجه على رسائله، تزداد حدة. أما هو فلم يطلب صورتها، وقد وجدت ذلك أمراً
غريباً، غريباً جداً.
لذلك، أرسلت له
صورتها وهي تقف على الشرفة مع كلبها سبيريت، مرتدية رداء أزرق ضيقاً يكشف قليلاً
عن منحنيات جسدها. كانت تبتسم في الصورة،
ابتسامة تبدي شيئاً من القلق وشيئاً من السرور.
كانت أصابعها تمسك بقوة بطوق الكلب، كأنها تحاول أن تستمد منه قوة. وكان لون السماء فوقهما مزيجاً من اللونين
الفضي والأرجواني. لم تكن هذه الصورة من
أجمل صورها، لكن كان فيها شيء روحي، يكاد يكون أخروياً، أو هكذا كانت تأمل. أرسلتها إيلا له وراحت تنتظر. كان ذلك أسلوبها في أن تطلب من عزيز أن يرسل
لها صورته.
وقد أرسل صورته.
عندما رأت إيلا
الصورة التي أرسلها عزيز، قالت لنفسها إنها لا بدّ التقطت في أحد بلدان الشرق
الأقصى، بلد لم تزره قط. وكان عزيز في
الصورة محاطاً بعدد من الأطفال المحليين بشعرهم الأسود. وكان يرتدي قميصاً أسود وبنطالاً أسود. كان نحيف البنية، له أنف حادّ، وشعر أسود
متموّج طويل ينسدل على كتفيه. وكانت عيناه
زمردتين تنبعث منهما طاقة وشيء آخر أدركت انه نوع من الشفقة، وكان يضع قرطاً في
إحدى أذنيه، وقلادة لم تتبين شكلها جيداً.
وفي الخلفية، كانت تمتد بحيرة فضية تحيط بها أعشاب طويلة، وفي إحدى الزوايا،
لاح ظلّ شيء أو شخص خارج الإطار.
عندما راحت إيلا
تتفحّص الرجل في الصورة، تتمعّن في كلّ تفصيل فيه، أحست بانها تعرفه وأنها رأته في
مكان ما. بتلك الدرجة من الغرابة، كان
بوسعها أن تقسم بأنها رأته من قبل.
وفجأة عرفت.
فقد كان شمس
التبريزي يحمل شبهاً شديداً لعزيز ز. زاهارا، وبدا تماماً على النحو الذي وصف فيه
شمس في روايته قبل أن يتوجّه إلى قونية للقاء الرومي. وتساءلت إيلا هل اعتمد عزيز على قسماته في وصف
الشخصية التي كتبها. فلعله أراد، ككاتب،
أن يخلق شخصيته المحورية على صورته، كما خلق الله البشر على صورته.
وبينما كانت
تفكّر في ذلك، خطر لها احتمال آخر. أيعقل
أن يكون شكل شمس التبريزي الحقيقي هو كما ورد وصفه في الكتاب، وهذا يعني أنه قد
يكون هناك شبه مفاجئ بين رجلين تفصل بينهما قرابة ثمانمائة سنة؟ وهل يمكن أن يكون
هذا الشبه غير مقصود، بل ربما يتجاوز معرفة المؤلف؟ وكلما فكرت إيلا بهذه المعضلة،
ازدادت شكوكها بإمكانية الربط بين شمس التبريزي وعزيز ز. زاهارا بطريقة تتجاوز
الحيل الأدبية البسيطة.
كان لهذا
الاكتشاف تأثيران غير متوقّعين على إيلا، الأول، أنها أحسّت بالحاجة إلى العودة
إلى رواية "الكفر الحلو" وقراءتها ثانية، بعين مختلفة، لا من أجل القصّة
هذه المرة، بل لتكتشف المؤلف المتواري وراء شخصيته الرئيسية، لتجد عزيز في شمس
التبريزي، والثاني، أنها ازدادت افتتاناً بشخصية عزيز. من هو؟ ما هي قصّته؟ ففي
رسالة إلكترونية سابقة، قال لها إنه إسكتلندي، لكنه يحمل اسماً شرقياً – عزيز؟ هل
هذا اسمه الحقيقي؟ أم أنه اسم صوفي؟ وبالمناسبة، ماذا يعني أن يكون صوفياً؟
وكان أمر آخر
يشغل بالها: الإشارات الأولى التي لا تكاد تدرك من
الرغبة. فقد مضى
زمن طويل لم يعترها مثل هذا الشعور، لذلك استغرقت بضع ثوان أخرى كي تتعرف على
حقيقة هذا الشعور الذي كان يعتريها، بقوة، وبإلحاح، وبتمرد. لقد أدركت أنها أحسّت بأنها ترغب في الرجل
الكائن في الصورة، وتساءلت كيف ستشعر إذا ما قبّلته.
كان إحساساً غير متوقّع ومحرجاً إلى حدّ أنها أطفأت
حاسوبها النقال بسرعة، وكأن الرجل في الصورة يجذبها إلى داخله.
بيبرس المحارب
قونية، 10 تموز (يوليو) 1245
"بيبرس،
يا بني، لا تثق بأحد"، قال عمي، "لأن الفساد آخذ في الازدياد في
العالم". وقال إن الفترة الرائعة
الوحيدة، كانت في العصر الذهبي، في زمن النبي محمد، عليه الصلاة والسلام. فبعد وفاته، بدأ كلّ شيء في الانحدار، وأصبح
المكان الذي يوجد فيه أكثر من شخصين ساحة حب.
لكن حتى في عصر النبي، ألم تنشب معارك وحروب؟ إن الحروب جوهر الحياة.
فالأسد
يلتهم الايل، والعقبان تلتهم الجيف وتجعلها عظاماً عارية. إن الطبيعة قاسية. فعلى سطح الأرض، أو في البحر، أو في الجو، لا
توجد إلا وسيلة واحدة يستطيع فيها كل مخلوق البقاء على قيد الحياة: وهي أن تكون
أذكى وأقوى من ألدّ أعدائك، ولكي تبقى على قيد الحياة يجب أن تقاتل. إن الأمر بهذه البساطة.
ويجب
علينا أن نحارب. فحتى أكثر الأشخاص سذاجة
يرى أنه لا توجد وسيلة أخرى في يومنا وعصرنا هذا، فقد أخذت الأمور منحى سيئاً منذ
خمس سنوات، عندما أرسل جنكيزخان مائة من مبعوثيه
للتفاوض على السلام، فذبحوا جميعاً، وتحوّل جنكيزخان إلى
مرة نارية من الغضب، وأعلن الحرب على الإسلام.
ولا يعرف أحد كيف قتل هؤلاء المبعوثون ولماذا، إذ يشكّ البعض في أم
جنكيزخان نفسه هو الذي أمر بقتل المبعوثين الذين أرسلهم، لتصبح لديه ذريعة لشنّ
هذه الحرب الضروس. ولعل ذلك صحيح. لا أحد يعرف.
لكن ما أعرفه أنه بعد خمس سنوات اجتاح المغول منطقة خاور شهر برمتها،
وعاثوا في كل بقعة وطأوها خراباً ودماراً ونشروا الموت فيها. وقبل سنتين، هزم المغول القوات السلجوقية في
كوسيداغ، وجعلوا السلطان تابعاً لهم وأرغموه على أن يدفع لهم الجزية. والسبب الوحيد الذي جعل المغول لا يقضون علينا
قضاء مبرماً هو أنهم يريدون أن نظل أحياء حتى نظل نرزح تحت نيرهم.
ربما كانت الحروب
تُشنُّ منذ أزمان سحيقة، على الأقل منذ أن قتل قايين شقيقه هابيل، لكن الجيش
المغولي كان شيئاً لم ير له التاريخ مثيلاً.
فقد كانوا يجيدون استخدام أكثر من نوع من أنواع الأسلحة، صُمِّم كلّ منها
لغرض معين. إذ إن جميع الجنود المغول مدججون
بالسلاح: قضيب، فأس، سيف، رمح، ومزودون بسهام يمكنها اختراق درع، ويمكنهم إحراق
قرى بكاملها، وتسمّيم ضحاياهم، أو ثقب أصلب العظام في جسم الإنسان. ولديهم سهام تطلق صفيراً، يستخدمونها لإرسال
إشارات من فرقة إلى أخرى. بهذه المهارات
الحربية المتطورة، وعدم الخشية من الله، هاجم المغول كلّ مدينة وبلدة وقرية مروا
بها وأبادوا أهلها. حتى المدن القديمة، مثل
بخارى، استحالت إلى أكوان من الأنقاض.
وليس المغول وحدهم
المشكلة، بل هناك القدس التي يجب علينا استعادتها من
الصليبيين، بالإضافة إلى الضغوط التي يمارسها البيزنطيون، والتنافس القائم بيم
الشيعة والسنّة. فعندما نكون محاطين
بأعداء متوحشين من كلّ جانب، فكيف يمكننا أن نكون مسالمين؟
لذلك
يثير أشخاص مثل الرومي حفيظتي، ولا يهمني إلى أي مدى يحترمه الناس ويبجّلونه. فهو في رأيي جبان لا ينشر سوى الجبن. ربما كان عالم دين جيداً في الماضي، لكنه أصبح
الآن يرزح تحت تأثير شمس، ذلك الزنديق.
ففي حين يظهر أعداء الإسلام، ماذا يعظ الرومي؟ إنه يدعو إلى السلام
والاستسلام والخنوع.
يا أخي، تحمّل
الألم. تخلّص من سموم
نزواتك. ستنحني السماء أمام جمالك
إذا فعلت ذلك . .
. فإن الشوكة تصبح وردة. تتوهج مع
العالمين.
إذ يعظ الرومي أن
نكون مستلسمين، جاعلاً المسلمين ليسوا أكثر من قطيع من الأغنام، وديعين
وخجولين. يقول إن لكلّ نبي أتباعاً ولكلّ
مجتمع زمناً. وبالإضافة إلى عبارة
"عشق"، يبدو ان الكلمات الأثيرة لديه هي "الصبر" و "التوازن"
و "التحملّ". ولو كان الأمر
بيده، لجلسنا جميعاً في بيوتنا وانتظرنا حتى نذبح على يد أعدائنا، أو حتى تصيبنا
كارثة أخرى، وإني واثق من أنه سيأتي بعد ذلك، ويتفحّص الدمار بسرعة، ويدعوه
"بركة". وقد سمعه البعض يقول:
"عندما تنهدم المدرسة والمسجد والمئذنة، عندها يستطيع الدراويش إقامة
مجتمعهم". ما معنى هذا الكلام؟
عندما تتمعن في
الأمر، فإن السبب الوحيد الذي جعل الرومي يستقر في هذه المدينة هو أن أسرته غادرت
أفغانستان منذ عقود ولجأت إلى الأناضول.
فقد تلقى آنذاك عدد من العلماء والأغنياء دعوة مفتوحة من السلطان السلجوقي،
ومن بينهم والد الرومي. وهكذا غادرت أسرة
الرومي، التي كانت تنعم بالحماية والثراء والرعاية، أفغانستان التي كانت تسودها
الاضطرابات، إلى بساتين قونية الهادئة المسالمة.
فمن السهل إعطاء خطب عن التسامح عندما يكون وراءك تاريخ كهذا!
وقد سمعت منذ
بضعة أيام قصّة تقول إن شمس التبريزي حدّث مجموعة من الأشخاص في السوق، وقال إن
علياً، خليفة النبي وأحد صحابته، كان
يقاتل مشركاً شرساً، فطال بينهما القتال، وفي النهاية تمكَّن رضي الله عنه من
خصمه، وسقط المشرك جريحاً تحت علي بن أبي طالب ولما هَمَّ بقتله، بَصَقَ المُشرِ
في وجه علي والسيف في الهواء يُوشك أن يهوي به، فما كان من علي إلا أن تركه وانصرف
عنه ولم يقتله فلما سُئِل قال: لقد كنت أقاتله لله، فلما بَصَقَ في وجهي، أحسست
بأني أريد الانتقام لنفسي فتركته.
وهكذا أطلق علي
الرجل، فتأثر المشرك كثيراً وأصبح تابعاً من أتباعه، ثمّ اعتنق الإسلام بمحض
إرادته.
يبدو أن شمس
التبريزي يحب رواية هذا النوع من القصص.
لكن ما هي الرسالة التي يبغي إيصالها؟
دع الكفار يبصقون في وجهك! وأنا
أقول، على جثتي، سواء أكان كافراً أم لم يكن، فلا ستطيع أحد أن يبصق في وجه بيبرس
المحارب.
إيلا
نورثامبتون، 13 حزيران (يونيو) 2008
المحبوب عزيز،
ستقول إني
مجنونة، لكن، هناك شيءٌ أريد أن أسألك إياه: هل أنت شمس؟
أم العكس هو
الصحيح؟ هل شمس هو أنت؟
المخلصة، إيلا
***
عزيزتي إيلا،
إن شمس هو
المسؤول عن تحويل الرومي من رجل دين محلّي إلى شاعر وصوفي مشهور في العالم.
وكان
السيد ساميد يقول لي: "حتى لو صادفنا شخصاً مثل شمس، فمن أين لنا
بالرومي؟".
مع كل الاحترام،
عزيز
***
عزيز الغالي،
من هو السيد
ساميد؟
أفضل التحيات،
إيلا
***
المحبوبة إيلا،
إنها قصّة طويلة.
هل تريدين أن تعرفي حقاً؟
تحية حارة،
عزيز
***
عزيز الغالي،
في جعبتي الكثير
من الوقت،
مع حبي،
إيلا
الرومي
قونية، 2 آب (أغسطس) 1245
حياتك
حافلة، مليئة، كاملة، أو هكذا يخيّل إليك، حتى يظهر فيها شخص يجعلك تدرك ما كنت
تفتقده طوال هذا الوقت. مثل مرآة تعكس
الغائب لا الحاضر، تريك الفراغ في روحك – الفراغ الذي كنت تقاوم رؤيته. قد يكون ذلك الشخص حبيباً، أو صديقاً، أو
معلماً روحياً. وقد يكون طفلاً يجب إحاطته
بالحب والرعاية. المهم هو أن تعثر على
الروح التي تكمل روحك، فقد قدم الأنبياء جميعاً النصيحة ذاتها: جد الشخص الذي
سيكون مرآتك! بالنسبة لي، فإن هذه المرآة هي شمس التبريزي، الذي جاء وجعلني أبحث
في أعماق روحي وثناياها، لأنني لم أجد حقيقة نفسي الأساسية. فعلى الرغم من أنني كنت عالماً ناجحاً في
الخارج، فإني أشعر بالوحدة وإني لم أحقق شيئاً في داخلي.
يبدو
كأنك أمضيت سنوات عدة في جمع قاموس شخصي، تعرّف فيه كلّ مفهوم تراه مهماً مثل
"الحقيقة" ، أو "السعادة"، أو "الجمال". وفي كلّ منعطف رئيسي في حياتك، تعود إلى هذا
القاموس، لكنك
قلما تشعر بالحاجة إلى البحث في مقدماتها المنطقية. وفجأة يأتي شخص غريب وينتشل قاموسك الثمين
ويلقي به جانباً، ويقول لك: "يجب أن
تعيد تعريف جميع التعاريف التي وضعتها.
لقد آن الأوان أن تنسى كلّ ما تعرفه".
ولسبب
يجهله عقلك، لكنه واضح لقلبك، لا تعترض على ما فعله أو تغضب منه، بل تمتثل لمشيئته
بسعادة، وهذا ما فعله بي شمس. فقد علّمتني
صداقتنا الكثير، لكن الأهم من كل ذلك، أنه علّمني أن أنسى كلّ ما كنت أعرفه.
عندما
تحبّ شخصاً إلى هذه الدرجة، فإنك تتوقّع من جميع المحيطين بك أن يحبّوه أيضاً، وأن
يشاطروك بهجتك وغبطتك، لكن عندما لا يتحقق ذلك، فإنك تتفاجأ ويعتريك شعور بأنهم
أهانوك وغدروا بك.
كيف
يمكنني أن أجعل عائلتي وأصدقائي يرون ما أراه؟
كيف يمكنني أن أصف الأشياء التي يتعذّر عليّ وصفها؟ إذ إن شمس بحر رحمتي
ونعمتي، إن شمس حقيقتي وإيماني، وإني أدعوه ملك ملوك الروح. إنه نبع حياتي وشجرة السرو الباسقة، المهيبة،
الدائمة الخضرة بالنسبة لي، وتشبه صحبته التلاوة الرابعة للقرآن – رحلة لا يمكن
الإحساس بها إلا من الداخل ولا يمكن إدراكها من الخارج مطلقاً.
ولسوء
الحظ، يبني معظم الناس تقييماتهم على التصورات والإشاعات. فهم يعتبرون أن شمساً ما
هو إلا درويش غريب الأطوار، ويخيّل إليهم أن تصرفاته غريبة، وأن أقواله محض كفر،
ويعتبرونه شخصاً متقلّب الأهواء لا يمكن الوثوق به. أما أنا فأرى أنه مثال الحبّ، ينتقّل في مختلف
أرجاء الكون، وينسحب أحياناً إلى الخلف لجميع القطع المتناثرة ويلملمها، وفي أحيان
أخرى، يتفجّر إلى شظايا. إن لقاء كهذا لا
يحدث إلا مرة واحدة في العمر، مرة كلّ ثمان وثلاثين سنة.
منذ اللحظة التي
دخل فيها شمس حياتنا، دأب الناس على سؤالي ما هو الشيء المميّز الذي وجدته
فيه. لكني لا أجد رداً على سؤالهم
هذا. وفي نهاية الأمر، فإن الذين يطرحون
هذا السؤال هم الذين لم يفهموه، أما الذين فهموه، فلا يطرحون أسئلة من هذا القبيل.
تذكّرني المشكلة
التي أجد نفسي فيها بقصّة ليلى وهارون الرشيد، الخليفة العباسي المعروف. فعندما سمع أن شاعراً بدوياً يدعى قيس قد هام
في حبّ ليلى وجنّ من أجلها، وأطلق عليه "المجنون"، أصبح الخليفة متلهفاً
للتعرف على المرأة التي أوصلته إلى هذه الدرجة من التعاسة.
لا بد أن ليلى
هذه مخلوقة خاصّة جداً، قال لنفسه، امرأة تفوق النساء الأخريات جميعهن. ربما كانت ساحرة لا توازيها امرأة بجمالها
وفتنتها.
ومارس كلّ الحيل
والسبل المذكورة في الكتب ليرى ليلى بعينيه هو.
وذات يوم، أحضروا
ليلى إلى قصر الخليفة هارون الرشيد، وعندما نزعت حجابها، ورأى وجهها شعر بخيبة
شديدة. فلم تكن ليلى عجوزاً أو عاجزة أو
قبيحة. لكنها لم تكن في الوقت نفسه على
تلك
الدرجة من الجاذبية والفتنة، بل مجرد امرأة عادية، لها
عيوبها، امرأة بسيطة، مثل النساء الأخريات اللاتي لا يعددن ولا يحصين.
لم يخف
الخليفة شعوره بالإحباط، فسألها: "هل أنتِ هي المرأة التي هام بها
المجنون؟ إني أتساءل ما الذي يجعلك امرأة
يهيم فيها المجنون في حين أنك مجرد امرأة عادية؟".
فافترّت
شفتا ليلى عن ابتسامة، وقالت: "نعم، أنا ليلى، لكنك لست المجنون. يجب أن تراني بعينيّ المجنون، لكي تحلّ هذا
اللغز الذي يدعى الحبّ".
كيف
يمكنني أن أشرح اللغز نفسه لعائلتي أو لأصدقائي، أو لتلاميذي؟ كيف أجعلهم يفهمون
أنهم لكي يدركوا ما يميّز شمس التبريزي، يجب أن ينظروا إليه بعينيّ المجنون؟
هل من
وسيلة لفهم ما معنى الحبّ من دون أن تصبح حبيباً في المقام الأول؟
فالحبّ
لا يمكن تفسيره، ولا يمكن إلا معايشته واختباره.
ومع أن الحبّ لا يمكن تفسيره، فهو يفسر كلّ شيء.
كيميا
قونية، 17 آب (أغسطس) 1245
بلهفة
شديدة رحت أنتظر دعوة الرومي لي ليعطيني درساً، لكن لم يعد لديه وقت لذلك. وعلى الرغم من أنني أصبحت أفتقد دروسنا وبدأت
أشعر بإهماله إياي، فإنني لم أنزعج منه، ولعل ذلك بسبب محبتي له، أو ربما لأنني
أعرف أكثر من أي شخص آخر كيف يشعر، وقد اعترتني في أعماقي الحيرة التي تعتري
الآخرين، وهي شمس التبريزي.
إذ تتبع
عينا الرومي شمساً كما يتبع نبات عبّاد الشمس الشمس. فقد كان حبّ أحدهما للآخر جلياً قوياً، وثمة
شيء نادر جداً يجمعهما. ولم يُعد جميع من
في البيت يتحمّلون ذلك، لا سيما علاء الدين، الذي رأيته مرات عدة وهو يرمق شمس
بنظرات غاضبة. وكان القلق يعتصر كيرا
أيضاً، لمنها لم تنبس ببنت شفة. كنا نجلس
جميعاً فوق برميل بارود، ومن الغريب أن شمس التبريزي، المسؤول عن كلّ التوتّر الذي
خيّم علينا، لم يكن يعي ما حدث، أو أنه كان يعي ذلك لكنه لم يكن يعبأ به.
في جزء مني، كنت
أحسّ بمرارة تجاه شمس لأنه سلب منا الرومي، وفي جزء آخر كنت أتلهف للتعرف عليه
أكثر. وكانت هذه المشعر المتباينة تحتدم
في نفسي منذ زمن، وأخشى اليوم أن أكون قد كشف عن مكنونات نفسي.
ففي هذا المساء،
تناولت القرآن المعلّق على الحائط، وعزمت على قراءته وحدي. ففي السابق، كان الرومي يتبع الترتيب الذي نزلت
فيه الآيات، لكن بعد أن افتقدت من يوجّهني ويرشدني، وبعد أن انقلبت حياتنا رأساً
على عقب، لم أر ضيراً في قراءتها من دون ترتيب.
لذلك، فتحت صفحة لا على التعيين، ووضعت إصبعي على أول سورة ظهرت لي، فكانت
سورة "النساء"، التي لم أكن أحبّها كثيراً، لأنني كنت أجد صعوبة في فهم
الأوامر المتعلقة بالمرأة فيها، والتي وجدت من الصعب عليّ تقبّلها. وبينما رحت أقرأ السورة مرة تلو الأخرى، خطر لي
أن أطلب منه أن يساعدني. فعلى الرغم من أن
الرومي لم يعد يعطيني دروساً، ما من سبب يمنعني من سؤاله. لذلك، حملت قرآني وتوجهت إلى غرفته.
دهشت عندما لم أر
الرومي في الغرفة، بل رأيت شمساً جالساً بالقرب من النافذة، يسبّح بمسبحة يحملها
في يده، وكان ضوء الشمس الغاربة يداعب قسمات وجهه. بدا شديد الوسامة فأشحت وجهي عنه.
قلت له:
"أنا آسفة، إني أبحث عن مولانا، سأعود في ما بعد".
فقال شمس:
"فيمَ العجلة؟ ابقي. يبدو أنك جئت
إلى هنا لتسألي عن شيء. ربما كان بإمكاني
أن أساعدك".
لم أر سبباً
يمنعني من سؤاله، فقلت بتردد: "حسناً، أجد صعوبة في فهم هذه السورة".
همهم شمس، وكأنه
يكلّم نفسه، وقال: "إن القرآن مثل عروس خجولة، لا ترفع حاجبها إلا عندما ترى
أن الناظر إليها لطيف وجنون في الصميم"، ثمّ سوّى كتفيه وسأل: "أيّ
سورة؟".
فقلت: "سورة
النساء. ففيها آيات تقول إن الرجال قوامون
على النساء، حتى إنها تقول إنه يحق للرجال أن يضربوا زوجاتهم . . .".
"هل الأمر
كذلك؟"، سأل شمس باهتمام مبالغ فيه فلم أعرف أكان جاداً أم أنه كان يسعى
لإثارتي. وبعد فترة قليلة من الصمت، ابتسم
ابتسامة رقيقة، وراح يتلو الآية من ذاكرته:
"الرجال
قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات
قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في
المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا".
عندما
انتهى، أغمض عينيه وراح يقولها بالتفسير التالي:
"إن
الرجال يعيلون النساء لأن الله يرزق بعضهم أكثر من بعض، وينفقون من أموالهم (لإعالتهن). والنساء الصالحات المطيعات لله يحفظن الغيب كما
حفظه الله. أما اللاتي تخافون نشوزهن
فعظوهن، واهجروهن في المضاجع (من دون إيذائهن) وضاجعوهن (عندما يكنّ راغبات في
ذلك). وإذا تقرّبن منكم، فلا تبحثوا عن
عذر للومهن. إن الله عليّ قدير".
"هل
ترين فرقاً؟"، سأل شمس.
فقلت:
"نعم. هناك فرق كبير. ففي حين يبدو أن الآية توافق على ضرب الرجال
لزوجاتهم، ينصحهم تفسيرك بهجرهن والابتعاد عنهن.
أظن أن هناك فرقاً كبيراً. لمَ
ذلك؟".
"لمَ ذلك؟
لمَ ذلك؟"، ردّد شمس عدّة مرات، كأنه يستمتع بالسؤال، "أخبريني شيئاً يا
كيميا. هل سبق أن سبحت في نهر ذات
يوم؟".
فهززت رأسي عندما
لمعت في ذاكرتي ذكريات طفولتي. فقد تذكّرت
الجداول الباردة التي تطفئ الظمأ، والتي تجري في جبال طوروس، وذكريات الفتاة
الصغيرة التي كانت تمضي أمسيات سعيدة عدة على ضفاف تلك الجداول برفقة أختها
وصاحباتها، التي لم يبق منها الآن سوى النذر اليسير. أشحت بوجهي عن شمس لأنني لم أشأ أن يرى الدموع
تترقرق في عينيّ.
"عندما
تنظرين إلى نهر من بعيد يا كيميا، فقد تعتقدين بوجود مجرى ماء واحد فقط. أمّا إذا غصتِ في الماء، فستدركين أنه يوجد
أكثر من نهر واحد. فالنهر يخفي تيارات
متعددة، تتدفّق جميعها بتناغم، لكنها في الوقت نفسه، منفصلة عن بعضها الآخر.
عندما قال ذلك،
اقترب مني شمس وأمسك ذقني بين أصبعيه، وجعلني أنظر مباشرة في عينيه العميقتين،
الداكنتين، الحنونتين. كاد قلبي يتوقف عن
الخفقان. حتى إنني لم أستطع أن أتنفّس.
وقال: "إن
القرآن نهر متدفق. لا يرى الذين ينظرون
إليه من بعيد إلا نهراً واحداً. أما الذين
يسبحون فيه، فإنهم يجدون أربعة تيارات.
ومثل أنواع الأسماك المختلفة، بعضنا يسبح بالقرب من السطح، وبعضنا الآخر
يسبح في المياه الأعمق".
فقلت: "لم
أفهم"، مع أنني كنت قد بدأت أفهم.
"إن
الذين يحبّون أن يسبحوا بالقرب من سطح الماء يقنعون بالمعنى الظاهري للقرآن،
وكثيرون ينتمون إلى هذه الفئة، فيفسّرون الآيات تفسيراً حرفياً، ولا عجب أنهم
يستنتجون، عندما يقرأون سورة مثل سورة النساء، بأن الرجال هم أعلى منزلة من
النساء، لأن هذا هو ما يريدون رؤيته فقط".
فسألته:
"وماذا عن التيارات الأخرى؟".
انطلقت من شمس
تنهيدة رقيقة، ولم أتمالك نفسي من النظر إلى فمه، الغامض، الممتع مثل حديقة سرية.
"توجد ثلاثة
تيارات أخرى: فالتيار الثاني أعمق من التيار الأول، لكنه قريب من السطح. وعندما تتسع درجة وعيك، تتسع درجة فهمك للقرآن
أيضاً. لكن لكي يتم ذلك، يجب أن تغوصي في
العمق".
أحسست بالفراغ
وبالفهم في الوقت نفسه وأنا أنصت إليه، ثمّ سألته بحذر: "وماذا يحدث عندما
تغوص؟".
"أما
التيّار التحتي الثالث فهو القراءة الباطنية.
فإذا قرأت سورة النساء وعينك الداخلية مفتوحة، فإنك سترين أن السورة لا
تتحدث عن النساء والرجال، بل عن الأنوثة والذكورة. ويوجد لدى كلّ واحد منّا، بمن فيهم أنا وأنت،
أنوثة وذكورة، لكن بدرجات وظلال متباينة.
وعندما تتعلّم كيف نحتضن هاتين الصفتين، نتمكن من تحقيق وحدانية
متناغمة".
"هل تريد أن
تقول لي إنه يوجد في داخلي شيء من الذكورة؟".
"نعم،
بالتأكيد. ويوجد لديّ أيضاً جانب من
الأنوثة".
انطلقت مني ضحكة
خافتة، وسألته: "وماذا عن الرومي؟".
ابتسم شمس
ابتسامة خفيفة، وقال: "توجد في داخل كلّ رجل درجة من الأنوثة".
"حتى الرجال
الذين يتمتعون بالرجولة؟".
"خاصة هؤلاء
يا عزيزتي"، قال شمس، مزيّناً كلماته بغمزة وخافضاً صوته إلى همس، كأنه يريد
أن يفضي إليّ بسرّ.
كتمت ضحكة،
وأحسست بأنني فتاة صغيرة. كان هذا هو
تأثير وجود شمس القريب مني كثيراً. فقد
كان رجلاً غريباً، لصوته سحر غريب. وكانت
يداه لدنتين، تكسو العضلات ذراعيه، وكانت نظرته مثل خط من ضوء الشمس، يجعل كلّ شيء
يسقط عليه يبدو أكثر حدّة وحيوية. وعندما وقفت بجانبه، أحسست بشبابي بكلّ عنفوانه،
وسرت في داخلي كذلك غريزة أمومة، تنضح برائحة الأمومة الحليبية الكثيفة. أردت أن أحميه، كيف أو من ماذا، لا أعرف.
أرخى شمس يده على
كتفي، وقرّب وجهه كثيراً من وجهي، فلسعتني أنفاسه الدافئة. ورأيت في عينيه نظرة حالمة جديدة. أسرني بلمسته، عندما داعب وجنتيّ بأطراف أصابعه
الدافئة التي بدت مثل لهب يشعل
بشرتي. دهشت. هبط إصبعه قليلاً ليصل إلى شفتي السفلى. شعرت بدوار واضطراب، فأغمضت عيني، وتموّج في
بطني إحساس بالإثارة يعادل عمراً كاملاً.
لكن عندما لمس شمس شفتيّ سرعات ما أبعدها.
"يجب أن
تذهبي الآن يا عزيزتي كيميا"، دمدم شمس، جاعلاً اسمي يبدو مثل كلمة حزينة.
خرجت وأنا أشعر
باضطراب في رأسي، وقد توجهت وجنتاي بالحرارة.
عندما عدت إلى
غرفتي، استلقيت على ظهري فوق حصيرة النوم، ورحت أحدّق في السقف، أتساءل كيف يمكن
أن أشعر لو قبّلني شمس، وتذكرت أنني نسيت أن أسأله عن التيّار التحتي الرابع في
الجدول – القراءة الأعمق للقرآن. ما هو؟
كيف يمكن للمرء أن يحقق هذا القدر من العمق؟
وماذا يحدث للذين
يغوصون؟
سلطان
ولد
قونية، 4 أيلول (سبتمبر) 1245
لماّ كنت الشقيق
الأكبر سناً لعلاء الدين، فقد كنت دائم القلق عليه، لكن قلقي عليه، لم يعد كما كان
من قبل. فهو عصبي المزاج، سريع الغضب، منذ
أن كان طفلاً، لكنه أصبح الآن مشاكساً، محباً للخصام. وكان مهيأً دائماً للشجار على أيّ شيء، مهما
كان تافهاً أو بسيطاً، وأصبح طبعه رديئاً، مشاكساً، وبات الأطفال في الشارع يخافون
منه ما إن يرونه. ومع أنه لم يكن يتجاوز
السابعة عشرة من العمر، تشكّلت حول عينيه تجاعيد من شدة التجهّم والتحديق. وفي هذا الصباح بالذات، لاحظت تجعيدة جديدة
بجانب فمه لأنه يبقيه مزموماً على الدوام.
كنت منهمكاً في
الكتابة على رقّ مصنوع من جلد الغنم عندما سمعت صوتاً خفيفاً خلفي. كان علاء الدين، بشفتيه المزمومتين. ويعلم الله منذ متى كان يقف هناك، يراقبني
بعينيه البنيتين بنظرته المتوتّرة. وسألني
ماذا أفعل.
فقلت: "إني
أنسخ محاضرة قديمة لوالدنا. فمن المستحسن أن نحتفظ بنسخة إضافية عن جميع
محاضراته".
"وماذا
فائدة ذلك؟"، زفر علاء الدين بصوت مرتفع، "فقد توقّف عن إلقاء المحاضرات
أو الخطب. وإذا لم تكن تلاحظ، فقد توقّف
عن إعطاء الدروس في المدرسة أيضاً. ألا
ترى أنه تخلّى عن جميع مسؤولياته؟".
فقلت: "إنه
أمر موقت. إذ سيعود إلى التدريس
قريباً".
"إنك تخدع
نفسك. ألا ترى أنه لم يعد لدى والدنا وقت
يمنحه لأيّ شيء أو لأحد إلا لشمس؟ أليس
هذا الأمر مضحكاً؟ من المفترض أن يكون الرجل درويشاً متجولاً، لكنه ضرب جذوره في
بتينا".
وأطلق علاء الدين
ضحكة ساخرة، متوقعاً مني أن أوافقه على رأيه، لكنني عندما لم أجبه، أخذ يذرع
الغرفة، وحتى من دون أن أنظر إليه، شعرت باللهب الغاضب يشعّ من عينيه.
"إن الناس
يثرثرون"، واصل علاء الدين كلامه بحزن، "ويسألون جميعهم السؤال نفسه:
كيف استطاع زنديق أن يتلاعب بعالم جليل؟
إن سمعة والدنا مثل ثلج يذوب تحت الشمس، وإذا لم يتوقف عن ذلك بسرعة، فقد
لا يجد مريدين آخرين في هذه المدينة، إذ لم يعد أحد يريده معلماً، وأنا لا ألومهم
على ذلك".
وضعت الرقّ
جانباً ونظرت إلى أخي. كان مجرد فترى،
حقاً، مع أن قسماته تشي بأنه أصبح يقف على عتبة الرجولة. فقد تغيّر كثيراً منذ السنة الماضية، وبدأت
أشكّ في أنه عاشق، لكني لا أعرف من هي الفتاة، وأصدقاؤه يرفضون إخباري من هي.
"يا أهي،
أعرف أنك لا تحبّ شمساً، لكنه ضيف ينزل في بيتنا، ويجب أن نحترمه. لا تنصت إلى ما يقوله الآخرون. صدقاً، يجب ألا نثير لغطاً حول هذا
الأمر".
ما إن انبعثت هذه
الكلمات من فمي، حتى ندمت، لكن الأوان قد فات.
ومثل الحطب الجاف، اشتعل علاء الدين بسرعة.
"لغط؟"،
زفر علاء الدين، "أهكذا تسمي الكارثة التي حلت بنا؟ كيف يمكنك أن تكون أعمى
إلى هذه الدرجة؟".
تناولت رقّاً
آخر، ورحت أمسّد سطحه الرقيق. فقد كان نسخ
كلمات أبي يمنحني متعة كبيرة، لذلك كنت أحاول إطالة ذلك بقدر ما أستطيع، حتى يتمكن
الناس من قراءة خطب أبي لتصبح إلهاماً لهم.
وقد جعلني عملي هذا، على صغره، أشعر بالفخر.
وقف علاء الدين
إلى جانبي ولم يكفّ عن التذمر، وراح ينظر إلى ما أفعله، بعينين كئيبتين
مريرتين. ولوهلة، رأيت توقاً في عينيه،
ورأيت وجه فتى بحاجة إلى حبّ أبيه. وبقلب
منقبض، أدركت أنه لم يكن غاضباً من شمس، بل من أبي.
كان علاء الدين
غاضباً من أبي لأنه لم يكن يحبّه كثيراً، فعلى الرغم من أن أبي كان عالماً مرموقاً
وجليلاً، فإنه لم يتمكن من مواجهة الموت الذي اختطف أمّنا وهي في مقتبل العمر.
ثم قال:
"يقولون إن شمساً سحر والدنا.
ويقولون إن الحشاشين هم الذين أرسلوه".
"الحشاشون"،
قلت محتجاً، "هذا هراء".
والحشاشون فرقة
تعرف بأساليبها الدقيقة في القتل، وباستخدامها السمّ في قتل مناوئيها. وكان أفرادها يستهدفون أصحاب السلطة والنفوذ،
ويقتلون ضحاياهم في الأماكن العامة، لبثّ الخوف والاضطراب في قلوب الناس. فقد وضعوا قطعة حلوى مسمومة في
خيمة صلاح الدين الأيوبي ورسالة إلى جانبها تقول إنك في
متناول أيدينا. ولم يجرؤ صلاح الدين،
القائد المسلم العظيم الذي حارب الصليبيين ببسالة وحرّر القدس، على محاربتهم،
وفضّل مهادنتهم. فكيف يخطر في بال أحد أن
يكون شمس مرتبطاً بهذه الفرقة التي تبثّ الرعب في نفوس الناس؟
وضعت يدي على كتف
علاء الدين وجعلته ينظر في وجهي.
"بالإضافة
إلى ذلك، ألا تعرف أن الفرقة لم تعد كما كانت؟ فلم تعد أكثر من مجرد اسم
الآن".
تمعّن علاء الدين
في ذلك قليلاً وقال: "نعم، لكنهم يقولون إن ثلاثة من الجنود الشديدي الولاء
لحسن الصباح، قد غادروا قلعة ألموت، وأقسموا أن يزرعوا الرعب وينشروا الاضطرابات
أينما حلّوا. ويعتقد البعض بأن شمساً هو
زعيمهم".
بدأت أفقد صبري،
فقلت: "كان الله في عونيّ وهل يمكنك أن تخبرني لماذا يريد الحشاشون قتل
والدنا؟".
"لأنهم
يكرهون الأشخاص ذوي النفوذ ويحبّون نشر الفوضى"، ردّ علاء الدين الذي كان
متأثراً بنظريات المؤامرة، إلى حدّ أنّ بقعاً حمراء اعترت خديّه.
كان عليّ أن
أعالج الأمر بحرص شديد، فقلت: "أنظر،
إن الناس يتحدثون دائماً عن أشياء مختلفة، ولا يمكنك أن تصدّق هذه الإشاعات
السيئة. إطرح من رأسك الأفكار الحقودة
هذه. إنها تسمّم عقلك".
وعلى الرغم من أن
علاء الدين قد أطلق أنّة تنم عن امتعاض،
واصلت كلامي،
وقلت: "يبدو أنك لا تحبّ شمساً شخصياً.
فليس من الضروري أن تحبّه، لكن كرمى لأبينا، يجب أن تظهر له شيئاً من
الاحترام".
رمقني علاء الدين
بمرارة واحتقار. وعندها فهمت أن أخي
الأصغر لم يكن منزعجاً من والدنا ولم يكن غاضباً من شمس فحسب، بل كان مستاء مني
أيضاً، لأنه كان يعتبر تقديري لشمس علامة ضعف مني. وربما خيّل إليه أنه لكي أكتسب استحسان أبي،
كنت أبدو متذلّلاً وضعيفاً. ومع أنني كنت
أشكّ في ذلك، فقد آلمني كثيراً.
وبالرغم من ذلك،
فم أغضب منه، وحتى لو كنت قد غضبت، فلم يدم غضبي طويلاً، لأنه أخي الأصغر، الذي
سيظل دائماً، بالنسبة لي، ذلك الفتى الذي يجري وراء القطط في الشارع، ويوسّخ قدميه
في البرك الموحلة التي تشكّلها الأمطار، ويتناول شرائح الخبز المدهونة باللبن طوال
النهار. ورأيت في وجهه ذلك الفتى المكتنز
قليلاً، القصير بالنسبة لعمره، ذلك الفتى الذي لم يذرف دمعة واحدة عندما سمع نبأ وفاة أمّه، وكان كلّ ما فعله أن نظر
إلى قدميه، وكأنه أحسّ بالخجل فجأة من حذائه، وزمّ شفته السفلى حتى تلاشى
لونها. ولم تنبعث من فمه كلمة أو
شهقة. لقد تمنيت لو أنه بكى.
سألته: "هل
تتذكّر عندما تعاركت مع أطفال الحيّ وأتيت إلى البيت وأنت تبكي وأنفك يرعف؟ ماذا
قالت لك أمّنا آنذاك؟".
ضاقت عينا علاء
الدين أولاً، ثم توسّعتا، لكنه لم ينبس بكلمة.
"قالت لك
عندما تغضب من شخص، يجب أن تتخيّل وجه شخص تحبّه بدلاً من وجه ذلك الشخص. هل حاولت أن تتخيّل وجه أمّنا بدلاً من وجه
شمس؟ فربما وجدت فيه شيئاً تحبّه".
ارتسمت على شفتيّ
علاء الدين ابتسامة عابرة، سريعة، وخجولة، مثل سحابة عابرة، ودهشت كم خففت هذه
الابتسامة من قسوة قسماته.
"ربما
استطعت"، قال وقد تلاشى الغضب من صوته الآن.
ذاب قلبي. عانقت أخي، ولم أعرف ما الذي يمكنني أن أقوله
له بعد ذلك. عانقني واعتراني شعور بالثقة
بأنه سيصلح علاقته مع شمس، وأنه سرعان ما سيحلّ الانسجام في بيتنا.
ومن الأحداث التي
أعقبت ذلك، لم أطن مخطئاً.
كيرا
قونية 22 تشرين الأول (أكتوبر) 1245
وراء الباب
المغلق، كان شمس والرومي يتحدثان بحماسة شديدة عن الله وعن أمور لا يعلمها إلا
الله في ذلك اليوم. قرعت الباب ودخلت من
دون أن أنتظر ردّاً، حاملة صينية عليها صحن حلاوة. جرت العادة ألا ينبس شمس بكلمة في حضوري، وكأن
وجودي يرغمه على الصمت، ولا يعلّق بشيء على مهاراتي في الطهو. وفي جميع الأحوال،
لم يكن يتناول الكثير من الطعام. ويخطر لي
أحياناً أنه لم يكن يكترث إن كنت أقدّم له طعاماً لذيذاً أو خبزاً يابساً. لكنه هذه المرة، برقت عيناه عندما تناول قطعة
الحلاوة التي صنعتها بنفسي.
وقال: "إنها
لذيذة يا كيرا. كيف صنعتها؟".
لا أعرف ماذا حلّ
بي، فبدلاً من أن أستمتع بإطرائه للحلوى التي صنعتها، سمعت نفسي أردّ عليه:
"لماذا تسأل؟ حتى لو أخبرتك كيف
صنعتها، فلن تتمكن من صنعها".
رمقني شمس بعينيه
وهزّ رأسه قليلاً، كما لو كان موافقاً على ما
قلته. انتظرت أن يقول شيئاً رداً على ذلك، لكنّه لبث
واقفاً هناك، صامتاً وهادئاً.
بعد قليل، غادرت
الغرفة وعدت إلى المطبخ، أفكّر بما جرى.
ولعلي ما كنت تذكرت شيئاً، لولا ما حدث في هذا الصباح.
***
كنت أخضّ اللبن
بجانب الموقد في المطبخ عندما سمعت أصواتاً غريبة في الفناء. خرجت مسرعة، لأرى أكثر المشاهد جنوناً في
حياتي. فقد كانت الكتب متناثرة في كل
مكان، وكان بعضها مكوّماً في أبراج متزعزعة، وكانت كتب أخرى تطفو فوق سطح ماء
البركة الذي أصبح أزرق فاقعاً بسبب الحبر الذي ذاب فيه.
بينما كان الرومي
واقفاً هناك، التقط شمس كتاباً من بين الكتب المكدسة –ديوان المتنبي – وحدّج فيه
بنظرات عابسة، وألقاه في الماء. عندما غاص
الكتاب في الماء تناول كتاباً آخر. كان
هذه المرة كتاب الأسرار للعطّار.
فغرت فمي
رعباً. فقد كان شمس يتلف كتب الرومي
الأثيرة لديه، الواحد تلو الآخر! وكان آخر كتاب ألقاه في الماء كتاب "العلون
الإلهية" الذي ألّفه والد الرومي.
ولمّا كنت أعرف مقدار حبّ الرومي لأبيه وشغفه بهذا المخطوط القديم، نظرت
إليه، وتوقّعت أن ينفجر غضباً.
لكني وجدت الرومي
واقفاً جانباً. وجهه شاحب كالشمع، ويداه
ترتعشان. لم أفهم لماذا لم يقل
شيئاً. فالرجل الذي وبّخني عندما كنت أزيل
الغبار عن كتبه، ينظر الآن إلى رجل مجنون
يتلف مكتبته
كلها، من دون أن ينبس بكلمة واحدة. هذا ليس عدلاً، وعندما لم يتدخل الرومي ليضع
حداً لذلك، تدخّلت أنا بنفسي.
"ماذا
تفعل؟"، سألتُ شمساً، "فلا توجد نسخ أخرى من هذه الكتب. إنها ثمينة للغاية. لماذا تلقي بها في الماء؟ هل جننت؟".
لم يردّ شمس، بل
التفت إلى الرومي وسأله: "أهذا هو رأيك أيضاً؟".
زمّ الرومي
شفتيه، وابتسم ابتسامة باهتة، لكنه لبث صامتاً.
"لماذا لا
تقول شيئاً؟"، صرخت في زوجي.
عندها، اقترب
الرومي مني، وأمسك بيدي بقوة، وقال: "هدّئي من روعك يا كيرا، أرجوك. إني أثق بشمس".
نظر إليّ شمس من
وراء كتفه، براحة وثقة ، وشمّر عن عن ساعديه وانتشل الكتب من الماء. دهشت عندما تبين لي أن جميع الكتب التي أخرجها
من الماء كانت جافة.
سألته، "هل
هذا سحر؟ كيف فعلت ذلك؟".
فقال شمس:
"لكن لماذا تسألين؟ وحتى لو أخبرتك، فلن تقدري على القيام بذلك".
غضبت، حبست
دموعي، وتسللت إلى المطبخ الذي أصبح ملائي هذه الأيام. جلست في المطبخ وسط القدور والمقالي، وأكوام
الأعشاب والتوابل، وأجهشت في البكاء.
الرومي
قونية، كانون الأول (ديسمبر) 1245
عزمنا أنا وشمس
على أداء صلاة الصبح معاً في العراء، وغادرنا البيت بعد فترة وجيزة من بزوغ
الفجر. امتطى كلّ منا حصانه وسرنا لفترة
من الزمن، واجتزنا المروج والوديان والجداول التي تجري فيها مياه شديدة البرودة،
مستمتعين بالنسيم الذي يهبّ على جهينا، وحيّتنا فزّاعات بأشكال غريبة في حقول
القمح، ورأينا ثياباً مغسولة حديثاً معلقة أمام بيت ريفي ترفرف بجنون في جميع
الاتجاهات عندما مررنا بجانبها في شبه الظلام.
في طريق عودتنا،
شدّ شمس رسن حصانه، وأشار إلى شجرة بلوط هائلة خارج المدينة. جلسنا معاً تحت الشجرة، والسماء معلقة فوق
رؤوسنا في ظلال أرجوانية. افترش شمس
عباءته على الأرض، وعندما انطلق صوت الأذان داعياً المؤمنين إلى الصلاة من مساجد
قريبة وبعيدة، صلّينا معاً.
أصبح جدّياً، وقال: "لقد أوصلني فلاح كان من أشدّ
المعجبين لك. وقال إن خطبك تشفي من
الحزن".
فقلت:
"كانوا يطلقون عليّ اسم ساحر الكلمات، أما الآن فقد أصبح ذلك وكأنه من الزمن
الغابر. لم أعد أرغب في إلقاء خطب. لقد انتهيت".
"إنك
ساحر الكلمات"، قال شمس بتصميم، "لكن أصبح لديك قلب يترنم بدلاً من عقل
خطيب".
لم أفهم
قصده، ولم أسأله. كان الفجر قد محا ما
تبقى من الليلة السابقة، فأصبحت السماء برتقالية.
وعلى مسافة بعيدة أمامنا، بدأت المدينة تستيقظ، وراحت الغربان تنقضّ على
مزارع الخضراوات لالتقاط ما يمكنها سرقته، وتناهت إلينا أصوات صرير الأبواب التي
بدأت تفتح، ونهيق الحمير، وطقطقة نار المواقد المشتعلة عندما انطلق الجميع
لاستقبال يوم جديد.
"في
كل مكان يكافح الناس وحدهم لتحقيق ذواتهم، من دون أن يوجههم أو يرشدهم أحد إلى إلى
ما يجب عليهم فعله"، همهم شمس وهو يهزّ رأسه، "إن كلماتك تساعدهم،
وسأبذل ما بوسعي لمساعدتك. إني
خادمك".
"لا
تقل ذلك"، قلت محتجاً، "إنك صديقي".
غير
عابئ باعتراضي، واصل شمس كلامه قائلاً: "إن ما يقلقني هو القوقعة التي تعيش
في داخلها. ولكونك خطيباً وواعظاً
مشهوراً، فإن المعجبين والمريدين يتحلّقون حولك.
لكن ماذا تعرف عن عامة الناس؟ السكارى والشحاذون واللصوص والمقامرون –
الذين لا عزاء لهم، الذين يتعرّضون لأشدّ أنواع الظلم
والبؤس. هل يمكننا أن نحبّ مخلوقات الله
جميعها؟ إنه اختبار صعب، ولا يستطيع إلا القليل من الناس اجتيازه".
عندما
واصل كلامه، رأيت لطافة وقلقاً يرتسمان على وجهه، وشيئاً آخر يشبه حناناً أمومياً.
فقلت:
"إنك محق. فقد عشت حياة رغيدة، حتى
إنني لا أعرف كيف يعيش الناس العاديون".
التقط
شمس حفنة من التراب، وبينما ترك التراب ينسلّ من بين أصابعه، أضاف بهدوء: "لو
كان بإمكاننا اعتناق الكون كله، بكلّ اختلافاته وتناقضاته، لذاب كلّ شيء وأصبح
بوتقة واحدة".
عندها
التقط شمس غصناً يابساً ورسم به دائرة كبيرة حول شجرة البلوط. وعندما انتهى من ذلك، رفع ذراعيه إلى السماء
كأنه يريد أن يرفعهما ليمسك حبلاً غير مرئي، وراح يردد أسماء الله الحسنى التسعة
والتسعين، ويدور في الوقت نفسه داخل الدائرة، ببطء وبهدوء في البداية، ثم بسرعة
متزايدة، مثل نسيم المساء. وسرعان ما أخذ
يدور بسرعة وبقوة ريح عاصفة. كان دورانه
بهذه الحماسة آسراً إلى درجة أنني بدأت أحسّ كأن الكون كله – الأرض النجوم والقمر –
تدور معه. رحت أراقب هذه الرقصة الغريبة،
تاركاً الطاقة التي تشعّ منها تغلّف روحي وجسمي.
وفي
النهاية، بدأ دوران شمس يتباطأ حتى توقّف تماماً.
كان صدره يعلو ويهبط، مع كلّ نَفَسٍ قاس يتنفسه، وقد ابيضّ وجهه، وأصبح
صوته فجأة عميقاً، كأنه منبعث من مكان بعيد، وقال: "إن الكون
كائن واحد.
ويرتبط كلّ شيء وكلّ شخص بشبكة خفيّة من القصص. وسواء أدركنا ذلك أم لم ندرك، فإننا نشارك
جميعاً في حديث صامت. لا ضرر ولا ضرار. كن رحيماً.
ولا تكن نمّاماً، حتى لو كانت كلماتك بريئة، لأن الكلمات التي تنبعث من
أفواهنا، لا تتلاشى بل تظل في الفضاء اللانهائي إلى ما لا نهاية، وستعود إلينا في
الوقت المناسب. إن معاناة إنسان واحد
تؤذينا جميعاً. وبهجة إنسان واحد تجعلنا
جميعاً نبتسم. هكذا تقول إحدى قواعد
العشق.
ثمّ وجه
نظرته الفضولية نحوي. كان ثمة مسحة من
اليأس في أعماق عينيه، مسحة من الحزن لم أرها فيه من قبل.
قال
شمس: "ذات يوم ستُعرف بصوت الحبّ، في الشرق والغرب، سيجد الناس الذين لم يروا
وجهك قط إلهاماً في صوتك".
فسألته
بريبة: "كيف يمكن أن يحدث ذلك؟".
فأجاب
شمس: "من خلال كلماتك. لكني لا
أتحدّث هنا عن المحاضرات ولا عن الخطب، بل أتحدّث عن الشعر".
"الشعر؟"،
قلت بصوت متصدع، "أنا لا أقرض الشعر.
إني عالن دين". أثار كلامي
ابتسامة خفيّة ارتسمت على وجه شمس.
"ستكون،
يا صديقي، أحد أجمل الشعراء الذين سيعرفهم العالم".
كنت على
وشك أن أحتجّ، لكن النظرة المصممة في عينيّ شمس أوقفتني، ولم أرغب في مجادلته،
فقلت: "سنفعل ما يجب أن نفعله معاً.
سنسير على هذا الدرب معاً".
هزّ شمس
رأسه ساهماً ولاذ بصمت مخيف، وراح يحدّق في الألوان الباهتة في الأفق. وعندما تكلّم أخيراً، نطلق بتلك الكلمات
المشؤومة التي لم تغادرني قط، جارحاً روحي جرحاً دائماً:
"لشدّ ما أحبّ أن أكون معك، يجب أن تفعل ذلك وحدك".
فسألته:
"ماذا تقصد؟ إلى أين ستذهب؟".
زمّ شمس
شفتيه بحزن، وأطرق بعينيه، وقال: "ليس الأمر بيدي".
هبّت
علينا ريح مفاجئة، فاشتدت برودة الطقس، كأنه نذير بأن الخريف أصبح على
الأبواب. وبدأ المطر يهمي من السماء
الزرقاء الصافية، قطرات خفيفة دافئة، رهيفة ورقيقة مثل لمسة الفراشة. وكانت هذه هي أول مرة تخطر لي فكرة أن شمس
سيغادر،فأحدث ذلك ألماً حاداً في صدري.
سلطان ولد
قونية، كانون الأول (ديسمبر) 1245
ربما
كان البعض يتسلى بسماع تلك الثرثرة، لكن الألم يعتصرني عندما أسمعها. فكيف يمكن أن يكون الناس على هذه الدرجة من
الاستعلاء والاحتقار إزاء الأمور التي لا يعرفون عنها كثيراً؟ إنه أمر غريب، إن لم يكن مخيفاً، مدى بُعدِ
الناس عن الحقيقة! فهم لا يفهمون عمق الصلة التي تربطني مع أبي وشمس. ومن الواضح أنهم لم يقرأوا القرآن. لأنهم لو قرأوه، لعرفوا أن هناك قصصاً مماثلة
تحكي عن الرفقة الروحية، مثل قصّة موسى والخضر.
فهي ترد
في سورة الكهف بوضوح شديد. فقد كان موسى رجلاً
يُحتذى، عظيماً إلى درجة أن يصبح نبياً ذات يوم، فضلاً عن كونه زعيماً ومشرّعاً
أسطورياً. ثم جاء وقت أحسّ فيه بأنه بحاجة
ماسة إلى رفيق روحي ليفتح عينه الثالثة، ولم يكن ذلك الرفيق سوى الخضر، معزّي
المفجوعين والمكروبين.
قال
الخضر لموسي: "أمرني الله أن أجوب العالم، وأن أفعل ما يجب أن أفعله. وتقول إنك تريد أن ترافقني، فإن رافقتني فلا
تسألني عن شيء حتى أحدّثك أنا به".
فقال موسى ستجدني
صابراً ولا أعصبي لك أمراً".
فانطلقا، وزارا
أماكن عدة في طريقهما، لكن موسى رأى من فعله عجباً، فقد قتل غلاماً وخرق سفينة،
فلم يتمالك موسى عن سؤاله، "لماذا فعلت هذه الأعمال الفظيعة؟".
"ألم أطلب
منك ألاّ تسألني؟".
وفي كلّ مرة كان
موسى يسأله، كان يعتذر منه ويعده بألاّ يسأله ثانية، وفي كلّ مرة، كان ينكث
بوعده. وفي النهاية، أبان له الخضر سبب
تصرفاته. وشيئاً فشيئاً، فهم موسى أن الأمور
التي قد تبدو خبيثة أو تعيسة، غالباً ما تكون نعمة مغلّفة في شكل نقمة، وعندما
تبدو الأمور جيدة، فقد تكون ضارة على المدى البعيد. وأصبحت مرافقته القصيرة للخضر من أكثر التجارب
المدهشة في حياته.
وكما في هذه
الحكاية الرمزية، توجد في هذا العالم صداقات قد تبدو غير مفهومة للأشخاص العاديين،
لكنها في حقيقة الأمر تشكّل قنوات تفضي إلى حكمة وبصيرة أعمق. وهكذا أعتبر وجود شمس في حياة أبي.
لكنّي أعرف أن
الآخرين لا يرون الأمر بالطريقة التي أراها، وهذا ما يقلقني. ولسوء الحظ، فإن شمساً لا يسهّل الأمور حتى
يكسب محبة الناس ومودتهم. إذ يجلس عند باب
التكية بطريقة متوعدة، ويوقف كلّ من يريد الدخول لرؤية أبي ويسأله: "لماذا تريد أن ترى مولانا العظيم؟ ما
الهدية التي أحضرتها له؟".
فيتلعثم الزائر
ويتأتئ بل ويعتذر، ولا يسمح له شمس بالدخول.
ويعود بعض هؤلاء
الزوّار بعد بضعة أيام حاملين معهم هدايا، فاكهة
مجفّفة، أو دراهم فضّة، أو سجاجيد حريرة، أو خِرافاً
صغيرة. لكن رؤية هذه الأشياء كانت تزعج
شمس، فتتوهج عيناه السوداوان، ويتضرّج وجهه، ويطردهم ثانية.
وفي أحد
الأيام استشاط رجل غضباً وصاح في وجه شمس: "من أعطاك الحقّ في أن تسدّ علينا
باب مولانا؟ ولا تكفّ عن سؤال كلّ من يأتي ماذا أحضر معه! وماذا عنك أنت؟".
فقال له
شمس بصوت عال ليسمعه الجميع: "لقد أحضرتُ نفسي. لقد ضحّيتُ برأسي من أجله".
فابتعد
الرجل يدمدم شيئاً، وبدا عليه الاضطراب أكثر من الغضب.
***
وفي اليوم نفسه
سألت شمساً ألا يشعر بالانزعاج عندما يسيء الجميع فهمه ولا يقدّرونه، ولم أتمكن من
مغالبة مخاوفي، وقلت له إنه اكتسب أعداد كثيرين في الأيام الأخيرة.
بدا شمس ساهماً،
وكأن ليست لديه فكرة عمّا أتحدث عنه، فقال: "لكن ليس لدي أعداء"، وأضاف:
"قد يكون لعشاق الله منتقدون، بل منافسين، لكنّ ليس لهم أعداء".
"نعم لكنّك
تتشاجر مع الناس"، قلت معترضاً.
فقال شمس
محتدماً: "إني لا أتشاجر معهم، بل أتشاجر مع إحساسهم بتضخم ذواتهم، وهذا أمر
مختلف".
ثمّ أضاف بهدوء:
"إنها قاعدة من القواعد الأربعين: "يشبه هذا العالم جبلاً مكسواً بالثلج
يردّد صدى صوتك. فكل ما تقوله، سواء أكان
جيداً أم سيئاً، سيعود إليك على نحو ما. لذلك، إذا كان هناك
شخص يتحدث بالسوء عنك، فإن التحدث عنه بالسوء بالطريقة
نفسها يزيد الأمر سوءاً. وستجد نفسك حبيس
حلقة مفرغة من طاقة حقودة. لذلك، انطق
وفكّر طوال أربعين يوماً وليلة بأشياء لطيفة عن ذلك الشخص. إن كلّ سيصبح مختلفاً في النهاية، لأنك ستصبح
مختلفاً في داخلك".
فقلت:
"لكن الناس يقولون أشياء كثيرة عنك، حتى إنهم يشكّون بوجود علاقة لا يمكن
وصفها بين رجلين"، وبدأ صوتي يخونني في النهاية.
عندما سمع شمس ذلك، أرخى يده على ذراعي، وابتسم ابتسامته
المريحة المعهودة، وحكى لي قصّة.
كان
رجلان يسافران من بلدة إلى أخرى، ووصلا إلى جدول ماء فاض من الأمطار الغزيرة. وعندما أوشكا على عبور الجدول، لاحظا امرأة
شابة جميلة تقف وحيدة، تحتاج إلى مساعدة.
وعلى الفور توجّه إليها أحد الرجلين، وحملها بين ذراعيه، واجتاز بها
الجدول، ثم وضعها على الضفة الأخرى، ولوّح لها مودعاً، ثم تابع الرجلان رحلتهما.
وخلال
ما تبقى من الرحلة، لبث المسافر الثاني صامتاً وعابساً، لا يردّ على أسئلة
صديقه. وبعد مرور ساعات من التجهّم، لم
يعد بمقدوره البقاء صامتاً، فقال: "لماذا لمست تلك المرأة؟ كان من الممكن أن
تغويك! إذ يحرم على الرجل ملامسة امرأة هكذا".
فردّ
الرجل الأول بهدوء: "يا صديقي، لقد حملت تلك المرأة ووضعتها على ضفة الجدول
الأخرى وتركتها هناك، أما أنت فلا تزال تحملها منذ ذلك الحين".
"إن
بعض الناس هكذا"، قال شمس، "يحملون مخاوفهم وأفكارهم المتحيّزة على
أكتافهم، ويسحقهم كلّ ذلك الثقل. وإذا
سمعت بأحد لا يستطيع فهم الصلة التي تربطني بأبيك، فاطلب منه أن يغسل دماغه".
إيلا
نورثامبتون، 15 حزيران (يونيو) 2008
المحبوبة
إيلا،
لقد
سألني كيف أصبحت صوفياً، وإني أقول لك إنني لم أصبح صوفياً بين ليلة وضحاها.
اسمي
الأصلي كريغ ريتشاردسون، ولدت في مدينة كينلوتشبيرفي، وهي ميناء بعيد يقع في
المناطق المرتفعة في إسكتلندا. عندما أتذكّر الماضي، فإني أتذكّر بولع شديد قوارب
الصيد، والشباك المثقلة بالسمك، وجدائل العشب البحري المتدلية منها مثل أفاعٍ
خضرٍ، وطيور زمار الرمل التي تحلّق على طول الشاطئ تلتقط الديدان، والنباتات التي
تنمو في أقل الأماكن توقّعاً، ورائحة البحر اللاذعة والمالحة. إن تلك الرائحة،
بالإضافة إلى رائحة الجبال والبحيرات، والطمأنينة الكئيبة التي خيّمت على الحياة
في أوروبا بعد الحرب ، هي التي كوّنت خلفية طفولتي.
وبينما
انحدر العالم في ستينات القرن العشرين وأصبح مسرحاً للتظاهرات الطالبية، وخطف
الطائرات، والثورات، كنت منعزلاً عنها
جميعاً أقبع في ركن هادئ، أخضر. وكان أبي يمتلك مكتبة لبيع الكتب المستعملة،
وكانت أمي تربي الأغنام التي تنتج صوفاً عالي الجودة. وفي طفولتي تذوقت طعم الوحدة التي يحياها
الراعي، والمشاعر التي تعتري بائع الكتب.
وفي أيام كثيرة، كنت أتسلّق شجرة قديمة وأنظر إلى المشهد المحيط، قانعاً
بأنني سأمضي حياتي كلها هناك. وبين الحين
والآخر، كان قلبي يتوق إلى القيام بمغامرات، لكني كنت أحبّ كينلوتشبيرفي كثيراً،
وكنت سعيداً وقانعاً بتوقعاتي لحياتي. كيف
كان لي أن أعرف أن الله قد رسم مخططاً آخر؟
وبعد
بلوغي العشرين من العمر بقليل، اكتشفت الشيئين اللذين غيّرا حياتي إلى الأبد،
الأول آلة تصوير للمحترفين، فسجّلت اسمي في دورة لتعليم فنون التصوير الفوتوغرافي،
ولم أكن أعرف أنني سأصبح مولعاً بما كنت أعتبره هواية بسيطة طول حياتي. والثاني
الحبّ، فقد أحببت امرأة هولندية كانت تقوم بجولة في أوروبا مع بعض صديقاتها، تدعى
مارغو.
كانت
مارغو تكبرني بثماني سنوات، فارعة الطول وجميلة وعنيدة. تعتبر بوهيمية، مثالية، راديكالية، تعشر
الجنسين، يسارية، فوضوية، متعددة الثقافات، مناصرة لحقوق الإنسان، وناشطة مناوئة
للثقافة السائدة، ونسوية مناصرة للبيئة، تسميات لم أكن أعرف كيف يمكنني أن أعرّفها
إذا سألني أحدهم عنها. لكني لاحظت منذ
البداية أنها كانت تعني شيئاً آخر: امرأة البندول. فقد كانت مارغو امرأة قادرة على التأرجح بين
البهجة العارمة والكآبة الشديدة في بضع دقائق.
كانت شديدة التقلب، وتغضب دائماً مما
كانت تفسّر بأنه نفاق "أسلوب الحياة
البرجوازية". وكانت تدأب على البحث
في كلّ تفصيل من تفاصيل الحياة، وتشنّ معارك على المجتمع. وحتى يومنا هذا، لا يزال عدم هروبي منها وهجرها
لغزاً بالنسبة لي.
بل تركت
نفسي أنجرّ إلى دوّامة شخصيتها المتقلّبة، لأنني كنت غارقاً في حبها.
كانت ماغو توليفة
مستحيلة، فمع أنها كانت مفعمة بالآراء الثوروية، والشجاعة الحرة، والإبداع، كانت
هشّة مثل زهرة من كريستال. فقررت أن أقف
إلى جانبها وأحميها، لا من العالم الخارجي فحسب، بل من نفسها أيضاً. هل كانت تحبني بقدر ما كنت أحبّها؟ لا أظن ذلك،
لكني كنت أعلم أنها كانت تحبّني بطريقتها الأنانية التي تتسم بالتدمير الذاتي.
وهكذا انتهى بي
المقام في آمستردام وأنا في العشرين من عمري، حيث تزوّجنا. وكرّست مارغو وقتها لمساعدة اللاجئين إلى
أوروبا لأسباب سياسية أو إنسانية. وبسبب
عملها في منظمة تعنى بتلبية احتياجات المهاجرين، كانت تقدم المساعدة للمتضررين
القادمين إلى هولندا من أصقاع الدنيا.
كانت ملاكهم الحارس. وقد أطلقت
الكثير من الأسر القادمة من إندونيسيا والصومال والأرجنتين وفلسطين اسم مارغو على
بناتها.
أما أنا، فلم أكن
أبدي اهتماماً بالقضايا المهمة، لأنني كنت منهمكاً بتسلق سلم الترقيات. فبعد أن تخرجت في كلية إدارة الأعمال، عملت في
شركة دولية. جعلني عدم اهتمام مارغو بوضعي أو براتبي
أطمح أكثر إلى تحقيق نجاحات تافهة. فقد كنت متعطشاً للسلطة، وكنت أريد أن أترك
بصمتي على العالم.
كنت قد
خططت لحياتنا كلها، وكنا قد قررنا أن ننجب أطفالاً بعد سنتين. وقد أكملت ابنتان صغيرتان الصورة التي رسمتها
في ذهني عن عائلة مثالية. وكنت واثقاً من
المستقبل الماثل أمامنا. فقد كنا نعيش في
واحد من أكثر البلدان أماناً على وجه الأرض ، لا في واحد من تلك البلدان التي تسود
فيها الاضطرابات ويتدفق منها المهاجرون إلى أوروبا مثل صنوبر ماء معطوب. كنّا في ريعان الشباب، ننعم بالصحة، ويحبّ
أحدنا الآخر. ومن الصعب الآن أن أصدق أنني
بلغت الرابعة والخمسين من العمر، وأن مارغو قد ماتت.
كانت
مارغو وافرة الصحة، وكانت نباتية في زمن لم تكن هذه الكلمة معروفة، وكانت تحرص على
تناول الأطعمة الصحية، وتمارس الرياضة بانتظام، ولم تكن تتناول أي أدوية. كان وجهها الملائكي مفعماً بالصحة، وجسمها على
الدوام كان رشيقاً، نحيفاً. كما كانت
تعتني بنفسها إلى درجة أنني كنت أبدو أكبر سناً منها، على الرغم من فارق السن
بيننا.
ماتت
مارغو ميتة بسيطة وعلى نحو غير متوقّع.
ففي إحدى الليالي، وهي في طريق عودتها من زيارة قامت بها لصحافي روسي
مشهور، تقدّم بطلب للحصول على اللجوء، تعطّلت سيارتها في وسط الطريق السريع. فقد فعلت شيئاً، وهي المرأة التي طالما حرصت
على الالتزام بالقوانين، لا يعبّر عن حقيقة شخصيتها. فبدلاً من أن تشعل الضوء الوامض، وتنتظر وصول
مساعدة، غادرت السيارة وتوجهت
إلى القرية المجاورة سيراً على القدمين. كانت ترتدي معطفاً رمادياً راكناً، وبنطالاً
غامقاً، ولم تكن تحمل مصباحاً كاشفاً، أو أيّ شيء يجعلها مرئية، فصدمتها شاحنة –
مقطورة قادمة من يوغسلافيا. قال السائق إنه
لم يرها، لأن مارغو كانت ذائبة في ظلام الليل تماماً.
كنت ذات
يوم فتى. وكان الحبّ قد فتح عينيّ على
حياة أجمل. لكن بعد أن فقدت المرأة التي
كنت أحبّها، طرأ تغيّر كبير على شكلي، فلم أعد فتى ولم أعد رجلاً بالغاً، بل أضحيت
حيواناً حبيساً. وإني أطلق على هذه
المرحلة من حياتي الحرف "صاد" في كلمة "صوفي".
أرجو
ألاّ أكون قد أثقلت عليك بهذه الرسالة الطويلة.
محبتي،
البغي وردة الصحراء
قونية، كانون الثّاني (يناير) 1246
بسبب
الإحساس بالخزي لما حدث في المسجد، لم تعد صباحية المبغى تسمح لي بالخروج للذهاب
إلى أيّ مكان، وأصبحت سجينة في المبغى إلى الأبد.
لكن ذلك لم يزعجني، لأنني لم أعد أرغب في أيّ شيء.
وازداد
الوجه الذي يحيّيني في المرآة صباح كل يوم شحوباً، ولم أعد أمشّط شعري، أو أقرص
خديّ ليصطبغا باللون الأحمر. بدأت الفتيات الأخريات يتذمّرن من هيئتي التي لم تعد
جذابة، ويقلن إن ذلك يجعل الزبائن يهربون.
ربما كنّ على حقّ، لذلك شعرت بالاطمئنان عندما قلن لي في ذلك اليوم إن
زبوناً معيناً يلحّ على رؤيتي.
واعتراني
الذعر عندما تبيّن لي أنه بيبرس.
وما إن
أصبحنا وحدنا في الغرفة، حتى سلته: "ماذا يفعل حارس مثلك هنا؟".
فقال
بصوت مثقل بالتلميح: "حسناً، إن قدومي إلى مبغى لا يقل غرابة عن ارتياد عاهرة
مسجداً".
فقلت:
"كنت واثقة من أنك كنت تريد أن تقتلني في ذلك اليوم. إني أدين بحياتي إلى شمس التبريزي".
فقال:
"لا تذكري هذا الاسم المقزز أمامي ثانية، فهو زنديق".
"لا
، إنه ليس زنديقاً"، لا أعرف ماذا حلّ بي، لكني سمعت نفسي أقول: "منذ
ذلك اليوم، زارني شمس التبريزي عدة مرات".
"هاه!
درويش في مبغى!"، نخر بيبرس،
"إن هذا لا يفاجئني".
فقلت:
"ليس الأمر كذلك. ليس الأمر كما
يخيّل إليك على الإطلاق".
لم أكن
قد أخبرت أحداً بذلك من قبل، ولا أعرف ما الذي جعلني أخبر بيبرس بذلك الآن، لكن
شمس دأب على زيارتي أسبوعياً خلال الشهور الماضية. لا أعرف كيف كان يستطيع التسلل إلى المبغى من
دون أن يراه أحد، ولا سيما صاحبة المبغى.
ولعل أي شخص آخر كان سيقول إنه يمارس السحر الأسود. لكني أعرف أن هذا غير صحيح، فقد كان شمس رجلاً
طيباً – رجلاً مؤمناً – لديه مواهب خاصة.
وما عدا أمّي أثناء طفولتي، فإن شمس هو الشخص الوحيد الذي عاملني برقة ولطف
من دون مقابل، وهو الذي علّمني ألا أقنط، مهما بلغ الأمر من سوء. وعندما قلت له إن شخصاً مثلي لا يمكنه التخلص
من ماضيه، ذكّرني بإحدى قواعده التي تقول: إن الماضي تفسير، والمستقبل وهم. إن العالم لا يتحرّك عبر الزمن وكأنه خط
مستقيم، يمضي من الماضي إلى المستقبل. بل
إن الزمن يتحرك من خلالنا وفي داخلنا، في لوالب لا نهاية لها.
إن
السرمدية لا تعني الزمن المطلق، بل تعني الخلود.
فإن أردتِ اختبار النور الأبدي، فعليكِ أن تخُرجي الماضي
والمستقبل من عقلك وتظلي داخل اللحظة الراهنة.
ولقد
دأب شمس على القول: "كما ترين، فإن اللحظة الحالية هي كلّ ما كان وكلّ ما
سيكون. وعندما تفهمين هذه الحقيقة، فلن
يبقى ما تخشين منه، وعندها يمكنك مغادرة هذا المبغى بلا رجعة".
***
كان
بيبرس يحدّق في وجهي. عندما نظر إليّ،
كانت عينه اليمنى تنظر إلى أحد الجانبين، كما لو كان معنا في الغرفة شخص آخر، شخص
لا أستطيع رؤيته، مما أثار فزعي.
عندما
أدركت أنه يجب عليّ أن أتوقف عن الحديث عن شمس، قدمت له إبريقاً من الجعة، فجرعها
بسرعة.
"إذاً
ما الشيء الذي تجيدينه؟"، سألني بيبرس بعد أن جرع إبريقاً ثانياً من الجعة،
"ألا تتمتعن أيتها الفتيات بمواهب خاصة؟ هل تجيدين الرقص الشرقي؟".
فقلت
إني لا أتمتع بأي من هذه المواهب، وأن المواهب التي كنت أتمتع بها في الماضي تلاشت
بعد أن أصبت بمرض مجهول، وأن المعلمة ستقتلني لو سمعتني أقول ذلك لأحد الزبائن، لكن
لم يعد يهمني. فقد كنت أتمنى أن يمضي
بيبرس الليلة نع فتاة أخرى.
لكن
بيبرس خيّب أملي، إذ راح يهزّ رأسه وقال إن ذلك لا يهمه. ثم أخرج كيسه، وصبّ مادة بنية مائلة إلى الأحمر
في راحة يده، وتناولها وراح يمضغها ببطء، ثم سألني: "هل تريدين
قليلاً؟".
هززت
رأسي بالنفي. كنت أعرف ما هي هذه المادة.
"إنك لا تعرفين ما خسرتيه"، ابتسم ابتسامة
عريضة عندما استلقى على السرير، واستسلم جسمه لخدر الحشيش.
في ذلك
المساء، بعد أن شعر بيبرس بالانتشاء من الجعة والحشيش، أخذ يتحدث بتبجّح عن
الفظائع التي شهدها في ساحات المعارك.
وقال بيبرس إنه بالرغم من أن جنكيزخان مات وتفسّخ جسده، فلا يزال طيفه
يرافق جيوش المغول، وبحافز من طيفه، يهاجم الجيش المغولي القوافل، وينهب القرى
ويسلبها، ويذبح النساء والرجال. ثمّ حدثني
عن حجاب الصمت، الرقيق الهادئ مثل دثار في ليلة شتوية باردة، الذي خيّم على ساحة
معركة بعد أن قتل وجرح المئات، وكان العشرات يلفظون أنفاسهم الأخيرة.
وأضاف
بصوت مبهم: "إن الصمت الذي يعقب كارثة هائلة، هو أشد الأصوات التي يمكنك
سماعها هدوءاً على سطح البسيطة".
فدمدمت
قائلة: "يبدو الأمر حزيناً للغاية".
فجأة
نضبت الكلمات، ولم يعد هناك شيء يمكن أن نتحدث عنه. فأمسك بذراعي، ودفعني إلى السرير، ونزع عني
ردائي. كانت عيناه محتقنتين، وصوته
أجشَّ. وكانت رائحته مزيجاً كريهاً من
الحشيش والعرق والجوع. وولجني بلكزة واحدة
قاسية. حاولت أن أتحرك جانباً وأرخي فخذيّ
لأخفف من شدة الألم، لكنّه ضغط بكلتا يديه على صدري بقوة وسمّرني في مكاني. ولم يتوقف عن الصعود والهبوط فوقي حتى بعد أن
قذف في داخلي، مثل دمية متحركة تحركها أيد خفيّة، غير قادرة على التوقف. كان من الواضح أنه كان مستاء، وظل يتحرك فوقي
بفظاظة فخشيت أن ينتصب ثانية، لكن
فجأة انتهى كلّ شيء.
كان لا يزال فوقي، ونظر في وجهي بحقد، كأن الجسد الذي أثاره منذ لحظات بات
الآن يثير اشمئزازه.
"ارتدي
شيئاً"، أمرني وتدحرج جانباً.
ارتديت
ثوبي، ورحت أراقبه من طرف عيني وهو يلقي قليلاً من الحشيش في فمه، وقال: "من
الآن فصاعداً، أريدك أن تكوني عشيقتي"، وبرز فكّه إلى الخارج.
لم يكن
من الشائع أن يطلب الزبائن مني ذلك. وكنت
أعرف كيف أعالج هذه الأمور الحسّاسة، فأعطي الزبون انطباعاً كاذباً بأنني أحبّ أن
أصبح عشيقته وأنني لن أخدم أحداًغيره، لكن عليه أولاً أن ينفق مالاً كثيراً لإرضاء
صاحبة المبغى، لكنني لم أرغب في التظاهر بذلك اليوم.
فقلت:
"لا يمكنني أن أصبح عشيقتك، لأنني سأغادر هذا المبغى قريباً".
قهقه
بيبرس كأن ما قلته كان أطرف ما سمعه في حياته، ثم قال بثقة تامة: "لا يمكنك
أن تفعلي ذلك".
كنت
أعرف أن عليّ ألاّ أتشاجر معه، لكنني لم أتمالك نفسي، وقلت: "أنا وأنت لا
نختلف كثيراً. ففي الماضي، فعلنا أشياء نأسف عليها كثيراً، لكنك عُيِّنت حارساً
بسبب مركز عمك ومكانته، أما أنا فلا عمَّ لديَّ يدعمني".
تصلّب
وجه بيبرس، واتسعت عيناه الباردتان والساهمتان، غضباً. فاندفع إلى الأمام، وأخذ يجرّني من شعري. وقال هادراً: "لقد كنت لطيفاً معك، من
تظنين نفسك؟".
فتحت
فمي لأقول شيئاً، لكن وخزة ألم حادّة أسكتتني.
فقد لطمني بيبرس على وجهي بقوة ودفعني إلى الحائط. لم تكن تلك أول مرة، فقد ضربني زبائن كثيرون،
لكن ليس بهذه القسوة.
***
ألقاني
بيبرس أرضاً وراح يركلني بقوة على أضلاعي وساقيّ، ويكيل لي الشتائم. أحسست بأغرب تجربة في حياتي. فبينما رحت أتلوى متألّمة، انسحق جسمي تحت وطأة
كلّ ضربة من ضرباته، وانفصلت روحي – أو ما أحسست بأنها روحي – عن جسمي، وتحوّلت
إلى طائرة ورقية، خفيفة وحرة.
بعد
قليل رحت أطوف في الأثير، كما لو كان قد ألقي بي في خواء هادئ ليس فيه شيء يمكن
مقاومته، ولا مكان يمكن اللجوء إليه، بل رحت أحوم ببساطة. ورحت أطير فوق حقول القمح المحصودة حديثاً،
حيُث أطاحت الريح بالأوشحة من على رؤوس الفتيات الفلاحات، وفي الليل راحت اليراعات
تومض هنا وهناك مثل أضواء الزينة. بدا
كأنني أسقط، لكني كنت أسقط إلى الأعلى، إلى السماء العميقة الغور.
هل كنت
أحتضر؟ فإذا كان هذا هو الموت، فإنه لم يعد يخيفني. لقد خفّت حدة قلقي. سقطت في مكان من الخفّة والنقاوة المطلقتين،
منطقة سحرية لا يمكن لشيء فيها أن يشدّني إلى الأسفل. وفجأة أدركت أنني أعيش أشدّ حالات خوفي، ويا لدهشتي،
لم أخف. أليس الخوف من أن أتعرض للأذى هو
الذي جعلني أخشى مغادرة المبغى طوال هذا الوقت؟ فما دمت لا أخاف الموت، أدركت بقلب
متّسع، أنني أستطيع أن أغادر حجر الجرذان هذا.
كان شمس
التبريزي محقّاً، فالقذارة الوحيدة هي القذارة التي تقبع داخل الإنسان. أغمضت عينيّ وتخيّلت شخصيتي الأخرى، نظيفة
وتائبة، شابة، وأنني غادرت المبغى وبدأت أعيش حياة جديدة، مفعمة بالشباب والثقة،
حياة مليئة بالأمن وبالحبّ. كانت الرؤية
فاتنة وحقيقية جداً، على الرغم من الدم النازف أمام عينيّ، والخفقان في أضلاعي، لم
أتمالك من الابتسام.
كيميا
قونية، كانون الثاني (يناير) 1246
استجمعت
شجاعتي، بعد أن اعتراني شعور بالخجل وتعرّقت قليلاً، لأتحدث إلى شمس
التبريزي. فقد كنت أنوي أن أسأله عن أعمق
مستوى من مستويات قراءة القرآن الكريم، لكن لم تتح لي الفرصة منذ أسابيع. وبالرغم من أننا كنا نعيش تحت سقف واحد، فإننا
لم نلتق أبداً. لكن في هذا الصباح، بينما
كنت أكنس الفناء، ظهر شمس إلى جانبي، وبدا لي أنه في مزاج يمكن التحدث معه. في هذه المرة، لم أتمكن من التحدث إليه لفترة
أطول فحسب، بل مكّنت أيضاً من النظر في عينيه.
"كيف
تسير الأمور يا عزيزتي كيميا؟"، سأل مبتهجاً.
بدا شمس
مذهولاً، وكأنه استيقظ من النوم للتو، أو أنه رأى رؤية أخرى. فقد علمت أنه بدأ يرى رؤى، وأنه تعلّم الآن
تفسير الإشارات. وكان كلما رأى رؤية، شحب
وجهه وأصبحت عيناه حالمتين.
"ستهبّ
عاصفة وشيكة"، همهم شمس، وهو يحدّق في السماء التي
بدأت تهطل منها ندف رمادية، مؤذنة بهطول الثلج لأول مرة
في السنة.
خطر لي
أن الوقت مناسب لأسأله السؤال الذي كان يخطر في بالي. فقلت له بحذر:
"أتذكر عندما قلت لي إننا جميعاً نفهم القرآن وفق عمق بصيرتنا؟ ومنذ ذلك الحين، كنت أريد أن أسألك عن المستوى
الرابع".
التفت
شمس إليّ، وكادت نظراته تلهب وجهي. كنت
أحبّ أن ينظر إليّ باهتمام، لأنني كنت أراه يزداد وسامة، وخاصة عندما يزمّ شفتيه،
وتتغضن جبهته قليلاً.
فقال:
"لا يمكن وصف المستوى الرابع، لأنه توجد مرحلة تخذلنا اللغة بعدها. فعندما تدخلين منطقة العشق، فلن تكوني بحاجة
إلى اللغة".
فقلت:
"أرجو أن أدخل منطقة العشق ذات يوم"، لكن الخجل اعتراني على الفور
وأردفت: "أقصد حتى أتمكن من قراءة القرآن ببصيرة أعمق".
ارتسمت
على فم شمس ابتسامة صغيرة غريبة، وقال: "لو كان يقبع في داخلك، لتمكنت من
القيام بذلك، ولتمكنت من الغوص في التيار الرابع، حتى تبلغي الجدول".
كنت قد
نسيت هذا الإحساس المختلط الذي لا يستطيع أحد أن يثيره إلا شمس. فعندما أقف إلى جانبه، أشعر بأنني طفلة تتعلّم
مبادئ الحياة من جديد، أو امرأة على استعداد لإذكاء لهيب الحياة في رحمها.
سألته:
"ماذا تقصد لو كان يقبع في داخلك؟
أتقصد القدر؟".
"نعم، هذا
صحيح"، هزّ شمس رأسه.
"لكن ماذا
يعني القدر؟".
"لا أستطيع
أن أخبرك ما هو القدر. فكلّ ما يمكنني أن
أحدثك عن القدر يكمن في قاعدة أخرى من قواعد العشق الأربعين: لا يعني القدر أن حياتك محددة بقدر محتوم. لذلك، فإن ترك كلّ شيء للقدر، وعدم المشاركة في
عزف موسيقى الكون دليل على جهل مطلق.
"إن موسيقى
الكون تعمّ كل مكان وتتألف من أربعين مستوى مختلفاً.
إن قدرك هو
المستوى الذي تعزفين فيه لحنك. فقد لا
تغيّرين آلتك الموسيقية بل تبدلين الدرجة التي تجيدين فيها العزف".
لا بد أنني نظرت
إليه نظرة مرتبكة، لأن شمس شعر بأنه بحاجة لتفسير قوله. وضع يده على يدي، واعتصرها برقة، وبعينين
عميقتين داكنتين، قال "دعيني أحكي لك قصّة".
وها هي القصّة
التي حكاها لي:
ذات يوم سألت
شابّة درويشاً ما هو القدر، فقال لها هيا بنا نلقي معاً نظرة على العالم، وسرعان
ما صادفا موكباً يسوقون فيه قاتلاً إلى الميدان لإعدامه، فسأل الدرويش، "هل
سيشنق هذا الرجل لأن أحداً أعطاه مالاً لشراء السلاح الذي قتل به؟ أم لأن أحداً لم يوقفه وهو يرتكب الجريمة؟ أم
لأنه قبض عليه في ما بعد؟ أين السبب والنتيجة في هذه المسألة".
فقاطعته:
"إن هذا الرجل سيشنق لأن ما أقدم عليه عمل شنيع، وأن هذا جزاء ما جنته
يداه. فالسبب موجود وكذلك النتيجة.
توجد أمور جيدة وأمور سيئة، ويوجد فارق بين
الاثنين".
"آه،
يا كيميا الحلوة"، أجاب شمس، بصوت خفيض كما لو كان قد تعب فجأة، "إنك
تحبّين التمييز لأنك تظنين أنه ييسّر الحياة.
فماذا لو لم تكن الأمور بهذا الوضوح؟".
"لكن
الله يريدنا أن نكون واضحين، وإلاّ لما وجد مفهوم الحلال والحرام. ولما وجدت الجنة والنار. تصوّر أنك لو لم تتمكن من إخافة الناس بنار
جهنم، أو من مكافأتهم وتشجيعهم على دخول الجنة، لازداد العالم سوءاً".
تناثرت
ندف الثلج في الريح، وانحنى شمس ليحكم ربط وشاحي.
ولوهلة، لبثت واقفة جامدة، وتضوعت منه رائحة، كانت مزيجاً من خشب الصندل
والكهرمان الرقيق، خفيفة مثل رائحة التراب بعد هطول المطر. أحسست بلهب دافئ يغمر بطني، وبموجة من الرغبة
تسري بين ساقيّ. كان الأمر محرجاً،
والغريب، أنه لم يكن محرجاً على الإطلاق.
"في
العشق، تختلط الحدود"، قال شمس، محدّقاً بي بشيء من العطف، وبشيء من
الاهتمام.
هل
يتحدث عن عشق الله أم عن العشق بين المرأة والرجل؟ أم أنه يشير إلينا؟ هل يوجد شيء
اسمه "نحن"؟
وتابع
شمس كلامه، غير مدرك الأفكار التي تجول في رأسي، وقال: "لا يعنيني الحلال ولا
الحرام. فأنا أفضّل أن أطفئ نار جهنم، وأن
أحرق الجنة حتى يحبّ الناس الله من أجل الحبّ الخالص".
فقلت:
"يجب ألاّ تخرج على الناس وتخبرهم بهذه الأمور. فالناس
سيئون، ولن يفهموا جميعهم ما تقوله".
ارتسمت على وجه
شمس تشي بالشجاعة والجرأة. فقد تركته
يأسرني، ووضع راحة يده الحارة والثقيلة في راحة يدي.
"ربما كنت
على حق، لكن ألاّ تظنين أن ذلك يمنحني دافعاً أكبر للتعبير عن رأيي بصراحة؟
بالإضافة إلى ذلك، فإن الأشخاص ذوي الأفق الضيق في آذانهم وقرٌ، على كل حال، وبسبب
آذانهم المغلقة، سيعتبرون كلّ ما أقوله كفراً مطلقاً".
"في حين أن
كلّ ما تقوله لي حلو وجميلاً".
رمقني شمس بنظرة
تشي بعدم التصديق تقارب الدهشة، لكنني كنت مندهشة أكثر منه، فكيف يمكنني أن أقول
شيئاً كهذا؟ هل أطلقت العنان لأحاسيسي؟ لا
بد أن جنياً أو ما شابه ذلك تلبسني.
"إني آسفة،
من الأفضل لي أن أذهب الآن"، قلت ووثبت واقفة.
كان خدايّ
يشتعلان من شدّة الخجل، وكان قلبي يخفق بكلّ الأشياء التي قلناها والتي لم نقلها،
هرعت وخرجت من الفناء ودخلت إلى البيت.
لكنني حتى عندما جريت، أدركت أنني اجتزت عتبة. فبعد الآن، لن أستطيع تجاهل الحقيقة التي أصبحت
أعرفها: وهي أنني أحبّ شمس التبريزي.
شمس
قونية، كانون الثاني (يناير) 1246
إن النميمة
والتشهير بالآخرين وشتمهم طبيعة ثانية لدى بعض الأشخاص، فقد تناهت إليّ أحاديث
وشائعات عني. فمنذ قدومي إلى قونية،
انتشرت شائعات كثيرة، لكن ذلك لم يفاجئني.
فمع أن القرآن يقول إن النميمة وقذف الناس إثم كبير، قلما يبذل معظم البشر
أي جهد لكبح أنفسهم عن ممارسة ذلك. فهم لا
يكفّون عن إدانة شاربي الخمر، أو البحث عن النساء الزانيات لرجمهن، لكن عندما
يتعلّق الأمر بالنميمة التي هي إثم أعظم بكثير في نظر الله، فإنهم لا يعرفون أنهم
يرتكبون إثماً.
وكلّ هذا يذكّرني
بقصّة.
في أحد الأيام،
هرع رجل واقترب من صوفيوقال له لاهثاً: "يا صاح، إنهم يحملون صواني، انظر
هناك".
فأجاب الصوفي
بهدوء: "وما علاقتنا بذلك؟ هل هذا الأمر يخصّنا؟".
فصاح الرجل،
"لكنهم يأخذون هذه الصواني إلى بيتك.
ألا يخصّك الأمر؟".
للأسف، إن الناس
يراقبون دائماً صواني الآخرين، فبدلاً من الاهتمام بشؤونهم الخاصة، فإنهم يصدرون
أحكامهم على الآخرين. ومما يثير دهشتي
الأمور التي يختلقونها! فعندما يتعلّق الأمر بالتشكيك بالآخرين والتشهير بهم، فإن
خيالهم يجمح ولا يعرف حدوداً. إذ يعتقد
البعض في هذه البلدة بأنني القائد السري لفرقة الحشاشين، بل ذهب بعضهم شأواً أبعد
من ذلك، فادّعوا أنني ابن آخر إمام اسماعيلي في قلعة ألموت، ويقولون إنني أمارس
السحر الأسود والشعوذة، وأن كلّ شخص ألعنه سيموت في الحال. واتهمني البعض اتهاماً
شنيعاً وهو أنني سحرت الرومي، وحتى لا يبطل هذا السحر، فإني أرغمه على تناول حساء
الأفعى فجر كلّ يوم.
عندما أسمع هذا
الهراء، أضحك وأنصرف عنهم. فماذا بوسعي أن
أفعل غير ذلك؟ ما الضرر الذي قد يلحق
بدرويش من الحقد الذي يكنّه له الآخرون؟
فلو ابتلع البحر العالم برمته، فماذا يهمّ بطّة من ذلك؟
لكني أشعر بأن
بعض الأشخاص حولي قلقون، لا سيما سلطان ولد.
فهو شابّ ذكي وأنا واثق من أنه سيصبح قريباً مساعداً لأبيه. وهناك كيميا، كيميا الحلوة . . . التي تبدو
قلقة أيضاً. لكن أسوأ شيء في كلّ هذه
الثرثرة هو أن الرومي يناله الكثير من الطعن والتشويه في سمعته. فهو لم يتعوّد مثلي على سماع كلام سيئ من
الآخرين. ولشدّ ما يعذّبني أن أراه حزيناً
عندما يسمع الكلمات السيئة التي يقولها عنه بعض الجهلة. ففي داخل مولانا كبير من الجمال، أما أنا، ففي
داخلي قدر من الجمال، وقدر من القبح، لذلك فإنني أقدر على
التعامل مع قبح الآخرين أكثر منه. لكن كيف يستطيع عالم دين جليل اعتاد على الحديث
الجاد والاستنتاجات المنطقيّة، أن يتصدى لهذا الهراء الصادر عن الجهلاء؟
لا عجب
أن النبي محمد قال: "إني أشفق على ثلاثة أنواع من الناس: الغني الذي فقد
ثروته، والمحترم الذي فقد احترامه، والحكيم الذي يحيط به الجهلاء".
غير أن
ذلك قد يفيد الرومي. فالتشهير عنصر مؤلم،
بل ضروري، في عملية تحوّل الرومي الداخلية.
فقد كان الجميع يحترمونه ويكنون له الإعجاب طوال حياته ويقلّدونه، وكان
يتمتع بسمعة لا تشوبها شائبة، ولا يعرف كيف يمكن أن يسيء الآخرون فهمه
وينتقدوه. ولم يعتره قط ذلك الشعور بالضعف
والوحدة الذي يعتري المرء بين الحين والآخر، فلم يجرح أحد كبرياءه، لكنه يحتاج إلى
ذلك. وبالغم من الألم، فإن التعرض للتشهير
والافتراء يفيد الصوفي الجوال، وفي ما يلي القاعدة الثلاثون: إن الصوفي الحق هو
الذي يتحمّل بصبر، حتى لو اتُهم باطلاً، وتعرف للهجوم من جميع الجهات، ولا يوجّه
كلمة نابية واحدة إلى أيّ من منتقديه.
فالصوفي لا ينحي باللائمة على أحد.
فكيف يمكن أن يوجد خصوم أو منافسون أو حتى "آخرون" في حين لا
توجد "نفس" في المقام الأول؟ كيف يمكن أن يوجد أحد يلومه في الوقت الذي
لا يوجد فيه إلا "واحد"؟
إيلا
نورثامبتون، 17 حزيران (يونيو) 2008
المحبوبة
إيلا،
كنت في
غاية اللطف عندما طلبت مني أن أخبرك المزيد عني.
بصراحة، لا أجد أنه يسهل عليّ أن أكتب عن هذه الفترة من حياتي لأنها تعيد
إليّ ذكريات لا أريد استعادتها، ومع ذلك فإني سأخبرك بها:
بعد أن
ماتت مارغو، طرأ على حياتي تغير كبير. فقد
خسرت نفسي بعد أن رافقت مجموعة من المدنيين، وفي الليل، بدأت أرتاد نوادي الرقص في
آمستردام ولم أكن أرتادها من قبل، ورحت أبحث عن المتعة والحبّ في الأماكن غير
اللائقة. فقد أصبحت مخلوقاً ليلياً،
وصادقت أناساً لم يكن عليّ مصادقتهم، كنت أستيقظ في أسرّة أشخاص غرباء، وفقدت أكثر
من خمسة وعشرين رطلاً من وزني خلال بضعة أشهر.
وللمرة
الأولى في حياتي تنشّقت الهيرويين، وتقيأت ومرضت وبلغ بي المرض حداً لم أستطع معه
أن أرفع رأسي طوال اليوم، لأن
جسمي كان يرفض المخدر.
كانت تلك إشارة موجّهة إليّ لكني لم ألتقطها. وبعد فترة قصيرة، بدأت أستعمل الحقن عوضاً عن
الشمّ. الماريوانا والحشيش والكوكايين –
جرّبت كلّ ما وقع في يدي. ولم تمض فترة
طويلة حتى أصبحت في حالة من التشويش والاضطراب – جسدياً وعقلياً. كنت أفعل كلّ
شيء، حتى أبقى منتشياً.
عندما
كنت أدخل حالة النشوة، كنت أرضع خططاً مدهشة لسبل الانتحار. حتى إنني حاولت ذات مرة تناول شراب الشوكران
السام، كما فعل سقراط، لكن يبدو أن مفعول السمّ لم يكن قوياً بشكل كاف ولم يؤثّر
عليّ، أو أن العشبة الداكنة التي اشتريتها سراً من مطعم صيني يبيع طعاماً جاهزاً،
كانت مجرد عشبة عادية، أو لعلهم غشوني وباعوني نوعاً من الشاي الأخضر. وفي أيام عدة، كنت أستيقظ في الصباح وأجد نفسي
في أماكن غريبة وأرى شخصاً جديداً إلى جانبي، مع ذلك، كان الفراغ نفسه ينهشني من
الداخل، وكانت النساء تحطنني بالرعاية، كانت بعضهن تصغرنني سناً، وبعضهن تكبرنني
بكثير. وكنت أقيم في بيوتهن، وأنام في
أسرّتهن، وأمضي نهاية الأسبوع في أكواخهن، وأتناول الطعام الذي تطهينه لي، وأرتدي
منامات أزواجهن، وأتسوّق مستخدماً
بطاقاتهن الائتمانية، كنت أرفض إعطائهنَّ حتى القليل من الحبّ الذي كنّ يطلبنه مني
والذي لا شكّ أنهن كنّ يستحققنه.
لقد ألحقت بي
الحياة التي اخترتها خسائر كبيرة بسرعة.
فقد فقدت وظيفتي، وفقدت أصدقائي، وفقدت أخيراً الشقّة التي أمضيت فيها أنا
ومارغو أياماً سعيدة كثيرة. وعندما أصبح
من الواضح أنني لم أعد
أحتمل أسلوب
الحياة هذا، رحت أتنقّل بين بيوت بسيطة مشتركة.
أمضي أكثر من خمسة عشر شهراً في أحد هذه البيوت في روتردام، التي لم تكن
فيه أبواب، لا من الخارج ولا من الداخل، ولا حتى في الحمّام، وكنا نحن النزلاء،
نتشارك في كلّ شيء: أغانينا وأحلامنا ومصروفنا ومخدّراتنا وطعامنا وأسرّتنا. كلّ شيء ما عدا الألم.
وبعد
سنوات من حياة المخدّرات والمجون، هبطت إلى الدرك الأسفل، وأضحيت ظلّ الرجل الذي
كنته. وبينما كنت أغسل وجهي ذات صباح،
حدّقت في المرآة، فلم أر شاباً منهكاً وحزيناً بهذا الشكل قط. فعدت إلى السرير ورحت أبكي مثل طفل. وفي اليوم نفسه، فتّشت في الصناديق التي كنت
احتفظ فيها بأشياء مارغو: كتبها، ملابسها، أسطواناتها، دبابيس شعرها، دفاترها،
صورها، الواحدة تلو الأخرى، ودّعت كلّ التذكارات.
ثمّ أعدتها إلى الصناديق وزعتها على الأطفال المهاجرين الذين كانت تحيطهم
برعايتها وباهتمامها. كان ذلك في العام
1977.
بفضل
الله، وجدت وظيفة مصور في مجلة سياحية مشهورة.
وهكذا انطلقت في رحلة إلى شمال أفريقيا حاملاً حقيبة من الخيش، وصورة
لمارغو، وتخليت عن الرجل الذي كنت قد صرت إليه.
ثمّ
أوحى إليّ عالم أنثروبولوجيا بريطاني التقيت به في جبال أطلس في الصحراء الكبرى،
بفكرة. فقد سألني هل أريد أن أكون أول
مصور غربي يتسلل إلى قدس أقداس المدن الإسلامية.
لم أعرف عمّ يتحدّث، ثم قال إن القانون في السعودية يحرّم على غير المسلمين
دخول مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولا يسمح للمسيحيين أو اليهود بالدخول إليهما،
إذ لم يتمكن أحد من إيجاد وسيلة للدخول إلى
المدينة لالتقاط بعض الصور. وقال إنهم إذا قبضوا عليّ، فإنهم سيودعونني
السجن، أو قد يصيبني مكروه أسوأ من ذلك.
كنت أصغي إليه باهتمام، إذ إن فكرة الذهاب إلى الأرض المحرّمة، وإنجاز ما
لم ينجزه أحد من قبل، جعلا جسمي يفرز الأدرينالين، بالإضافة إلى الشهرة والمال
الذين سيدرّهما عليّ في النهاية . . . فقد جذبتني الفكرة كما يجذب قدر العسل
النحلة.
وأضاف
عالم الأنثروبولوجيا إنني لا أستطيع عمل ذلك وحدي، وإنني بحاجة إلى علاقات وصلات
أخرى، واقترح الاتصال بالأخويّات الصوفية في المنطقة، وقال: "ما يدريك، فقد
يوافقون على مساعدتك".
لم أطن
أعرف شيئاً عن الصوفية، كما لم أكن أبدي اهتماماً بذلك. وعندما عرضوا علي مساعدتهم، كنت سعيداً بأن
ألتقي بالصوفيين الذين كنت أرى فيهم مجرد وسيلة لتحقيق غايتي، ليس إلا.
إن
الحياة غريبة يا إيلا. ففي نهاية الأمر،
لم أتوجه إلى مكة المكرمة أو إلى المدينة المنورة. لا آنذاك، ولا في ما بعد، ولا حتى بعد أن
اعتنقت الإسلام. فقد قادني القدر إلى درب
مختلفة تماماً، وإلى تغيّر غير متوقّع في الأحداث، فتغيرت كثيراً وفقد الهدف
الأصلي أهميته بعد فترة. مع أن دوافعي
كانت ناجمة عن دوافع مادية بحتة في البداية، فقد أمسيت رجلاً آخر، عند نهاية
الرحلة.
أما
الصوفية، فمن بإمكانه أن يعرف أن ما كنت أعتبره وسيلة لتحقيق غايتي، أصبح غاية في
حد ذاته؟ وأنا أطلق على هذا الجزء من
حياتي لقائي بالحرف "و" في كلمة "صوفي".
المحبّ عزيز
البغي
زهرة الصحراء
قونية، شباط (فبراير) 1246
كان اليوم الذي
غادرت فيه المبغى مريراً وكئيباً وأشدّ الأيام برودة منذ أربعين سنة. فقد التمعت الشوارع الملتوية الضيّقة بالثلج
الذي هطل، وكانت قطع جليد حادّة تتدلى من أسطح البيوت ومآذن المساجد بجمال آخاذ. وعندما حلّ المغرب، اشتدّ البرد ورأيت قططاً
نافقة في الشوارع بعد أن أصبح شعر شاربيها خيوطاً رقيقة متجمدة، وقد انهارت عدّة
بيوت متداعية تحت ثقل الثلج. بعد قطط
الشوارع، عانى المشرّدون في قونية أشدّ المعاناة.
فقد وجدت ست جثث مجمّدة، جميعها مكوّرة على نفسها في وضعية جنينية ترتسم
على وجوهها ابتسامات سعيدة، كما لو كانت تنتظر ولادتها مجدداً إلى حياة أفضل وأكثر
دفئاً.
في أصيل يوم،
بينما كانت جميع الفتيات تأخذن قيلولة قبل بدء نشاطهن الليلي، تسللت من غرفتي، لم
أكن أحمل معي إلا القليل من الملابس البسيطة، وتركت ثيابي وأرديتي الحريرية التي
كنت أرتديها للزبائن الخاصين. فكلّ ما
كسبته في المبغى، يجب أن يبقى فيه.
عند
منتصف الدرج، رأيت مانوليا واقفة عند الباب الرئيسي، تمضغ أوراق الشجر البنيّة
التي أدمنت على مضغها. فقد كانت مانوليا
أقدم فتاة في المبغى، وبدأت تنتابها مؤخراً حرارة حارقة مفاجئة. فقد كنت أسمعها في الليل وهي تتقلّب في
سريرها. ولا يخفى على أحد أن أنوثتها أخذت
تجفّ وتنضب. كانت الفتيات الأصغر يقلن
بسخرية إنهن يحسدن مانوليا، لأنها لم تعد تقلق من أن تأتيها العادة الشهرية، أو أن
تحمل، أو تجهض، وأنه أصبح بإمكانها مضاجعة رجل كلّ يوم طوال الشهر، لكننا كنا نعرف
أن مومساً في عمرها لم يعد أمامها سنوات عدة تعيشها.
عندما
رأيت مانوليا واقفة هناك، عرفت أن أمامي خيارين لا ثالث لهما، وهما: إما أن أعود
إلى غرفتي وأنسى أمر الهروب، أو أن أجتاز ذلك الباب وأتحمّل العواقب فاختار قلبي
الخيار الثاني.
"هيه،
مانوليا، هل تشعرين بالتحسّن؟"، سألتها، بصوت رجوت أن تكون نبرته هادئة
وطبيعية.
أشرق وجه
مانوليا لكنه سرعان ما تجهّم ثانية عندما لاحظت الحقيبة في يدي. لم يكن لديّ مجال للكذب، لأنها تعرف أن صاحبة
المبغى قد منعتني من مغادرة غرفتي، فما بالك بمغادرة المبغى.
لم أحر
جواباً. وجاء دورها الآن لكي تختار. فقد كان بإمكانها أن تعترض طريقي وتبلغ الجميع
بخطتي أو أن تدعني أذهب بكل بساطة. حدّقت
مانوليا فيَّ. كانت قسمات وجهها متجهّمة،
مليئة بالمرارة.
سترسل
رأس الواوي في إثرك. ألا تعرفين ما فعل بـ
. . . ؟".
لكنها
لم تنه جملتها، فقد كانت تلك قاعدة من القواعد غير المدّونة في المبغى: لا نذكر
قصص الفتيات التعيسات اللاتي عملن هنا، واللاتي انتهين نهاية في غير أوانها، وفي
المناسبات النادرة التي كنا تذكرهن فيها، كنا نحرص على عدم ذكر أسمائهن، فلا داعي
لإزعاجهن في قبورهن، لأنهن عشن حياة قاسية، ومن الأفضل أن تدعهن يسترحن في مماتهن.
"وحتى
لو تمكنت من الهرب، فكيف ستكسبين رزقك؟"، قالت مانوليا بإلحاح، وأضافت،
"ستتضورين جوعاً".
كان
الخوف هو الذي رأيته في عينيْ مانوليا – لا الخوف من أن أفشل وأن أعاقب-، بل الخوف
من أن أنجح. كانت ستفعل الشيء الذي طالما
حلمت به، لكنها لم تجرؤ على تحقيق حلمها قط، لذلك احترمتني وكرهتني الآن
لجرأتي. ساورني شكّ سريع، وكنت على وشك أن
أعود، لو لم يتردد صدى صوت شمس التبريزي في رأسي.
فقلت:
"دعيني أذهب يا مانوليا. فلن أبقى
هنا يوماً آخر".
فبعد أن
ضربني بيبرس ورأيت الموت أمامي، أحسست بأن شيئاً ما في دخلي، قد تغيّر إلى غير
رجعة، شعرت بأن الخوف في داخلي قد تلاشى.
وبشكل أو بآخر، لم أعد أكترث. فقد عزمت على تكريس ما تبقى من حياتي لله. ولا يهم أسيدوم ذلك يوماً واحداً أم سنوات عدة
آتية. فقد قال شمس التبريزي إن الإيمان
والحبّ يجعلان البشر أبطالاً لأنهما يزيلان الخوف والقلق من قلوبهم، وقد بدأت أفهم
قصده.
الغريب
هو أن مانوليا فهمته أيضاً، فرمقتني بنظرة طويلة ممضة، وتنحّت جانباً وأفسحت لي
الطريق لأخرج.
إيلا
نورثامبتون، 19 حزيران ( يونيو) 2008
المحبوبة
إيلا،
شكراً
على لطفك. إني سعيد لأنك أحببت روايتي
وأنك تفكّرين بها كثيراً. ومع أنني لم
أعتد على التحدث عن ماضيّ، فمن الغريب أن التحدث عن ماضيّ إليك جعلني أشعر بالتخفف
من وطأته.
فقد
أمضيت صيف 1977 مع مجموعة من الصوفيين في المغرب.
كانت غرفتي بسيطة وصغيرة وبيضاء، ولم يكن فيها إلا الأشياء الضرورية: حصيرة
للنوم، وقنديل، ومسبحة من العنبر، وأصيص أزهار بجانب النافذة، وتعويذة لدرء العين
الشريرة، ومنضدة مصنوعة من خشب الجوز يوجد في أحد أدراجها ديوان الرومي. ولم يكن فيها هاتف، ولا تلفاز، ولا ساعة، ولا
كهرباء. لم أعبأ بذلك. فبعد أن عشت في بيوت شعبية بسيطة لعدة سنوات،
لم أعد أستصعب العيش في تكيّة للدراويش.
في أول
أمسية في التكيّة، زراني السيد ساميد في غرفتي للاطمئنان عليّ، وقال إنهم يرحّبون
أشدّ الترحيب بي للإقامة معهم حتى يحين
موعد مغادرتي إلى مكة المكرمة، لكن بشرط واحد، وهو ألاّ
أتعاطى إي مخدّرات.
أتذكّر
أن وجهي اتقدّ احمراراً، مثل طفل اكتشفه والداه وهو يدس يده في علبة
البسكويت. كيف عرفوا؟ هل فتّشوا في حقيبتي عندما كنت في الخارج؟ لن أنسى ما حييت ما قاله لي السيد بعد ذلك:
"لسنا بحاجة لنفتّش في أغراضك حتى نعرف أنك تتعاطى المخدّرات، يا أخ كريغ، بل
إن عينيك تشيان بأنك مدمن".
إن
المضحك في الأمر يا إيلا، هو أنني، حتى ذلك اليوم، لم أكن أعتبر نفسي مدمناً، بل
كنت واثقاً من أنني أتحكم بالأمر، وأن المخدّرات تساعدني على حلّ مشاكلي. وقال السيد ساميد: "إن تسكين الألم ليس
مثل شفائه، فعندما يزول مفعول المخدر، يبقى الألم".
كنت أعرف
أنه كان محقاً. وبتصميم يشي بالعجرفة
أعطيتهم كلّ المخدّرات التي بحوزتي، حتى الحبوب المنوّمة التي أتناولها. لكن سرعان ما تبيّن لي أن تصميمي لم يكن من
القوة بما يكفي لإخراجي مما سيأتي. وخلال
الشهور الأربعة التي أقمت فيها في تلك التكيّة الصغيرة، نكثت بوعدي. ولم يكن من الصعب على شخص فضّل أن يكون دائخاً
على أن يكون صاحياً، أن يعثر على مخدّرات، حتى لو كان أجنبياً. وفي ذات ليلة، عدت إلى التكيّة ثملاً، فوجدت جميع
الأبواب موصدة من الداخل، فاضطررت إلى النوم في الحديقة. وفي اليوم التالي، لم يسألني السيد ساميد
شيئاً، ولم أقدّم له أي اعتذار.
بالإضافة
إلى هذه الحوادث المخزية، انسجمت مع الصوفيين،
واستمتعت بالهدوء الذي يسود التكيّة في تلك الأمسيات،
وأحسست بسكينة خاصة تغمرني، لكنها كانت سكينة غريبة، ومع أنني كنت قد اعتدت على
العيش تحت سقف واحد مع أشخاص آخرين، وجدت هناك أمراً لم أره من قبل، وهو السلام
الداخلي.
في
الظاهر كنا نعيش حياة مشتركة حيث كنا جميعاً نأكل ونشرب معاً، وكنا جميعاً نؤدي
ذات الأعمال في الوقت نفسه، أما في داخلنا فكان يتوقع منا أن نظل وحيدين وأن ننظر
في دواخلنا، وكانوا يشجعوننا على ذلك. على
طريق الصوفية، تكتشفين أولاً فنّ أن تكوني وحيدة في وسط جمع من الناس، ثم تكتشفين
أن جمع الناس يقبعون في داخل وحدتك، الأصوات في داخلك.
وبينما
كنت أنتظر مساعدة الصوفيين في المغرب للذهاب بأمان إلى مكة المكرمة والمدينة
المنورة، بدأت أقرأ الفلسفة الصوفية وأشعار الصوفيين، بدافع من السأم والضجر وعدم
وجود شيء أفضل أقوم به في البداية، ثمّ بدأت أفعل ذلك باهتمام متزايد. ومثل شخص لم يكن يدرك أنه عطش حتى تناول أول
رشفة من الماء، وجدت أنّ تعرّفي على الصوفية جعلني أتوق إلى المزيد. ومن بين جميع الكتب التي قرأتها في ذلك الصيف
الطويل، كان لأشعار الرومي تأثير كبير عليّ.
متجوّل
يدعى شمس التبريزي، وقال إن البعض يعتبر شمس زنديقاً صفيقاً، لكنك لو سألتِ
الرومي، لأجابك أنه القمر والشمس.
افتتنت
به، لكن الأمور كان مجرد فضول، وبينما كنت أنصت إلى السيد ساميد وهو يحدثني عن
شمس، اعترتني رعدة أسفل ظهري
واعتراني إحساس غريب بأنني رأيته من قبل.
الآن،
ستقولين إنني مجنون، لكن أقسم بالله، أنني سمعت، في تلك اللحظة، صوت حفيف حرير في
الخلفية، في البداية من مسافة بعيدة، ثمّ أخذ الصوت يقترب أكثر فأكثر، حتى رأيت
ظلّ شخص لم يكن موجوداً. لعل نسيم المساء
هو الذي كان يتحرّك بين الأغصان، أو لعله كان صفق جناح ملاك، وأياً كان الأمر، فقد
عرفت فجأة أنني لست بحاجة إلى الذهاب إلى أيّ مكان، ليس بعد الآن. فقد سئمت ومللت من التوق الدائم للانتقال إلى
أماكن أخرى، إلى مكان بعيد مندفعاً دائماً على الرغم من نفسي.
كنت حيث
كنت أريد أن أكون، فكلّ ما كنت أحتاج إليه هو البقاء والنظر إلى داخلي. وإني أطلق على هذا الجزء الجديد من حياتي لقائي
بالحرف "ف"، في كلمة "صوفي".
مع محبتي، عزيز
شمس
قونية، شباط (فبراير) 1246
مبشراً
بأنه سيكون يوماً حافلاً بالأحداث، مضى الصباح أسرع من أي يوم عادي، وبدت السماء
منخفضة ورمادية. وفي وقت متأخر من عصر ذلك
اليوم، وجدت الرومي في غرفته جالساً بالقرب من النافذة، يتأمل وجبهته مسترخية، وأصابعه تتحرّك بقلق على
حبات مسبحته. كانت غرفته شبه معتمة من
الستائر المخملية الثقيلة نصف المسدلة، لكن كانت هناك حزمة غريبة من ضوء الشمس
تسقط في البقعة التي كان يجلس في الرومي، فمنحت المشهد كله شيئاً حالماً. وتساءلت هل سيرى الرومي النية الحقيقية التي
تكمن وراء ما سأطلب منه أن يفعله، أم أنه سيصدم وينزعج؟
بينما
وقفت أستوعب صفاء اللحظة، وقد اعتراني أيضاً شي ء من التوتر، تراءى لي بصيص
رؤية. فقد رأيت الرومي أكبر سناً وأضعف بكثير،
مرتدياً عباءة خضراء غامقة، وجالساً في البقعة ذاتها، وقد بدا أكثر عطفاً وأكثر
كرماً من أي وقت مضى، لكني رأيت ندبة دائمة على قلبه في هيئتي. ففهمت أمرين في الحال وهما: أن الرومي سيمضي
شيخوخته في هذا البيت، وأن الجرح الذي سيخلّفه غيابي لن
يبرأ مطلقاً. فاغرورقت عيناي بالدموع.
"هل
أنت على ما يرام؟ إنك تبدو شاحباً"،
قال الرومي.
أجبرت
نفسي على الابتسام، لكن عبء ما كنت أزمع أن أقوله كان ثقيلاً عليّ. خرج صوتي قلقاً وأقل حدّة مما كنت أنوي، وقلت:
"ليس حقاً. إني شديد العطش، ولا يوجد
شيء في هذا البيت يروي عطشي".
هل تريد
أن أسأل كيرا ماذا يمكنها أن تفعل لتطفئ لهيب عطشك؟"، سأل الرومي.
"لا،
لأن ما أحتاج إليه لا يوجد في المطبخ، بل يوجد في الحانة، لأني أشعر بالرغبة في أن
أثمل كما ترى".
تظاهرت
بأنني لم ألاحظ أمارات عدم الفعم التي ارتسمت على وجه الرومي، وواصلت كلامي:
"بدلاً من أن تذهب إلى المطبخ لشرب الماء، هل تريد أن تذهب إلى الحانة
لاحتساء الخمر؟".
"أتقصد
أنك تريدني أن أحضر لك خمرة؟"، سأل الرومي، وهو يلفظ الكلمة الأخيرة بحرص
شديد، كما لو كان يخشى أن يقولها.
"هذا
صحيح. أكون ممتناً لك كثيراً لو أحضرت لنا
قليلاً من الخمر. قنينتان تكفيان، واحدة
لك، وواحدة لي. لكن أرجو أن تسدي لي
معروفاً. عندما تذهب إلى الحانة، لا تجلب
القنينتين وتعود فقط، بل أمكث هناك قليلاً.
تحدّث إلى الناس. سأنتظرك
هنا. لا داعي للعجلة".
رمقني
الرومي بنظرة نصف غاضبة، نصف حائرة. تذكّرت
وجه التلميذ في بغداد ذاك الذي كان يريد مرافقتي، لكنه كان يخشى على
سمعته لو فعل ذلك.
لأن حرصه على آراء الآخرين به جعله يحجم عن ذلك. تساءل الآن: هل إنّ سمعة
الرومي ستجعله يحجم عن ذلك أيضاً؟
لكنني
أحسست براحة كبيرة عندما استوى الرومي واقفاً وهزّ رأسه.
"لم
أرتدْ حانة ولم أذق خمرة في حياتي، ولا أظن أن الشراب هو الشي الملائم الذي يجب أن
أفعله. لكنّي أثق بك ثقة تامة، أني أثق بالمحبة التي تربطنا. فلا بد من وجود سبب لطلبك هذا مني. ويجب أن أعرف هذا السبب. سأذهب لأحضر الخمر".
ثمّ
ودّعني وانصرف.
عندما
غادر الغرفة، ارتميت على الأرض وأنا في حالة من النشوة العميقة. تناولت المسبحة العنبرية التي تركها الرومي، وحمدت الله لأنه منحني رفيقاً صادقاً،
وابتهلت إلى الله بألا تفيق روحه الجميلة من السكر بالعشق الإلهي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق