الثلاثاء، 16 مايو 2017

الجزء الأول - ( الأرض ) الأشياء التي تكون صلبة متشربة، وساكنة


الجزء الأول

الأرض الأشياء التي تكون صلبة
متشربة، وساكنة








شمس

حانة في ظاهر سمرقند، آذار (مارس) 1242
ارتعش أمام عينيّ ضوء الشموع المصنوعة من شمع النحل والمنتصبة فوق المنضدة الخشبية المتشققة.  وغمرتني هذا المساء رؤية شديدة الإشراق.
رأيت بيتاً كبيراً ذا فناء تكسوه الورود الصفر المتبرعمة، وفي وسط الفناء بئر بقبع فيها أبرد ماء في الدنيا.  كانت ليلة صافية في أواخر الخريف، وقد تكبد البدر صفحة السماء الصافية.  تناهت إليّ من بعيد أصوات نعيق وعواء حيوانات ليلة.  وبعد قليل، خرج من البيت رجل في منتصف العمر، لطيف الوجه، له كتفان عريضتان، وعينان عميقتان بندقيتا اللون، يبحث عني.  كانت قسمات وجهه متوترة، وعيناه تشيان بحزن شديد.
"شمس، شمس، أين أنت؟"، صاح وهو يتلفت يميناً ويساراً.
هبّت ريح عاصفة، وتوارى القمر وراء غيمة، كأنه لا يريد أن يشهد ما سيحدث.  وتوقّف البوم عن النعيب، ولم يعد الخفاش يصفق بجناحيه، وحتى النار في الموقد داخل البيت، لم تعد تصطفق.





وأطبق سكون تام على العالم.
ببطء، اقترب الرجل من البئر، وانحنى، وراح ينظر إلى الأسفل وهمس، "شمس، يا أعزّ أعزائي، هل أنتَ هنا؟".
فتحت فمي لأجيب، لكن لم ينبعث من بين شفتيّ أي صوت.
انحنى الرجل أكثر، وحدّق في البئر ثانية.  في البداية لم ير شيئاً سوى سواد الماء.  لكنه بعد ذلك، وفي أعماق البئر، رأى يدي تطوف بلا هدف فوق الماء المترقرق، مثل طوافة زعزعتها الريح الشديدة.  ثم تبيّن عينين – حدقتان  سوداوان تلمعان -، تحدِّقان  في البدر الذي بدأ ينسلّ الآن من وراء الغيوم الداكنة الكثيفة.  تسمّرت عيناي على القمر كأنهما تنتظران تفسيراً من السماء عن سبب قتلي.
خرّ الرجل ساجداً، وراح يجهش في البكاء ويخبط على صدره بقبضتيه ويصرخ: "لقد قتلوه! لقد قتلوا شمساّ".
عندئذ انبثق ظلّ من وراء أجمة، وبحركات سريعة خفية قفز فوق جدار الحديقة، مثل قطّ بري.  لكن الرجل لم ير القاتل.  كان يعتصر ألماً، ولم يكفّ عن الصراخ والعويل حتى تهشم صوته كما يتهشم الزجاج، وتناثر في أرجاء الليل شظايا دقيقة واخزة.
"هيه، أنت! كفّ عن الصراخ كالمجنون".
". . . .".
"كفّ عن هذا الصراخ وإلا طردتك خارجاً".
" . . . ".
"قلت اخرس! هل تسمعني! اسكت".
كان صوت الرجل الذي صدرت عنه هذه الكلمات، يزداد قرباً مني

على نحو مخيف.  تظاهرت أنني لم أسمعه، مفضّلاً البقاء داخل رؤياي لأطول فترة من الزمن.  كنت أريد أن أعرف المزيد عن موتي، كما كنت أردي أن أرى الرجل صاحب أشدّ العيون حزناً.  من هو؟ ما علاقته بي، ولماذا كان يبحث عنّي باستماتة في ليلة من ليالي الخريف؟
لكن قبل أن أتمكن من اختلاسي نظرة أخرى، أمسكني أحدهم من ذراعي من عالم آخر وراح يهزني بقوة حتى أحسست بأسناني تصطك في فمي.  وجرتني قبضته إلى هذا العالم.
ببطء، وبتردّد، فتحت عينيّ ورأيت الرجل يقف بجانبي.  كان رجلاً مربوع القامة، له لحية وَخَطَها الشيب، وله شاربان كثان، معقوفان ومفتولان عند الطرفين.  أدركت أنه صاحب الحانة.  وعلى الفور لاحظت أمرين اثنين فيه وهما: إنه الرحل الذي يزرع الخوف في نفوس الناس بكلامه الفظ وسلوكه العنيف، وأنه الآن في حالة غضب شديد.
سألته: "ماذا تريد؟ لماذا تشدّ ذراعي؟".
"ماذا أريد؟"، قال صاحب الحانة هادراً متجهماً، "أردي أن تكفّ عن الصراخ، هذا ما أريد.  إنك تبث الخوف في زبائني".
"حقاً؟ هل كنت أصرخ"، دمدمت بعد أن حررت يدي من قبضته.
"أراهن على أنك كنت تصرخ! كنت تصرخ مثل دب انغرزت في كفّه شوكة.  ماذا دهاك؟ هل غفوت أثناء العشاء؟ لا بدّ أنك رأيت كابوساً أو شيئاً من هذا القبيل".
أعرف أن هذا هو التفسير المعقول الوحيد، وأنني لو قبلته، لقبل صاحب الحانة وتركني أغادر بسلام. لكني لم أرد أن أكذب".

فقلت: "لا، يا أخي، فأنا لم أنم ولم أر كابوساً.  بل إنني لا أرى أحلاماً قط".
"إذاً كيف تفسر صراخك هذا؟"،  أراد صاحب الحانة أن يعرف.
فقلت: "لقد جاءتني رؤيا.  وهذا أمر مختلف".
رمقني بنظرة ملؤها الحيرة ولعق طرفي شاربيه، ثم قال: "أنتم الدراويش مجانين كالجرذان في مخزن المؤن، ولا سيما الدراويش الجوالون. فأنتم تصومون النهار كلّه، وتصلّون وتمشون تحت أشعة الشمس الحارقة. لا عجب أنك بدأت تهلوس – ثمة لوثة في عقلك".
ابتسمتُ. قد يكون محقاً في القول إن هناك خيطاً رفيعاً بين أن تستغرق في الله وأن تفقد عقلك.
في تلك اللحظة، ظهر صبيّان خادمان، يحملان بينهما صينية ضخمة كدّست فوقها أطباق كثيرة: عنزة مشوية، سمك مجفّف مملّح، لحم ضأن متبّل، وكعك مصنوع من الحنطة، وحمص مع قطع من كرات اللحم، وشوربة عدس طهيت بإلية خروف.  وأخذا يطوفان في أرجاء القاعة، يوزعان الطعام على الحاضرين، مالئين الهواء بروائح البصل والثوم والتوابل.  وعندما توقّفا عند طرفيّ المائدة، أخذت زبدية من الحساء لديك نقود تدفع ثمنها؟"، سأل صاحب الحانة، بشيء من العجرفة.
فقلت: "لا، لا نقود لديّ، لكن يمكنني أن أقدم لك شيئاً مقابل ذلك.  مقابل الطعام والإقامة.  إذ يمكنني أن أفسّر لك أحلامك".
فرد باحتقار، واضعاً ذراعيه على خصره: "لقد قلت للتو إنك لا ترى أحلاماً".

"صحيح. فأنا مفسّر أحلام ولكن لا أرى أحلاماً".
"يجب أن ألقي بك إلى الخارج.  كما قلت، إنكم معشر الدراويش مجانين"، قال صاحب الحانة.
"ها هي نصيحة أقدمها لك. فأنا لا أعرف كم عمرك، لكنني واثق من أنك صلّيت بما يكفي لكلا العالمين. جد امرأة جميلة واستقرّ.  انجب أطفالاً.  فهذا سيساعدك على أن تبقي قدميك على الأرض.  فما فائدة التجوال في العالم والبؤس والتعاسة منتشران في كل مكان؟ صدقني.  لا شيء جديداً. عندي زبائن من أقصى أصقاع العالم، وبعد أن يجرعوا بعض الكؤوس، أسمع القصص نفسها منهم جميعاً. فالبشر هم أنفسهم في كل مكان. والطعام نفسه، والماء نفسه، والحماقة القديمة نفسها".
فقلت: "إني لا أبحث عن شيء مختلف.  إني أبحث عن الله. إن مسعاي هو البحث عن الله".
فردّ وقد غلظ صوته فجأة، "إذاً فإنك تبحث عنه في المكان الخطأ.  لقد هجر الله هذا المكان! ولا نعرف متى سيعود".
عندما سمعت هذه الكلمات، سقط قلبي فوق جدار صدري، وقلت: "عندما يذكر المرء الله بسوء، فإنه يسيء التكلّم عن نفسه".
ارتسمت على فم صاحب الحانة ابتسامة خبيثة، ورأيت في وجهه مرارة واستياء، وشيئاً آخر يشبه الألم المرتسم على وجه الطفل.
ثم سألته: "ألا يقول الله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)؟ فالله لا يقبع بعيداً في السموات العالية، بل يقبع في داخل كلّ منا.  لذلك فهو لا يتخلّى عنا، فكيف له أن يتخلّى عن نفسه؟".

"لكنه لا يتخلى عنا"، ردد صاحب الحانة، عيناه باردتان ومتحدّيتان: "إن كان الله فهو لا يحرك ساكناً، ونحن نعاني من أسوأ النهايات، فماذا يعني ذلك؟".
فقلت: "إنها القاعدة الأولى يا أخي: إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا. فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة، فهذا يعني أن قدراً كبيراً من الخوف والملامة يتدفّق في نفوسنا. أما إذا رأينا الله مفعماً بالمحبة والرحمة، فإننا نكون كذلك".
فأجاب صاحب الحانة معترضاً، لأن كلماتي فاجأته: "كيف يختلف ذلك عن القول بأن الله هو صورة من نسج خيالنا؟ لم أفهم".
لكن جلبة صاخبة انبعثت من خلف قاعة الطعام، جعلتني أتوقف عن إجابته.  وعندما التفتنا نحو مصدر الصوت، رأينا رجلين فظين ثملين يهذران بصوت عال بكلام غير مفهوم. وقد أطلقا العنان للإهانات والشتائم، وأدخلا الرعب في نفوس الزبائن الآخرين، وراحا يختلسان الطعام من طاساتهم، ويشربان من أكوابهم، فإذا أبدى أحدا احتجاجاً، كلنا يسخران منه صبيين شقيين في "كُتَّاب".
"ألا تظن أنه يجب أن يكبح أحد جماح هذين الغوغائيين؟"، همس صاحب الحانة بين أسنانه المطبقة، وأضاف: "انظر ماذا سأفعل الآن".
وبلمح البصر بلغ نهاية القاعة، فشدّ أحد الزبونين الثملين من مقعده، ولطمه على وجهه.  لا بد أن الرجل لم يكن يتوقّع ذلك قط، فتهاوى على الأرض مثل كيس فارغ.  وسى آهة خفيفة انبعثت من بين شفتيه، لم يندَّ عنه أي صوت.

وتبين أن الرحل الآخر أقوى من الأول، فقد قاوم بعنف، لكن صاحب الحانة سرعان ما ألقى به أرضاً، وبدأ يركل زبونه الحرون على أضلاعه، ثم داس على يده، وسحقها تحت حذائه الثقيل.  وسمعنا صوت طقطقة إصبع، أو أكثر ينكسر.
فصحت: "توقّف عن ذلك.  إنك ستقتله.  أهذا ما تنوي عمله؟".
ولمّا كنت صوفياً، فقد أقسمت على أن أحمي حياة الناس وألاّ ألحق أذى بأحد. ففي عالم الأوهام الذي نحياه، يوجد الكثير من الناس المستعدين للتشاجر دونما سبب، وآخرون يتشاجرون لسبب ما. ما الصوفي فلا يتشاجر مع أحد حتى لو كان لديه سبب يدعوه إلى ذلك.  فلا يوجد ثمة داع يجعلني ألجأ إلى العنف. لكن بإمكاني أن ألقي بنفسي مثل بطانية ناعمة بين صاحب الحانة والزبونين لأفصلهم عن بعضهم.
"ابتعد أيها الدرويش، وإلا ضربتك أنت أيضاً ضرباً مرحباً"، صاح صاحب الحانة، مع أننا كنا نعرف أنه لن يفعل ذلك.
بعد دقيقة حمل الخادمان الزبونين اللذين كُسر إصبع أحدهما، وكُسر أنف الأخر، وتناثر الدم في كل مكان. وخيّم على قاعة الطعام صمت مفعم بالخوف.  ثم رمقني صاحب الحانة، الذي كان فخوراً بالرعب الذي أشاعه، بنظرة جانبية.  وعندما تكلم ثانية، بدا وكأنه يخاطب الحاضرين جميعاً، وارتفع صوته وأصبح مسعوراً، مثل طير من الجوارح يحوم بخيلاء في السماء.
"كما يرى أيها الدرويش، فالأمور لا تسير هكذا على الدوام. فلم يكن العنف من شيمي، لكنه أصبح الآن.  فعندما ينسانا الله ويتركنا

وحيدين هنا، يقع على عاتقنا، نحن الناس العاديين، أن نصبح أشداء أو نحقق العدل بأيدينا.  لذلك عندما تكلمه في المرة القادمة، أرجو أن تخبره ذلك.  وسأقول له إنه عندما يتخلى عن حملانه، فلن تنتظر هذه الحملان بوداعة وخنوع حتى تُذبح. بل ستتحول إلى ذئاب".
هززت كتفي وأشرت نحو الباب، وقلت: "إنك مخطئ".
"هل أخطأت في القول بأنني كنت حملاً ذات يوم وأصبحت ذئباً اليوم؟".
"لا، إنك محق.  فأنا أرى أصبحت ذئباً حقاً، لكنك أخطأت عندما قلت إنك تحقق العدالة".
"انتظر، لم أفرغ منك بعد".  صاح صاحب الحانة ورائي: "إنك مدين لي.  مقابل الطعام والمأوى، كنت ستفسّر لي أحلامي".
"سأفعل شيئاً أفضل"، اقترحت: "سأقرأ لك كفّك".
استدرت وسرت نحوه، وأنا أحدّق في عينيه الملتهبتين.  وبشكل غريزي، ومرتاب، أجفل.  لكنني عندما أمسكت بيده اليمنى، ورفعت راحتيْ يديه إلى  الأعلى، لم يدفعني جانباً.  وأمعنت النظر في خطوط راحته، فوجدتها عميقة، مشققة، تشير إلى دروب وممرات متقطعة غير مستقيمة.  وشيئاً فشيئاً، بدت لي الألوان في هالته: بنياً بلون الصدأ، وأزرق شاحباً أقرب إلى الرمادي. وأصبحت طاقته الروحية جوفاء مقعّرة، ورقّت حول الحافات، كما لو خلت منه أي قوة للدفاع عن نفسه من العالم الخارجي.  وفي أعماقه، لم يعد في الرجل حياة أكثر مما في نبتة ذابلة.  وللتعوض عن فقدان طاقته الروحية، ضاعف من طاقته الجسدية، التي أفرط في استخدامها.


بدأ قلبي يخفق بسرعة، لأنني بدأت أرى شيئاً.  في البداية على نحو باهت، كما لو كان من وراء حجاب، ثمّ بدأ يتضح أكثر، ثمّ برز أمام عينيّ مشهد.
شابّة ذات شعر كستنائي، وقدمين حافيتين رسم عليهما وشم أسود، وحول كتفيها التف شال أحمر مطرّز.
قلت: "لقد فقدت حبيبة"، وأمسكت راحة يده اليسرى بيدي.
كان ثدياها يطفحان بالحليب، وبطنها ضخمة جداً وكأنها ستتمزّق إرباً إرباً. كانت عالقة في كوخ يحترق.  وكان محاربون يدورون حول البيت، ممتطين خيولاً عليها سروج من الفضة والذهب.  وكانت تفوح رائحة واخزة من احتراق القشّ واللحم البشري.
فرسان مغول، أنوفهم مفلطحة وعريضة، رقابهم غليظة وقصيرة، وقلوبهم قاسية كالصوان. جيش جنكيزخان القوي.
"لقد فقدتَ حبيبين"، قلت مصحّحاً نفسي: "فقد كانت زوجتك حاملاً بطفلك الأول".
قوّس صاحب الحانة حاجبيه، وثبّت عينيه على حذائه الجلدي الطويل، وزمّ شفتيه بشدة، وتغضّن وجهه مثل خريطة لا يمكن تبين معالمها.  وفجأت بدت عليه ملامح الشيخوخة أكثر من عمره الحقيقي.
قلت: "أعرف أن هذا ليس تعزية لك، بل أظن أن هناك شيئاً يجب أن تعرفه. فلم تقتلها النار أو الدخان.  بل انهار لوح خشبي من السقف وسقط على رأسها، وماتت على الفور، من دون ألم.  كنت تظن دائماً أنها عانت كثيراً، لكنها في الحقيقة، لم تتألم على الإطلاق".
قطّب صاحب الحانة حاجبيه، وانحنى بتأثير ضغط لا يفهمه أحد


سواه، وازداد صوته خشونة عندما سأل: "كيف عرفت كل ذلك؟.
تجاهلت سؤاله، وقلت: "إنك تلوم نفسك لأنك لم تقم لها جنازة لائقة.  إنها لا تزال تظهر في أحلامك، تخرج زاحفة من الحفرة التي دفنت فيها، لكن عقلك يتلاعب بك.  في الحقيقة، إن زوجتك وابنك بخير، وهما يتنقلان في العالم اللانهائي، حرّان مثل نقطتي نور".
ثمّ أضفت، وأنا أدرس كلّ كلمة أقولها بعناية: "يمكنك أن تصبح حملاً ثانية، لأنك لا تزال تحتفظ بالحمل في داخلك".
عندما سمع ذلك، سحب صاحب الحانة يده من يدري، كما لو أنه لمس مقلاة ساخنة، وقال: "لا أحبّك، أيها الدرويش.  سأسمح لك بالمكوث هنا الليلة، لكنك يجب أن تغادر في الصباح الباكر.  لا أريد أن أرى وجهك هنا ثانية".
هكذا هي الحياة.  فعندما تخبر أحدهم الحقيقة، فإنه يكرهك.   وكلما تحدّثت عن الحبّ، ازدادت كراهيته لك.






إيلا


نورثامبتون، 18 أيار (مايو) 2008
بعد التوتّر الشديد الذي أعقب الجدال الذي دار بين ديفيد وجانيت، شعرت إيلا بالإرهاق وقررت أن تتوقّف عن قراءة رواية "الكفر الحلو" لفترة من الوقت.  وأحسّت كما لو أنّ غطاء قدر فيها ماء يغلي قد ارتفع فجأة، وأخذ يبعث نزاعات قديمة، وغضباً جديداً في البخار المتصاعد.  ولسوء الحظ، لم يرفع احد ذلك الغطاء غيرها.  وقد فعلت ذلك عندما اتصلت برقم هاتف سكوت، وطلبت منه عدم الزواج من ابنتها.
وفي وقت لاحق من حياتها، ستأسف كثيراً على كلّ كلمة تفوهت بها خلال هذه المحادثة الهاتفية.  أما في هذا اليوم من شهر أيار (مايو)، فقد كانت واثقة من نفسها تمام الثقة ولم تستطع أن تفهم جيداً العواقب المريعة التي قد تنجم عن تدخلها هذا.
"مرحباً، سكوت.  أنا إيلا، والدة جانيت"، قالت، وهي تحاول أن تبدو سعيدة، كما لو كان الاتصال بصديق ابنتها شيئاً تفعله كل يوم، "هل لديك دقيقة لنتحدث؟".


"سيدة روبنشتاين، كيف لي أن أساعدك؟"، قال سكوت متلعثماً، متفاجئاً، لكن بأسلوب متحضّر جداً.
وبنبرة لا تقل تحضراً، قالت له إيلا إنه ليس لديها شيء ضده شخصياً، فهو شاب صغير وغرّ على الزواج من ابنتها. وقد انزعج من هذه المكالمة التي قالت له فيها إنه سيفهمها حق الفهم ذات يوم في المستقبل القريب، بل سيشكرها لأنها حذرته في الوقت المناسب.  وحتى ذلك الحين، طلبت منه أن ينسى موضوع الزواج من ابنتها، وأن يبقي على هذه المكالمة سراً بينهما.
خيّم صمت كثيف ثقيل.
"سيدة روبنشتاين، لا أظن أنك تفهمين"، قال سكوت عندما عاد إليه صوته أخيراً، "فأنا وجانيت يحبّ أحدنا الآخر".
مرة أخرى! كيف يمكن أن يكون الناس بهذه الدرجة من السذاجة ويتوقّعون أن الحبّ سيفتح لهم جميع الأبواب؟ إنهم يظنون أن الحبّ عصا سحرية يمكنها إصلاح كلّ شيء بلمسة خارقة واحدة.
لكن إيلا لم تقل ذلك، بل قالت: "إني أفهم مشاعرك، صدّقني. لكنك لا تزال شاباً صغيراً ولا تزال أمامك حياة مديدة. من يعرف؟ فمن الممكن أن تحبّ غداً فتاة أخرى".
"سيدة روبنشتاين، لا أريد أن أتواقح معك، لكن ألا تظنين أن هذا الأمر ينطبق على الجميع، بمن فيهم أنت؟ من يعرف؟ فمن الممكن أن تحبي أنت أيضاً شخصاً آخر".
أطلقت إيلا ضحكة مكتومة، أعلى وأطول مما كانت تنوي.
وقالت: "إنني امرأة متزوجة. وقد اخترت اختيار عمري، وكذلك



زوجي.  وهذه هي تماماً النقطة التي أريد أن أشرحها لك.  إن الزواج قرار جدّي، تجب دراسته بعناية شديدة قبل الإقدام عليه".
فسألها سكوت: "هل هذا يعني أنك تطلبين مني ألاّ أتزوج ابنتك التي أحبّها، لأنني قد أحبّ فتاة أخرى مجهولة في مستقبل غير محدد؟".
من هذه النقطة بدأ الحديث بينهما يتهاوى، ذلك الحديث الذي كان مليئاً بالضيق وخيبة الأمل.  وعندما وضعت إيلا سماعة الهاتف أخيراً، توجّهت إلى المطبخ، وراحت تفعل ما كانت تفعله دائماً عندما كان ينتابها قلق عاطفي: طهو الطعام.
***
  بعد نصف ساعة، تلقّت مكالمة من زوجها.
"أكاد لا أصدّق أنكِ خابرتِ سكوت وطلبتِ منه ألاّ يتزوج ابنتنا.  أخبريني ماذا فعلتِ؟".
فوجئت إيلا بكلامه، وقالت لاهثة: " يا إلهي، إن الكلمة تنتقل بسرعة كبيرة. حبيبي، دعني أشرح لك".
لكن ديفيد قاطعها بتوتر، وقال: "لا داعي لشرح أي شيء.  إن ما فعلته خطأ.  فقد اتصل سكوت بجانيت وهي منزعجة للغاية.  إنها ستمكث مع صديقاتها لبضعة أيام، فهي لا تريد أن تراك الآن"، وصمت برهة ثم أضاف: "وأنا لا ألومها على ذلك".
في ذلك المساء، لم تكن جانيت الوحيدة التي لم تعد إلى البيت، فقد أرسل ديفيد إلى إيلا رسالة نصّية قال فيها إن طارئاً طرأ فجأة، ولم يوضح طبيعة هذه الحالة الطارئة.
لم يكن ذلك من عادته، بل كان ذلك مخالفاً لروح زواجهما. فعلى

الرغم من أنه ربما كان يغازل امرأة بعد أخرى، ولعله كان ينام معهن وينفق نقوده عليهن، فقد كان يعود إلى البيت دائماً ويأخذ مكانه إلى المائدة عندما يعود في المساء. ومهما ازدادت شقة الخلاف بينهما، فقد كانت هي تطهو دائماً، وكان هو يتناول الطعام دائماً، بغبطة وامتنان، مهما كانت كمية الطعام التي تضعها في طبقه.  وفي نهاية كلّ عشاء، لم يكن ديفيد ينسى أن يشكرها – شكر من قلبه – كانت إيلا تعتبره دائماً اعتذاراً مبطناً على خياناته لها، وكانت تغفر له باستمرار.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يتصرف فيها زوجها بهذه الطريقة الصفيقة، ولامت إيلا نفسها على هذا التغيير، لكن الشعور "بالذنب" هو الاسم الثالث لإيلا رونشتاين.
***
ما إن جلست إيلا إلى المائدة مع ابنتها وابنيها التوأمين، حتى تحوّل  إحساسها بالذنب إلى كآبة.  فقد قاومت توسلات آفي لطلب بيتزا،  ومحاولات أورلي بألا تأكل شيئاً، فأرغمتهما على تناول الرزّ البري مع البازلاء الخضراء ولحم البقر المشوي المضاف إليه قليل من الخردل.  ومع أنها كانت تبدو في الظاهر، تلك الأمّ العملية القلقة، كانت تشعر في داخلها بدفق من اليأس، وأحسّت بطعم حادّ في فمها ، مر كالعلقم.
بعد انتهاء طعام العشاء، جلست إيلا إلى المائدة في المطبخ وحدها، فغمرها سكون ثقيل. وفجأة، بدا لها أن الطعام الذي طهته، والساعات الطويلة من العمل الشاق التي أمضتها، مملاً بليداً وشعرت بالأسى على نفسها.  واعتراها شعور بالأسى لأنها شارفت على

الأربعين، من دون أن تحقق أشياء مهمة في حياتها.  فقد منحت أسرتها الكثير من الحب بالرغم من أن أحداً لم يكن يطلبه منها.
وانتقلت أفكارها فجأة إلى رواية "الكفر الحلو"، التي فتنتها فيها شخصية شمس التبريزي.
"ما أجمل أن يكون شخص مثله هنا"، قالت لنفسها مازحة: "فلا يمكن أن يمر يوم مملّ برفقة رجل مثله".
وكانت الصورة التي انبثقت في مخيلتها صورة رجل طويل، أسمر، غامض، يرتدي بنطالاً جلدياً، وسترة كالتي يرتديها راكبو الدراجات النارية، وله شعر أسود ينسدل حتى كتفيه، ويركب دراجة هارلي ديفيدسن حمراء لمّاعة تتدلى من مقبضيها شرابيب متعددة الألوان.  ابتسمت لهذه الصورة.  راكب دراجة وسيم، جذاب، صوفي يقود دراجته بسرعة على طريق سريع خاوٍ. ألا يحسن أن تركب معه، وتطلب توصيله من رجل كهذا؟
ثمّ تساءلت لإيلا: يا ترى ماذا كان شمس سيرى لو قرأ كفّها، هل سيشرح لها سبب تحوّل تفكيرها بين الحين والآخر إلى كهف من الأفكار المظلمة؟ أو لماذا تشعر بالوحدة مع أن لديها أسرة محبّة كبيرة؟ وماذا عن ألوان هالتها؟ هل هي براقة ومشرقة؟ وهل يسكون هناك شيء براق وواضح في حياتها؟
وبينما كانت إيلا جالسة وحدها إلى طاولة المطبخ ووميض ضعيف من الضوء ينبعث من الفرن، أدركت انه على الرغم من كلماتها الناجحة التي تنكرها، وعلى الرغم من قدرتها على البقاء حازمة وصلبة في مواجهة الشدائد، كانت تهفو إلى الحبّ في أعماقها.





شمس


حانة في ظاهر سمرقند، آذار (مارس) 1242
كان جميع المسافرين المرهقين الذي يزيد عددهم على عشرة يغطّون في النوم في الطابق العلوي للحانة، وكان كلّ واحد منهم يرى حلماً منفصلاً عن الآخر.  رحت أتقدم فوق الأقدام الحافية والأيدي العارية حتى وصلت إلى حشيتي التي تفوح منها رائحة العرق والعفن.  استلقيت في العتمة، ورحت استرجع أحداث اليوم، متمعناً في أيّ إشارة إلهية ربما أكون قد رأيتها،لكنني، في عجلتي أو جهلي، لم أدرك أياً منها.
ومنذ طفولتي، كنت أرى رؤى وأسمع أصواتاً، وكنت أكلّم الله، وكان يرد عليّ على الدوام.  وفي بعض الأيام، كنت أصعد إلى السماء السابعة، بخفة شديدة، ثمّ أهبط في أعمق حفرة في الأرض، تفوح منها رائحة التراب، مخفية مثل صخرة مدفونة تحت أشجار البلوط الضخمة وأشجار الكستناء الحلو. وبين الحين والآخر، كنت أفقد  شهيتي للطعام، وكانت تمرّ أيام عدة لا أتناول فيها طعاماً.  ولم تكن هذه الأشياء تخيفني، وتعلّمت، وعلى مدى الأيام، ألا أذكرها لأحد.





فالبشر يميلون إلى الاستخفاف بما لا يمكنهم فهمه.  لقد تعلّمت ذلك من تجربتي الشخصية.
          فقد كان أبي أول من أساء تقدير الرؤى التي كانت تنتابني.  ولا بد أنني كنت لا أزال في العاشرة من عمري عندما بدأت أرى ملاكي الحارس كلّ يوم، وكنت على شيء من السذاجة عندما كان يخيّل إليّ أنه كان يزور الآخرين أيضاً.  وذات يوم، عندما كان أبي يعلّمني كيف أصنع صندوقاً من خشب الأرز لأصبح نجاراً مثله، أخبرته عن الملاك الحارس الذي يزورني في منامي.
"لديك خيال جامح يا بني"، قال أبي بجفاء، "والأفضل لك أن تحتفظ بذلك لنفسك.  فلا نريد أن نزعج القرويين بهذه الأشياء".
ومنذ أيام قلائل، شكاني بعض الجيران إلى والديّ، واتهموني بأنه تبدر مني تصرفات غريبة، وأني أبث الخوف في نفوس أبنائهم.
وقال أبي: "أنا لا أفهم تصرفاتك يا بنيَّ.  لماذا لا تقبل فكره أنك لست أكثر تميزاً من والديك؟ فكلّ طفل يسير على خطا والديه ويحذو حذوهم، ويجب أن تفعل أن ذلك".
عندها أدركت أنه على الرغم من حبّي لوالديّ وتوقي إلى التعلق بهما، فقد كانا غريبين عني.
"أبتي، لقد جئت من بيضة تختلف عن البيضة التي جاء منها أطفالك الآخرون.  أرجو أن تعتبرني بطّة تعيش مع دجاجات.  فلست طيراً داجناً كتبت عليه أن يمضي حياته في خمّ للدجاج.  فالماء الذي يخفيك، يبثّ الحياة فيّ.  لأني لست مثلك، فأنا أعرف السباحة، لذلك سأسبح.  إن المحيط هو موطني، فإذا كنت معي، تعال إلى



المحيط، وإذا لم تأتِ، فكفّ عن التدخل في حياتي، وعد إلى خمّ الدجاج".
اتسعت عينا أبي، ثمّ صغرتا، وقال متجهماً: "إذا كنت تكلّم أباك بهذه الطريقة الآن، فكيف يا ترى ستخاطب أعداءك عندما تكبر".
          على الرغم من الحزن الذي اعترى والديّ، لم تتوقف الرؤى، بل ازدادت كثيراً.  وازداد والديّ عصبية وتوتراً، واعتراني شعور بالذنب لأن ذلك كان يزعجهما، لكنني لم أكن أعرف كيف يمكنني أن أضع حداّ لهذه الرؤى، وحتى لو كان في مقدوري ذلك، فلا أظنني سأقدم عليه.  ولم تمض فترة طويلة، حتى غادرت البيت ولم أعد إليه. ومنذ ذلك الحين، أضحت كلمة تبريز حلوة ورقيقة، رائعة ورهيفة، إلى حد أنها كانت تذوب في لساني.  وترافق ذكرياتي لهذا المكان ثلاث روائح هي: الخشب المقطوع، والخبز المصنوع من بذور الخشخاش، ورائحة الثلج الناعم النضر.
هكذا أصبحت درويشاً أنتقل من مكان إلى آخر، ولم أعد أنام في مكان واحد أكثر من مرة، ولم أعد أتناول الطعام من نفس الزبدية مرّتين متتاليتين، وأصبحت أرى حولي وجوهاً مختلفة في كلّ يوم وعندما كنت أشعر بالجوع، كنت أكسب بعض النقود من تفسير الأحلام.  لذلك، كنت أطوف شرقاً وغرباً، بحثاً عن الله في كل مكان. أبحث عن حياة جديرة بالحياة، وأبحث عن معلومات جديدة جديرة بالمعرفة.  ولمّت لم تكن لديّ جذور في أي مكان، أصبح لديّ العالم كلّه أطوف في أرجائه.
وخلال جولاتي، سلكت جميع أنواع الطرق، من الطرق التجارية




الشعبية إلى الدروب المنسية حيث لا يمكنك أن ترى روحاً لأيام عدة. ومن سواحل البحر الأسود إلى مدن بلاد فارس، ومن بوادي آسيا الوسطى الشاسعة، إلى كثبان الجزيرة العربية، اجتزت غابات كثيفة، ومراعي منبسطة، وصحارى، وأقمت في خانات ونزل عدة، وناقشت رجالاً من أهل العلم في مكتبات عامة قديمة، وأنصتُّ إلى معلمين يعلّمون أطفالاً صغاراً في الكتّاب، وناقشت علم التفسير وعلم المنطق مع الطلاب في المدارس، وزرت معابد ومزارات وأديرة وأضرحة، ومارست التأمل مع ناسكين في كهوفهم، وشاركت مع دراويش آخرين في جلسات الذكر، ولذت بالصمت في وجود عقلاء، وتعشّيت مع زنادقة، ورقصت مع كهنة سحرة تحت البدر، وتعرّفت على أشخاص من جميع الملل والنحل، ومن جميع الأعمار والحرف، ورأيت نوائب ومعجزات.
          ورأيت قرى فقيرة، وحقولاً سوّدتها الحرائق، ومدناً وبلدات سلبت ونهبت وأصبحت الأنهار فيها حمراء، ولم يبق فيها رجال أحياء يزيد عمرهم على عشر سنوات.  لقد رأيت أسوأ وأفضل ما في الإنسانية.  لذلك لم يعد فيها ما يفاجئني.
          وخلال هذه الرحلات والتجارب، رحت أجمع قائمة لم تُدوَّن في أيّ كتاب، بل حفرت في روحي فقط.  وقد أطلقت على هذه القائمة الشخصية "المبادئ الأساسية للصوفيين الجوالين في الإسلام"، وإني أعتبرها قائمة شاملة وموثوقة وثابتة كما هي قوانين الطبيعة.
وهي تشكّل مدوَّنة "القواعد الأربعون لدين العشق"، التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال العشق، والعشق وحده.  وتقول إحدى تلك



القواعد: "إن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب، لا من الرأس فاجعل قلبك، لا عقلك، دليلك الرئيسي. واجه، تحدَّ، وتغلب في نهاية المطاف على "النفس" بقلبك.  إن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله".
          استغرق الأمر سنوات عدة حتى تمكنت من وضع هذه القواعد الأربعين.  والآن، بعد أن فرغت منها، فإني أعرف بأنني أقترب من المرحلة النهائية من زمني في هذا الكون، وبدأت أرى مؤخراً رؤى كثيرة تدلّ على ذلك.  ولم يكن الموت هو الذي يقلقني، لأنني لم أكن أعتبره نهاية، بل ما كان يقلقني هو أن أموت من دون أن أخلِّف تراثاً.  إذ يتكدس في صدري حشد من الكلمات، وقصص كثيرة تنتظر أن أحكيها.  كنت أريد أن أنقل المعارف التي توصلت إليها إلى شخص آخر، سواء مان أستاذاً أم تلميذاً.  إني أبحث عن نظير – رفيق.
"يا الله"، همست في الغرفة الرطبة المظلمة، "لقد أمضيت حياتي وأنا أطوف في أرجاء العالم، وتبعت صراطك، ورأيت الجميع مثل كتاب مفتوح، قرآناً متنقّلاً.  وابتعدت عن أبراج العلماء العاجية، وفضلت فضاء وقتي مع المنبوذين والمجهرين والمنفيين.  لقد امتلأت بكل ذلك، لذلك ساعدني على أن أنقل حكمتك إلى الشخص المناسب، وبعدها افعل بي ما شئت".
وبغته هبط أمام عينيّ في الغرفة نور شديد السطوع، فأصبحت وجوه المسافرين النائمين في فراشهم زرقاء متوهجة.  وأصبح الهواء نقياً وحيّاً، كأن جميع النوافذ قد فتحت، واندفعت عبرها ريح عاصفة حملت معها رائحة الزنبق والياسمين من حدائق بعيدة.






"اذهب إلى بغداد"، قال ملاكي الحارس بصوت رخيم كالناي.
فسألته: "وما الذي ينتظرني في بغداد؟".
"لقد طلبت رفيقاً، وستُعطى رفيقاً.  ستجد في بغداد السيّد الذي سيوجّهك إلى الطريق القويم".
اغرورقت عيناي بدموع الامتنان.  وعندها عرفت أن الذي ظهر في رؤياي، لم يكن إلا رفيقي الروحي.  وعاجلاً أم آجلاً، فقد كتب علينا أن نلتقي، وعندما نلتقي، سأعرف لماذا كانت عيناه البندقيتان اللطيفتان حزينتين إلى الأبد، وكيف قُتلت في ليلة من ليالي مطلع الربيع.









إيلا


نورثامبتون، 19 أيار (مايو) 2008
          قبل غروب الشمس وعودة الأطفال إلى البيت، علّمت إيلا الصفحة التي وصلت إليها في مخطوط رواية "الكفر الحلو"، ووضعتها جانباً.  وبدافع الفضول لمعرفة الرجل الذي كتب الرواية، فتحت إيلا الإنترنت وراحت تبحث في محرك غوغل عن اسم "ع . ز . زاهارا"، وراحت تتساءل عمّا يظهر لها، لكنها لم تكن تتوقّع الكثير.
ولمفاجأتها، ظهرت لها مدوّنة شخصية.  كان اللونان الرئيسيان اللذان يزينان الصفحة هما اللون البنفسجي والفيروزي، وبدت في أعلى الصفحة صورة رجل يرتدي عبارة بيضاء طويلة وهو يدور ببطء حول نفسه.  وبما أن إيلا لم تر في حياتها أحداً يرقص رقصة الدراويش، فقد ألقت نظرة حذرة على الصورة.  وكان عنوان المدوَّنة "قشرة بيض تدعى الحياة"، وقد كتبت تحته قصيدة تحمل العنوان نفسه:

ليختر أحدنا الآخر رفيقاً له!


 وليجلس أحدنا عند قدمي الآخر !
ففي داخلنا الكثير من الانسجام – ولا تظنّن
أننا ما نراه فحسب


كانت الصفحة تعجّ ببطاقات بريدية لمدن ومواقع من أرجاء العالم.  وقد كتب تحت كلّ بطاقة بريدية تعليق عن ذلك المكان بالذات.  وبينما راحت إيلا تقرأها، لفتت انتباهها ثلاث معلومات على الفور: الأولى أن حرف "ع" هو اختصار لحرف عزيز. والثانية، أن عزيز يعتبر نفسه صوفياً.  والثالثة، أنه مسافر حالياً إلى غواتيمالا.
وفي زاوية أخرى، رأت نماذج من الصور التي التقطها، تصوّر معظمها أناساً من شتى الألوان والمشارب. وعلى الرغم من اختلافاتهم الشديدة، فقد كانوا يشبهون بعضهم بعضاً شبهاً غريباً: كان من الواضح أن شيئاً مفقوداً يجمع بين الصور جميعاً.  فقد كان العنصر المفقود بالنسبة لبعضهم شيئاً بسيطاً، مثل قرط ، أو حذاء، أو زرّ، ولبعضهم الآخر أهم من ذلك بكثير، مثل سنّ، أو إصبع، أو ساق أحياناً.  وقرأتْ تحت الصور:
مهما كنا أو حيثما كنا نعيش، فإننا نشعر في قرارة أنفسنا بأننا غير كاملين.  كما لو كنا فقدنا شيئاً ويجب أن نستعيده.  لكن معظمنا لا يعثر على ذلك الشيء أبداً.  أما الذين بإمكانهم العثور عليه، فلا يجرؤ إلا قلة قليلة على الخروج والبحث عنه.
حرّكت إيلا الصفحة إلى الأعلى وإلى الأسفل، ونقرت على البطاقات البريدية، واحدة تلو الأخرى، لتكبيرها، وقرأت جميع



التعليقات التي كتبها عزيز.  ووجدت في أسفل الصفحة، عنوان بريده الإلكتروني: azizzzaharagmail.com  ، فدوّنته على قصاصة من الورق، ووجدت إلى جانبه إحدى قصائد الرومي:
اختر الحبّ، الحبّ! فمن دون حياة الحبّ العذبة،
تمسي الحياة عبئاً ثقيلاً – كما ترى

بينما كانت إيلا تقرأ هذه القصيدة، لمعت في رأسها فكرة غريبة.  وللحظة عابرة، اعتراها إحساس بأن كلّ شيء وضعه عزيز ز. زاهارا في مدوّنته الشخصية – الصور والتعليقات والاقتباسات والقصائد – قد كتبت كرمى لعينيها قط.  كانت فكرة غريبة ومتعالية بعض الشيء، لكن كان معناها رائعاً لها.
***
وفي عصر ذلك اليوم، جلست إيلا بالقرب من النافذة، متعبة وكئيبة قليلاً، حيث كانت أشعة الشمس ثقيلة على ظهرها، وكان الهواء في المطبخ مفعماً بروائح الكعك الذي تخبزه. وكانت رواية "الكفر الحلو" مفتوحة أمامها، لكن عقلها كان مشغولاً فلم نستطع التركيز عليها. وخطر لها أن تكتب هي أيضاً مجموعة من القواعد الأساسية الخاصة بها، التي يمكن أن تطلق عليها "القواعد الأربعون لربّة بيت عملية غير جوّالة تعيش في الضواحي".
دمدمت قائلة: "القاعدة الأولى: كفّي عن البحث عن الحبّ.  توقّفي عن الجري وراء أحلام مستحيلة! فمن المؤكد أن في الحياة أموراً أهم بالنسبة لامرأة متزوجة شارفت على الأربعين".
لكن مزحتها هذه أحدثت ضيقاً غامضاً في نفسها، وذكّرتها بهموم أكبر.  ولما لم تعد تستطيع أن تتمالك نفسها، اتصلت بابنتها الكبرى، فسمعت جهاز تسجيل مكالماتها.
"جانيت، عزيزتي، أعرف أنني أخطأت بالاتصال بسكوت .  لكني لم أكن أنوي سوءاً.  أردت أن أؤكد لك ذلك ...".
توقّفت قليلاً، وشعرت بأسف شديد لأنها لم تحضّر هذه الرسالة سلفاً.  تناهى إليها صوت الحفيف الناعم لجهاز تسجيل المكالمات وهو يسجّل في الخلفية.  وعندما خيّل إليها أن الشريط يدور والزمن يجري بسرعة، شعرت بالتوتر.
"جانيت، أنا آسفة على ما بدر مني. أعرف أنني يجب ألاّ أتذمر من النعمة التي أعيش في كنفها.  لكنّ ذلك كلّه لأنني ... لست سعيدة".
صورت طقطقة. فقد أوشكت فترة جهاز تسجيل المكالمات على التوقف.  انقبض قلب إيلا بصدمة ما قالته للتو. ماذا دهاها. لم تكن تعرف أنها حزينة.  هل يمكن أن تكون مصابة بالاكتئاب، وهي لا تعرف ذلك؟ وعلى نحو غريب، بدا أنها لم تشعر بالحزن لأنها اعترفت بأنها ليست سعيدة.
تسللت نظرتها إلى قصاصة الورق التي دونت عليها عنوان بريد عزيز زاهارا الإلكتروني.  كان العنوان بسيطاً، متواضعاً، وجذاباً نوعاً ما. ومن دون أن تفكر كثيراً في الأمر، توجهت إلى حاسوبها، وكتبت الرسالة التالية:
السيد عزيز ز. زاهارا،
اسمي إيلا. وأنا أقرأ روايتك "الكفر الحلو"، بعد أن كلفتني الوكالة الأدبية بذلك.  لقد بدأت بقراءتها منذ فترة وجيزة، وقد وجدت متعة


كبيرة فيها.  على أي حال، هذا رأيي الشخصي، وهو لا يعكس رأي صاحب الوكالة الأدبية.  وسواء أحببت روايتك أم لا، فلا تأثير لرأيي على القرار النهائي بالموافقة على نشر روايتك.
          يبدو أنك تؤمن بأن العشق هو جوهر الحياة، وأن لا شيء آخر يهم.  وليس في نيتي أن أدخل معك الآن في نقاش عقيم حول هذه المسألة.  ويكفي أن أقول إنني لا أوافقك الرأي تماماً.
لكنني لا أكتب لك الآن لهذا السبب.
بل أكتب إليك لأن "توقيت" قراءتي لرواية "الكفر الحلو" لا يمكن أن يكون أكثر غرابة.  فأنا أحاول إقناع ابنتي الكبرى بعدم الزواج لأنها لا تزال صغيرة.  وقد طلبتُ البارحة من صديقها أن يلغي مشروع زواجهما.  فأصبحت ابنتي تكرهني ورفضت أن تكلمني.  أشعر أن الأمور تسير معك على ما يرام، لأنه يبدو أنك تحمل آراء مشابهة حول الحبّ.
إني آسفة لأنني أحدثك عن مشاكلي الشخصية.  لم أكن أنوي ذلك.  وتقول مدوّنتك الشخصية (حيث وجدت عنوانك الإلكتروني) إنك موجود الآن في غواتيمالا.  لا بد أن الترحال في أرجاء الأرض أمر مثير.  وإذا صادف أن زرت بوسطن، فربما التقينا شخصياً وتحدثنا حول فنجان قهوة.
                                                                         أطيب التمنيات
                                                                        إيلا
كانت رسالتها الإلكترونية الأولى إلى عزيز، دعوة أكثر منها رسالة، صيحة استغاثة.  لكن إيلا لم تدرك ذلك عندما جلست بصمت في مطبخها، وكتبت رسالة إلى كاتب مجهول لم تتوقّع أن تلتقي به لا الآن، ولا في أي وقت في المستقبل.












السيّد

بغداد، نيسان (أبريل) 1242
          لم تعرف بغداد بوصول شمس التبريزي، لكني لن أنسى ذلك اليوم الذي جاء فيه إلى تكية الدراويش البسيطة التي نمكث فيها.  وقد جاء لزيارتنا عدد من كبار الزوار في عصر ذلك اليوم.  فعندما جاء كبير القضاة يصحبه عدد من رجاله لزيارتي، ساورني الشك في أن شيئاً أكثر من المودة يكمن وراء زيارته هذه.  فقد كان القاضي معروفاً بشدة كراهيته للصوفية، وأظن أنه يريد أن يذكّرني بأننا تحت مراقبته، كما كان يراقب جميع الصوفيين في المنطقة.
كان القاضي رجلاً طموحاً، ذا وجه عريض، وبطن متهدلة، وأصابع قصيرة مكتنزة، في كل منها خاتم ثمين.  وأظن أن عليه أن يتوقف عن تناول كميات كبيرة من الطعام، لكني أشك في أن أحداً يملك الشجاعة لأن يطلب منه ذلك، فحتى طبيبه لا يستطيع أن يقدم له مثل هذه النصيحة.  وكان القاضي يتحدّر من أسرة أنجبت عدداً من العلماء، وأصحاب النفوذ في المنطقة.  وبقرار منه يستطيع إرسال رجل إلى المشنقة، أو العفو بسهولة عن مجرم، ويخرجه من أشدّ الزنزانات ظلمة.  وكان من عادته ارتداء معاطف من الفراء وثياب غالية الثمن.  وكانت تبدو عليه سيماء شخص شديد الثقة بسلطته.  ومع أنني لم أكن أوافق على أساليبه المبهرجة المرائية، فقد كنت أبذل ما بوسعي للحفاظ على علاقات طيبة مع هذا الرجل، صاحب النفوذ، لصالح تكيتنا.
"إننا نعيش في أروع مدينة في العالم"، قال القاضي وهو يلقي ثمرة تين في فمه، "لكن بغداد تعجّ الآن باللاجئين الذين هربوا من بطش جيش المغول، ونحن نوفّر لهم ملاذاً آمناً.  إنها مركز العالن، إلا ترى ذلك يا بابا زمان؟".
     "لا ريب في أن هذه المدينة جوهرة"، قلت بحرص، "لكن يحب ألاّ ننسى أن المدن تشبه البشر.  فهي تولد، وتمرّ بمرحلتي الطفولة والمراهقة، ثم تشيخ، وفي النهاية تموت. وأظن أن بغداد قد بلغت الآن أواخر شبابها.  إذ لم نعد أثرياء كما كنا في عهد الخليفة هارون الرشيد، لكن بالرغم من ذلك، يحق لنا أن نفتخر بأننا لا نزال مركز التجارة والحرف والشعر.  لكن من يعرف كيف سيكون حال المدينة بعد ألف سنة؟  فقد يختلف كلّ شيء".
     "يا للتشاؤم!"، هزّ القاضي رأسه ومدّ يده إلى زبدية أخرى وتناول ثمرة تمر، وأضاف: "وستسود الخلافة العباسية، وستزداد ازدهاراً.  هذا طبعاً ما لم يعكّر الخونة المندسون بيننا صفو الوضع الحالي.  فهم يدّعون أنهم مسلمون، لكن تفسيرهم للإسلام أخطر بكثير من تهديد الكفّار".
فضلت أن ألوذ بالصمت.  وليس خافياً على أحد أن القاضي يعتبر

الصوفيين وتفسيراتهم الفردية والباطنية للإسلام، مسيئة ومثيرة للمشاكل.  فقد اتّهمنا بأننا نضرب بأحكام الشريعة عرض الحائط، وهذا يعني ازدراء برجال السلطة – رجال من أمثاله.  وكنت أشعر أحياناً بأنه يريد أن يطرد جميع الصوفيين من بغداد.
     "إن أخويّتك ليست ضارة، لكن ألا تظن أن بعض الصوفيين يتجاوزون حدود المقبول؟ سأل القاضي ، ممسّداً لحيته.
     لم أعرف بماذا أجيبه على سؤاله.  لكننا سمعنا في تلك اللحظة، ولله الحمد، قرعاً على الباب.  دخل التلميذ الأحمر الشعر، وتقدم نحوي مباشرة، وهمس في أذني بأن زائراً يقف بالباب، وهو درويش جوّال يلحّ على رؤيتي، ويرفض أن يكلّم شخصاً آخر.
    كان من عادتي أن أطلب من التلميذ اصطحاب الزائر الجديد إلى غرفة هادئة للترحيب له، وتقديم طعام ساخن له، والانتظار حتى يغادر الزوار.  لكن أما وقد أشاع القاضي أجواء متوترة، فقد خطر لي أن الدرويش الجوّال قد يبدّد هذا التوتّر برواية قصص متعددة من أراض بعيدة.  لذلك طلبت من التلميذ إدخال الدرويش.
     بعد لحظات، فُتح الباب، ودخل رجل متشح بالسواد من قمة رأسه حتى أخمص قدميه.  كان ضامراً، نحيفاً يصعب تحديد عمره، له أنف مدبب، وعينان سوداوان غائرتان، وشعر أسود يتهدل فوق عينيه في ضفائر سميكة.  كان يرتدي عباءة طويلة ذات قلنسوة، وثوباً  صوفياً، وينتعل حذاء طويلاً من جلد الغنم، وكانت تتدلى من رقبته تعاويذ ورقى عدة.  وكان يحمل بيده زبدية خشبية من النوع الذي يحمله الدراويش المتسولون لتحطيم كبريائهم الشخصي، وزهوهم بأنفسهم عن طريق قبول صدقات الآخرين.  وأدركت أنني أمام رجل

لا يعير اهتماماً كبيراً للأحكام التي يطلقها المجتمع، فقد يظنه الناس متشرّداً أو متسولاً، وبدا أن ذلك لم يكن يزعجه على الإطلاق.
     عندما رأيته واقفاً هناك، ينتظر حتى يُسمح له بأن يقدّم نفسه، أحسست بأنه رجل مختلف.  كان ذلك جلياً في عينيه، في حركاته وإيماءاته الأنيقة، البادية على جسده.  كان أشبه بثمرة بلوط تبدو متواضعة ولا تعيرها العيون الجاهلة أي اهتمام، لكنها تبشّر بشجرة بلوط زاهية ستنمو في المستقبل، نظر إليّ بعينيه الثاقبتين السوداوين وهز رأسه بصمت.
     "أهلاً بك في تكيتنا أيها الدرويش"، قلت وأشرت له بأن يجلس على الوسادات قبالتي.
     بعد أن حيّا الدرويش الجميع، جلس، وراح يمعن النظر في الحاضرين في الغرفة، يتفحصهم بأدق التفاصيل.  وتوقفت نظرته أخيراً على القاضي.  رمق الرجلان أحدهما الآخر دقيقة كاملة، من دون أن ينبس أي منهما بكلمة، وتساءلتُ ماذا كان كل منهما يظن بالآخر، لأنهما ظهرا شخصين متناقضين.
     قدمت للدرويش حليب ماعز دافئ، وثمرات من التين المحلّى، وتمرات محشوة، رفضها جميعاً بأدب جم.  وعندما سألته عن اسمه، عرّف عن نفسه بالتبريزي، وقال إنه درويش جوّال يبحث عن الله في أرض الله الواسعة.
     "وهل وجدته؟"، سألته.
     غمر وجه الدرويش ظلّ عندما هزّ رأسه، وقال: "نعم، إنه معي طوال الوقت".

تدخّل القاضي بابتسامة متكلفة وقال: "لا يمكنني أن أفهم لماذا تعقّدون، أنتم معشر الدراويش الحياة بهذا الشكل.  وإذا كان الله معك طوال الوقت، فلماذا تبحث عنه؟".
أطرق شمس التبريزي رأسه مفكراً، ولبث صامتاً للحظة.  وعندما رفع رأسه ثانية،  كان وجهه هادئاً، وصوته متزناً، وقال: "مع أنه لا يمكن العثور عليه بالبحث عنه، فإن الذين يبحثون عنه هم فقط الذين يستطيعون إيجاده".
" يا له من تلاعب بالكلمات"، قال القاضي هازئاً، "هل تريد أن تقول لنا إننا لا نستطيع أن نجد الله إذا مكثنا في المكان نفسه طوال حياتنا؟  هذا هراء. فليس على المرء أن يلبس ثياباً رثة، ويجوب الطرقات مثلك!".
أعقبت ذلك موجة من الضحك لأن جميع الحاضرين كانوا حريصين على إبداء موافقتهم على آراء القاضي، ضحكات عالية النبرة، غير واثقة، تنبعث من أشخاص اعتادوا على تملّق من يعلونهم مرتبة.  شعرت بالضيق.  من الواضح أن فكرة الجمع بين القاضي والدرويش لم تكن فكرة جيدة.
فقال الدرويش: "لعلك أسأت فهمي.  فأنا لم أقصد القول إن المرء لا يستطيع أن يجد الله إذا مكث في مسقط رأسه.  فمن المؤكد أن هذا ممكن.  فهناك أناس لم يسافروا قط، ومع ذلك فقد رأوا العام".
"تماماً!"، قال القاضي، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة تشي بالانتصار، لكنها سرعان ما تلاشت عندما سمع ما قاله الدرويش بعد ذلك.

"ما قصدت قوله، أيها القاضي، هو أن المرء لا يستطيع أن يجد الله إذا ظل يرتدي معاطف فراء، وملابس حريرية، ومجوهرات غالية كالتي ترتديها اليوم".
     خيَّم صمت مرعب على الغرفة، وذابت الأصوات والتنهدات من حولنا واستحالت غباراً.  حبسنا جميعاً أنفاسنا، كأننا ننتظر حدوث شيء أعظم، صادم أكثر، لا أعرفه.
فقال القاضي: "إن لسانك سليط لا يليق بدرويش".
     "عندما أشعر بأنني يجب أن أقول شيئاً، فسأقوله حتى لو أمسكني العالم كله من رقبتي وطلب مني أن أسكت".
     عندما سمع القاضي ذلك، تجهّم وجهه، لكنه هزّ كتفيه باستخفاف، وقال: "كما تشاء. في جميع الأحوال، فأنت هو الرجل الذي نحتاج إليه.  كنا نتحدّث عن روعة مدينتنا.  لا بدّ أنك رأيت الكثير من الأماكن.  هل هناك مكان أجمل من بغداد؟".
     راح شمس ينقل نظراته من رجل إلى آخر بهدوء، ثم قال: "لا يجادل أحد في أن بغداد مدينة رائعة، لكن لا يوجد جمال على وجه الأرض يدوم إلى الأبد.  إذ إن المجن تنصب فوق أعمدة روحية، كالمرايا العملاقة، وهي تعكس قلوب سكّانها، فإذا أظلمت هذه القلوب، وفقدت إيمانها، فإنها ستفقد بريقها وبهاءها.  لقد حدث ذلك لمدن كثيرة، وهو يحدث دائماً".
     لم يكن بإمكاني أن أفعل شيئاً سوى أن أهزّ رأسي.  التفت شمس التبريزي نحوي، وشرد قليلاً بأفكاره، ورمش بعينيه بطريقة ودّية.  وقد أحسست بأنهما لاهبتان مثل شمس حارقة.  كان ذلك عندما اتضح لي

كيف أنه يستحق الاسم الذي يحمله بجدارة.  كان هذا الرجل يشعّ حماسة وحيوية، ويحترق في داخله مثل كرة من النار.  كان شمس هو "الشمس" حقاً.
     لكن كان رأي القاضي مختلفاً، فقد قال: "أنتم معشر الصوفيين تعقدّون الأمور كثيراً.  شأنكم شأن الفلاسفة والشعراء!  فما الحاجة إلى كل هذه الكلمات؟ إن البشر مخلوقات بسيطة ذات حاجات بسيطة.  ويقع على عاتق الزعماء تلبية احتياجاتهم والحرق على ألاّ يضلوا سواء السبيل.  وهذا يقتضي تطبيق الشريعة بحذافيرها".
     فقال شمس التبريزي: "إن الشريعة كالشمعة، توفر لنا نوراً لا يقدّر بثمن. لكن يجب ألاّ ننسى أن الشمعة تساعدنا على الانتقال من مكان إلى آخر في الظلام، وإذا نسينا إلى أين نحن ذاهبون، وركزنا على الشمعة، فما النفع من ذلك؟".
     ابتسم القاضي ابتسامة عريضة، وانكمش وجهه. سرت في جسدي موجة من القلق.  فالدخول في نقاش حول أهمية الشريعة مع رجل تكمن وظيفته في الحكم على الناس ومعاقبتهم في غالب الأحيان وفق الشريعة، سباحة في مياه خطيرة.  ألا يعرف شمس ذلك؟
     وبينما كنت أبحث عن عذر ملائم لأُخرج الدرويش من الغرفة، سمعته يقول: "توجد قاعدة تنطبق على هذه الحالة".
     اعتدل شمس التبريزي في وقفته، وعيناه ثابتتان كما لو أنه كان يقرأ من كتاب غير مرئي، وقال:
     "إن كلّ قارئ للقرآن الكريم يفهمه بمستوى مختلف بحسب عمق

فهمه.  وهناك أربعة مستويات من البصيرة: يتمثل المستوى الأول في المعنى الخارجي، وهو المعنى الذي يقتنع به معظم الناس، ثم يأتي المستوى الباطني. وفي المستوى الثالث، يأتي باطن الباطن، أما المستوى الرابع، فهو العمق ولا يمكن الإعراب عنه بالكلمات، لذلك يتعذر وصفه".
          وبعينين متألقتين تابع شمس قوله: "أما العلماء الذين يركّزون على الشريعة فهم يعرفون المعنى الخارجي، في حين يعرف الصوفيون المعنى الباطني.  أما الأولياء فهم الذين يعرفون باطن الباطن.  بينما لا يعرف المستوى الرابع إلا الأنبياء والأولياء الصالحون والمقربون من الله".
          "هل تقصد أن الصوفي العادي يفهم القرآن أكثر مما يفهمه عالم الشريعة؟"، سأل القاضي وهو ينقر بأصابعه على الزبدية.
          ارتسمت ابتسامة خفيفة تهكمية على فم الدرويش، لكنه لم يحر جواباً.
          "انتبه، يا صديقي"، قال القاضي، "يوجد خطّ رفيع بين ما تقوله وبين الكفر المحض".
          إن كان في هذه الكلمات تهديد مبطن، فإن الدرويش يبدو أنه لم ينتبه إليها، وسأل: "ما هو الكفر المحض على وجه التحديد؟"، وبعد أن أخذ نفساً عميقاً أضاف: "دعني أحكي لك قصّة".
          وفي ما يلي القصة التي حكاها لنا:
          في أحد الأيام، كان موسى يسير في الجبال وحيداً عندما رأى من بعيد راعياً.  كان الرجل جاثياً على ركبتيه، ويداه ممدودتين نحو


السماء، يصلّي.  غمرت موسى السعادة.  لكنه عندما اقترب منه، دهش عندما سمع الراعي يصلّي.
          "يا إلهي الحبيب، إني أحبّك أكثر مما قد تعرف.  سأفعل أيّ شيء من أجلك، فقط قل لي ماذا تريد.  حتى لو طلبت مني أن أذبح من أجلك أسمن خروف في قطيعي، فلن أتردد في عمل ذلك.  أشويهِ، وأضع دهن إليته في الرزّ ليصبح لذيذ الطعم".
          اقترب موسى من الراعي، لينصت إليه أكثر.
          "ثم سأغسل قدميك وأنظّف أذنيك وأفلِّيك من القمل.  هذا هو مقدار محبتي لك".
          عندما سمع موسى ذلك، صاح مقاطعاً الراعي وقال: "توقّف، أيها الرجل الجاهل! ماذا تظن نفسك فاعلاً؟  هل تظن أن الله يأكل الرزّ؟  هل تظن أن الله قدمين لكي تغسلهما؟ هذه ليست صلاو. هذا كفر محض".
          كرر الراعي الذي أحسّ بالذهول والخجل اعتذاره، ووعده بأن يصلي كما يصلي الأتقياء.  فعلّمه موسى الصلاة في عصر ذلك اليوم.  ثمّ مضى في طريقه، راضياً عن نفسه كلّ الرضا.
          لكن في تلك الليلة، سمع موسى صوتاً  كان صوت الله.
          "ماذا فعلت يا موسى؟  لقد أنّبت ذلك الراعي المسكين، ولم تدرك معزّتي له.  لعله لم يكن يصلي بالطريقة الصحيحة، لكنه مخلص في ما يقوله.  إن قلبه صاف، ونياته طيبة.  إني راض عنه.  قد تكون كلماته لأذنيك بمثابة كفر، لكنها كانت، بالنسبة لي، كفراً حلواً".
          فهم موسى خطأه في الحال.  وفي الصباح الباكر من اليوم التالي،

عاد إلى الجبال ليبحث عن الراعي، فوجده يصلّي، لكنه، في هذه المرة، كان يصلّي له بالطريقة التي علّمه إياها.  ولكي يؤدي صلاته بشكل صحيح، كان يتلعثم، وكان يفتقد إلى الحماسة والعاطفة كما كان يفعل سابقاً.  نادماً على ما فعله له، ربّت موسى على ظهر الراعي وقال: "يا صديقي، لقد أخطأت.  أرجو أن تغفر لي.  أرجو أن تصلّي كما كنت تصلّي من قبل، فقد كانت صلاتك ثمينة ونفيسة في عيني الله".
تملكت الراعي الدهشة عندما سمع ذلك، لكن إحساسه بالارتياح كان أعمق.  بيد أنه لم يشأ العودة إلى صلاته القديمة.  ولم يلتزم بالصلاة الرسمية التي علّمه إياها موسى.  فقد اكتشف طريقة جديدة الآن يتواصل بها مع الله.  وبالرغم من أنه كان راضياً وسعيداً بإيمانه الساذج، فقد تجاوز الآن تلك المرحلة – ما بعد كفره الحلو.
اختتم شمس قصته قائلاً: "فكما ترى، لا تحكم على الطريقة التي يتواصل بها الناس مع الله، فلكلّ امرئ طريقته وصلاته الخاصة.  إن الله لا يأخذنا بكلمتنا، بل ينظر في أعماق قلوبنا.  وليست المناسك أو الطقوس هي التي تجعلنا مؤمنين، بل إن كانت قلوبنا صافية أم لا".
تمعنت في وجه القاضي.  رأيت تحت قناعه المتسم بالثقة والهدوء المطلقين انزعاجاً شديداً.  ولمّا كان رجلاً فطناً، فقد أحسّ بأنه في وضع صعب ودقيق.  لو ردّ على قصّة شمس التبريزي، سيتعين عليه أن يتخذ الخطوة التالية ويعاقبه على وقاحته، وفي هذه الحالة، لأصبحت الأمور خطيرة، وسمع الجميع أن درويشاً بسيطاً تجاسر

على مواجهة كبير القضاة.  لذلك آثر أن يتظاهر بأن شيئاً لم يزعجه ويترك الأمر.
في الخارج، كانت الشمس تميل نحو الغروب، ولوّنت السماء بظلال قرمزية، تتخللها بين الحين والآخر غيوم رمادية داكنة.  وبعد قليل، استوى القاضي واقفاً، وقال إن لديه أعمالاً مهمة يجب أن ينجزها.
          بعد أن أومأ لي إيماءة طفيفة، ورمق شمس التبريزي بنظرة باردة، خرج وتبعه رجاله من دون أن ينبس ببنت شفة.
          "أظن أن القاضي لم يحبّك كثيراً"، قلت له بعد أن غادر الجميع.
          أبعد شمس التبريزي شعره عن وجهه، وقال مبتسماً: "لا يهم. فأنا معتاد على الأشخاص الذين لا يكنّون لي حباً".
          اعتراني شعور بالإثارة.  ولما كنت المسؤول عن هذه التكية منذ فترة طويلة، فإني أعرف أنه لا يزورنا في هذه التكية زائر كهذا كثيراً.
          قلت له: "قل لي أيها الدرويش، ما الذي أتى بشخص مثلك إلى بغداد؟".
          كنت متلهفاً لسماع ردّه، لكني شعرت أيضاً بالخشية منه على نحو غريب.




إيلا


نورثامبتون، 20 أيار (مايو) 2008
          في الليلة التي لم يعد فيها زوجها إلى البيت، رأت إيلا في منامها راقصات شرقيات يرقصن، ودراويش يدورون حول أنفسهم، بينما كان عدد من المحاربين الأشداء يتناولون طعامهم في أحد الخانات على الطريق، وأطباقهم مليئة بالفطائر والحلويات اللذيذة.
          ثمّ رأت نفسها وهي تبحث عن شخص في سوق يعجّ بالحركة والحيوية في إحدى القلاع في بلد أجنبي، يتحرك الأشخاص حولها ببطء، وكأنهم يرقصون على نغمات لحن لا تسمعه.  أوقفت رجلاً بديناً ذا شاربين معقوفين إلى الأسفل لتسأله عن شيء، لكنها لم تتذكر ماذا سألته.  نظر إليها الرجل ساهماً، وسار بعيداً.  حاولت أن تتكلم مع عدد من الباعة وروّاد السوق، لكن أحداً لم يرد عليها.  في البداية، خيّل إليها أن ذلك لأنها لم تكن تتكلّم بلغتهم.  ثمّ وضعت يدها على فمها، وأدركت بفزع أن لسانها مقطوع، وبفزع أشدّ راحت تتطلع حولها تبحث عن مرآة لترى صورتها فيها، لتتأكد من أنها لا تزال هي نفسها، على الرغم من عدم وجود مرآة في السوق.  بدأت تبكي

واستيقظت على صوت مزعج، وهي لا تعرف هل لا يزال لها لسان أم لا.
          عندما فتحت إيلا عينيها، وجدت "سبيريت" يخدش الباب الخلفي بشكل مسعور.  لعل حيواناً ما قد دخل إلى الشرفة، مما جعل الكلب ينبح بجنون.  إذ كانت الظرابين تجعله في حالة توتر شديدة.  ولا يزال عراكه مع أحد الظرابين في الشتاء الماضي ماثلاً في مخيلته.  ولم تتمكن إيلا من إزالة تلك الرائحة الكريهة من الكلب إلا بعد أسابيع عدة.  ومع أنها غمرته في أحواض مليئة بعصير البندورة (الطماطم)، لم تفارقه الرائحة التي تشبه رائحة مطاط محروق.
          نظرت إيلا إلى الساعة المعلّقة على الجدار.  كانت الساعة الثالثة إلا ربعاً صباحاً.  لم يكن ديفيد قد عاد، ولعله لن يعود أبداً، ولم تردّ جانيت على مكالمتها، وفي حالتها المتشائمة، لم تكن إيلا متأكدة من أنها ستردّ عليها.  تملكها رعب من أن زوجها وابنتها هجراها.  فتحت الثلاجة ونظرت فيها بضع دقائق.  وحذّرتها الرغبة من تناول كمية قليلة من بوظة فانيلا الكرز وكي لا يزداد وزنها، إذا لم تبذل قليلاً من الجهد، فابتعدت عن الثلاجة وصفقت بابها صفقة أقوى بقليل مما يلزم.
          ثمّ فتحت إيلا قنينة نبيذ أحمر، وصبّت منها كأساً لنفسها.  كان نبيذاً جيداً، خفيفاً ومنعشاً، فيه لذعة من المرارة والحلاوة التي كانت تحبها.  وبينما كانت تملأ كأسها الثانية، خطر لها أنها ربما تكون قد فتحت إحدى قناني نبيذ البوردو الغالية التي يجلبها ديفيد.  قرأت الملصق على القنينة – شاتو مارغو 1996. لم تعرف ماذا تصنع حيال ذلك، فرمقت القنينة بتجهم.


          كانت مرهقة وتشعر بالنعاس، ولم يعد بإمكانها قراءة.  لذلك قرّرت أن تقرأ بريدها الإلكتروني، "توجد ست رسائل إلكترونية عديمة القيمة، ورسالة من ميشيل تسألها كيف تسير أمورها بشأن المخطوط، ووجدت رسالة إلكترونية موجهة من عزيز ز. زاهارا.
العزيزة إيلا (إذا كان يحق لي أن أقول ذلك)،
قرأت رسالتك الإلكترونية وأنا في قرية من قرى غواتيمالا تدعى  موموستينانغو.  وهي أحد الأماكن القليلة المتبقية التي لا يزال يستخدم سكانها تقويم شعب المايا.  وقبالة الفندق الذي أمكث فيه، تنتصب شجرة أمنيات مزخرفة بمئات من قصاصات الأقمشة من جميع الألوان والأشكال التي يمكنك تخيّلها.  وهم يطلقون عليها "شجرة أصحاب القلوب الكسيرة".  والناس يكتبون أسماءهم على قصاصات من الورق، ويربطونها بأغصان الشجرة، ويتضرعون إلى الله من أجل شفاء قلوبهم المحطمة.
أرجو ألاّ تجدي قولي هذا نوعاً من الوقاحة، لكن بعد أن قرأت رسالتك الإلكترونية توجهت إلى شجرة الأماني وصلّيت من أجلك حتى تتوصلي إلى حلّ لسوء التفاهم بينك وبين ابنتك.  فحتى ذرة من الحبّ يجب أن تحظى بالتقدير، لأن الحبّ، كما قال الرومي، هو ماء الحياة.
ودعيني أقول لك إن أحد الأمور التي ساعدتني شخصياً في الماضي على الكفّ عن التدخّل في شؤون الآخرين من حولي، هو عندما كنت أشعر بالإحباط بأنني لن أتمكن من تغييرهم.  فبدلاً من التطفل أو السلبية، هل يمكنني أن أقترح الإذعان.

يخطئ  البعض عندما يخلطون بين "الإذعان" و "الضعف".  فالإذعان شكل من أشكال القبول السلمي بشروط الكون، ومن بينها الأمور التي لا نستطيع تغييرها أو فهمها حالياً.
وبحسب تقويم شعب المايا، فإن اليوم يعتبر يوماً ميموناً.  سيحدث فيه تغيير فلكي رئيسي، يبشر بوعي إنساني جديد.  يجب أن أسرع بإرسال هذه الرسالة الإلكترونية إليك قبل غروب الشمس وانتهاء النهار.
أرجو أن يجدك الحبّ عندما لا تتوقعينه.
                                                                         المخلص
                                                                           عزيز
أغلقت إيلا حاسوبها المحمول، وقد غمرها شعور بالسعادة عندما علمت أن شخصاً غريباً يمكث في بقعة بعيدة في العالم يصلّي من أجلها ومن أجل سعادتها.  أغمضت عينيها وتخيّلت اسمها مكتوباً على قصاصة ورق تتدلى من غصن شجرة الأمنيات مثل طائرة ورقية تسبح في الهواء، حرة وسعيدة.
وبعد دقائق قليلة، فتحت باب المطبخ وخرجت إلى الفناء الخلفي، لتستمتع ببرودة الهواء العليل، وإلى جانبها وقف "سبيريت، مضطرباً وهو ينبح. صغرت عينا الكلب، ثمّ أصبحنا كبيرتين وقلقتين، وشنّف أذنيه، كأنه أدرك شيئاً مخيفاً من بعيد.  وقفت إيلا وكلبها بجانب بعضهما بعضاً، تحت قمر أواخر الربيع، يحدّقان في الظلام الكثيف الرحب، خائفين من الأشياء التي تتحرّك في الظلام، خائفين من المجهول.






التلميذ


بغداد، نيسان (أبريل) 1242
          بكثير من الانحناءات، أوصلتُ القاضي إلى الباب، وعدت بسرعة إلى الغرفة الرئيسية لأجمع الصحون الوسخة.  لكني فوجئت برؤية بابا زمان والدرويش كما تركتهما صامتين، لا ينبس أحدهما بكلمة. وبطرف عيني ، رحت أراقبهما، متسائلاً هل يمكن أن يتحادث اثنان من دون أن ينبسا ببنت شفة.  رحت أتحرك ببطء، أرتّب المساند، أنظف الغرفة، ألتقط الفتات من على السجادة، ثم شعرت بأنه لم يعد هناك سبب يجعلني أبقى.
بتراخ وبتباطؤ، جررت قدميّ عائداً إلى المطبخ.  وما إن رآني الطاهي، حتى بدأ ينهال عليّ بأوامره: "نظّف الطاولة، نظّف الأرضية! اغسل الصحون! افرك الموقد والجدران حول المشواة.  وعندما تنهي ذلك، لا تنس أن تتفحص مصائد الفئران".  إذ إن الطاهي يعاملني معاملة سيئة منذ أن وطأت قدماي هذه التكية منذ حوالي ستة أشهر.  وكان يرغمني كلّ يوم على العمل مثل الكلب، وقال إن تعذيبي بهذه الطريقة جزء من التدريب الروحي، وكأن غسل الصحون




المكسوة بطبقة من الدهون تدريب روحي.
          كان الطاهي رجلاً قليل الكلام، ولم يكن يكفّ عن ترديد عبارته المفضّلة التالية: "التنظيف صلاة، والصلاة تنظيف".
          "لو صح ذلك، لأضحت جميع ربّات البيوت في بغداد من السادة الروحيين"، قلت له بجرأة ذات مرة.
          فرماني بالملعقة فأصابتني في رأسي، وهو يصرخ بأعلى صوته: "إن الرد على ما أقوله لا يجديك نفعاً يا بني.  فإذا أردت أن تصبح درويشاً، يجب أن تصمت مثل هذه الملعقة الخشبية.  إن العناء والتمرد ليسا من صفات التلميذ الجيدة.  كلما قل كلامك، نضجت بسرعة أكبر".
          كنت أكره الطاهي، لكن الأهم من ذلك أنني كنت أخشاه.  لم أرفض أوامره قط.  كان ذلك حتى المساء.
          ما إن أدار الطاهي ظهره، حتى تسللت وخرجت من المطبخ وعدت أدراجي على أطراف أصابعي إلى الغرفة الرئيسية، متلهفاً بمعرفة المزيد عن هذا الدرويش الجوّال.  من هو؟ ماذا يفعل هنا؟ فهو لا يشبه الدراويش الآخرين في التكية.  كانت عيناه تبدوان قاسيتين وجامحتين، وحتى عندما كان يحني رأسه تواضعاً.  كان فيه شيء غير عادي، لا يمكن التنبؤ به.  شيء يكاد يكون مخيفاً.
استرقت النظر عبر شقّ في الباب.  في البداية، لم أتمكن من رؤية شيء، لكن سرعان ما تأقلمت عيناي مع شبه العتمة داخل الغرفة، وتبيّنت وجهيهما.
سمعت السيد يسأله: "أخبرني، يا شمس التبريزي، ما الذي أتى بشخص مثلك إلى بغداد؟  هل رأيت هذا المكان في أحد أحلامك؟".



هزّ الدرويش رأسه وقال: "لا، إن ما جاء بي إلى بغداد لم يكن حلماً، بل رؤية.  فأنا لا أرى أحلاماً".
"الجميع يرون أحلاماً"، قال بابا زمان، بلطف، "ولعلك لا تتذكّرها دائماً.  لكن هذا لا يعني أنك لا تحلم".
فقال الدرويش بإصرار: "لكني لا أرى أحلاماً.  إن هذا جزء من عهد بيني وبين الله.  فعندما كنت صغيراً، كنت أرى الملائكة وأسرار الكون تتراءى أمام عينيّ.  وعندما أخبرت والديّ بذلك، انزعجا وطلبا مني أن أتوقف عن الأحلام.  وعندما أخبرت أصدقائي، قالوا أيضاً إنني حالم يائس.  حاولت أن أخبر أساتذتي، لكن ردّهم لم يكن مختلفاً.  وأخيراً أدركت أنه عندما يسمع الناس شيئاً غير عادي، فهم يسمونه حلماً.  لذلك بدأت أكره الكلمة وكلّ ما تعبّر عنه".
ثمّ توقف الدرويش عن الكلام كما لو أنه سمع صوتاً ما فجأة، ثمّ حدث أمر غريب.  إذ استوى واقفاً، وسار بتؤدة وبتأنٍ نحو الباب، وهو ينظر باتجاهي.  بدا وكأنه يعرف أنني أتلصص عليهما.
لقد بدا كأنه يستطيع أن يرى من خلال الباب الخشبي.
بدأ قلبي يخفق بجنون.  أردت أن أجري وأعود إلى المطبخ لكني لم أعرف كيف أفعل ذلك.  فقد تجمّدت ذراعاي، وساقاي، وجسمي كله.  ومن وراء الباب وعبره، كانت عينا شمس التبريزي الداكنتان مسمّرتين عليّ.
استولى عليّ رعب شديد، وأحسست بطاقة هائلة تسري في جسدي.  اقترب، ووضع يده على مقبض الباب، لكن عندما خيّل إليّ أنه سيفتح الباب ويمسك بي، توقّف.  لم أر وجهه من هذه المسافة



القريبة، ولم أعرف ما الذي غيّر رأيه.  انتظرنا دقيقتين طويلتين على نحو لا يطاق.  ثمّ أدار ظهره، وعندما ابتعد عن الباب، تابع رواية قصّته:
          "عندما كبرت قليلاً، طلبت من الله أن يحرمني من رؤية الأحلام، لكي أعرف، كلّما صادفته، بأنني لا أحلم.  ووافقني على ذلك.  فأبعد عني الأحلام، وهكذا فلم أعد أرى أحلاماً".
          وقف شمس التبريزي بجانب النوافذ المشرعة عبر الغرفة.  كان رذاذ خفيف يهمي، وكان يراقبه مستغرقاً في التفكير، قبل أن يقول : "لقد أخذ الله قدرتي على الحلم.  لكن، عوضني عن ذلك بأن منحني القدرة على تفسير أحلام الآخرين.  فأنا مفسّر أحلام".
          توقّعت ألاّ يصدق بابا زمان هذا الهراء، وأن يوبّخه، كما دأب على توبيخي.
          لكن السيد هزّ رأسه باحترام وقال: "يبدو أنك شخص غير عادي.  قل لي، كيف لي أن أخدمك؟".
          " لا أعرف.  في الواقع، كنت آمل أن تتمكن أنت من إخباري كيف يمكنك أن تساعدني".
          "ماذا تقصد؟"، سأل السيّد، وقد ارتسمت على وجهه أمارات الحيرة.
          "إني درويش أطوف البلاد منذ حوالي أربعين عاماً.  وإني أجيد أساليب الطبيعة، مع أن أساليب المجتمع لا تزال غريبة عني.  وإذا دعت الضرورة، يمكنني أن أقاتل بشراسة حيوان برئ، لكني لا أستطيع إيذاء أحد. أستطيع أن أعدّد أسماء الأبراج في السماء، وأميّز




الأشجار في الغابات، وأقرأ مثل كتاب مفتوح أنواع الناس الذين خلقهم الله على صورته".
توقّف شمس قليلاً، وانتظر حتى أشعل السيد فانوساً، ثمّ واصل كلامه، "تقول إحدى القواعد إنه يمكنك أن تدرس الله من خلال كلّ شيء وكلّ شخص في هذا الكون، لأن وجود الله لا ينحصر في المسجد، أو الكنيسة أو في الكنيس.  لكنك  إذا كنت لا تزال تريد أن تعرف أين يقع عرشه بالتحديد، يوجد مكان واحد فقط تستطيع أن تبحث فيه عنه، وهو قلب عاشق حقيقي.  فلم يعش أحد بعد رؤيته، ولم يمت أحد بعد رؤيته.  فمن يجده يبقى معه إلى الأبد".
في ذلك الضوء الخافت، المرتعش، بدا شمس التبريزي أطول قامة، وقد انسدل شعره على كتفيه في موجات غير مرتّبة.
"لكن المعرفة أشبه بماء قليل الملوحة في شعر مزهرية قديمة، إذا لم يتدفّق في مكان ما.  ومنذ سنوات، فإني أطلب من الله أن يأتيني برفيق أشاطره المعرفة التي جمعتها في داخلي.  وأخيراً، سمعت في الرؤية التي أتتني عندما كنت في سمرقند، بأنني يجب أن آتي إلى بغداد ليتحقق قَدَري.  إني أعرف أنك تعرف اسم رفيقي، وأين يوجد، وأعرف أنك ستخبرني، إن لم يكن الآن، ففي وقت لاحق".
في الخارج، بدأ الليل يرخي سدوله، وتسلل شعاع من أشعة ضوء القمر من خلال النوافذ المفتوحة.  أدركت أن الوقت قد أصبح متأخراً.  لا بد أن الطاهي يبحث عني، لكني لم أعبأ بذلك.  ولمرة واحدة، شعرت بالسعادة لأنني خرقت القواعد.
"لا أعرف ما نوع الردود التي تطلبها مني"، غمغم السيّد، "لكن لو


كانت هناك أي معلومات كتب عليّ أن أكشفها، فأنا أعرف أن ذلك سيحدث في الوقت المناسب.  وحتى ذلك الحين، يمكنك أن تمكث معنا.  فكن ضيفنا".
          عندما سمع الدرويش الجوّال ذلك، انحنى بتواضع وامتنان ليقبّل يد بابا زمان.  وفي تلك اللحظة سأل السيّد سؤالاً غريباً: "قلت إنك مستعدّ لتقدّم كل ما تعرفه إلى شخص آخر.  تريد أن تقبض على الحقيقة في راحة يدك كما لو كانت لؤلؤة ثمينة وتقدمها إلى شخص معيّن.  إلا أن أفتح قلب شخص لكي يستقبل النور الروحي ليس بالمهمّة اليسيرة على أي إنسان.  إنك تسرق رعد الله.  وما هو الشيء الذي تستطيع تسديده لقاء ذلك؟".
          لن أنسى ما حييت جواب الدرويش آنذاك.  فقد رفع حاجبيه، وقال بحزم: "إني مستعد لتقديم رأسي".
          أجفلت، وسرت رعدة باردة أسفل عمودي الفقري.  عندما عدت ووضعت عيني على شقّ الباب، لاحظت أن السيّد قد فوجئ بالجواب أيضاً.
          "لعلنا تحدثنا اليوم بما يكفي"، وانطلقت من فم بابا زمان تنهيدة، وأضاف: "لا بد أنك متعب.  دعني أنادي التلميذ الشاب، ليريك الطريق إلى فراشك، ويقدم لك ملاءات نظيفة وكوباً من الحليب".
          استدار شمس التبريزي نحو الباب، وخالجني إحساس عميق بأنه عاد يحدّق بي.  بدا كأنه نظراته تخترق الباب وهو ينظر إليّ، يدقق في تجاويف روحي وقممها، يفتّش عن الأسرار التي خفيت حتى عني.  لعله يمارس السحر الأسود، أو أنه تدرّب على أيدي هاروت


وماروت، الملاكان البابليان اللذان حذّرنا القرآن منهما، أو أنه يمتلك مواهب خارقة تمكّنه من الرؤية عبر الأبواب والجدران، ومهما كان الأمر فقد أثار الذعر في نفسي.
          "لا داعي لمناداة التلميذ"، قال، وأخذت نبرة صوته تعلو: "أشعر بأنه في مكان قريب وقد سمعنا".
          أطلقت شهقة عالية ربما أيقظت الموتى في قبورهم.  وفي رعب تام وثبت ووقفت على قدمي، وركضت نحو الحديقة، أبحث عن ملاذ في الظلام، لكن مفاجأة غير سارة كانت تنتظرني هناك.
          "إذاً أنت هناك أيها الوغد الصغير"، صاح الطاهي وجرى نحوي ملوحاً بمكنسة في يده: "إنك في ورطة كبيرة يا بني، في مشكلة كبيرة".
          وثبت جانباً، وتمكنت من تفادي المكنسة في آخر لحظة.
          "تعال إلى هنا وإلا كسرت ساقيك"، صاح الطاهي، لاهثاً.
          يكني لم آت، بل اندفعت خارجاً من الحديقة بسرعة السهم.  وبينما شعّ وجه شمس التبريزي أمام عينيّ، رحت أجري وأجري على طول الدرب المتعرّج الذي يصل التكية بالطريق الرئيسي، وحتى بعد أن ابتعدت كثيراً، لم أتوقف عن الجري.  كان قلبي يخفق بشدة، وقد جفّ حلقي، وظللت أجري حتى أحسست بوهن في ركبتيّ ولم أعد أقوى على الجري.







إيلا


نورثامبتون، 21 أيار (مايو) 2008
          عاد ديفيد، الذي كان مهيأ للشجار، إلى البيت في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، لكنه وجد إيلا تغلط في النوم في سريرها، ومخطوط رواية "الكفر الحلو" يرقد على حضنها، وكأن نبيذ فارغ يقبع إلى جانبها.  سار نحوها ليسحب بطانيتها الصغيرة وتأكّد من أنها مغطاة بشكل مريح، لكنه سرعان ما غيّر رأيه.
          استيقظت إيلا بعد عشر دقائق.  لم تفاجأ عندما سمعته وهو يأخذ دوشاً في الحمّام.  فعلى الرغم من أنه يغازل نساء أخريات، بل كان من الواضح أنه يمضي الليل معهن، فلم يكن يستحمّ إلا في حمّام بيته.  عندما أنهى ديفيد الحمّام، وعاد إلى الغرفة، تظاهرت إيلا بالنوم، لتجنّبه تفسير سبب غيابه.
          بعد أقل من ساعة، غادر زوجها وطفلاها، فجلست إيلا وحدها في المطبخ.  بدا أن الحياة قد عادت إلى مسارها المعتاد.  فتحت إيلا كتاب الطهو الذي تفضله "كيف تجعل فن الطهو سهلاً وممتعاً"، وبعد أن درست عدّة خيارات، اختارت طبقاً تحضيره


صعب بعض الشيء لكي يشغلها فترة بعد الظهر كلها:
          شوربة الصدف مع الزعفران، جوز الهند، وباستا البرتقال المخبوز بالفطر، وأعشاب طازجة، وجبن روزماري، وضلوع لحم العجل الرقيقة المنقوعة بالخلّ، وفاصولياء خضراء منقوعة بالثوم والليمون، وسلطة القنبيط.  ثمّ أخذت قرارها بشأن الحلوى: كيك الشوكولاته.
          توجد أسباب عدة جعلت إيلا تحبّ الطهو.  إذ لم يكن إعداد وجبة طعام لذيذة مصنوعة من مواد عادية يثلج صدرها ويسعدها فقط، بل كان كذلك يدخل سعادة حسّية غريبة إلى نفسها.  والأهم من ذلك، أنها كانت تستمتع بالطهو، لأنها تحبه وتجيده إجادة تامة، كما أنه يريح أعصابها.  وكان المطبخ في حياتها المكان الوحيد الذي يمكنها أن تتحاشى فيه العالم الخارجي كله، والذي كان يوقف جريان الزمن في داخلها.  قالت لنفسها قد يكون للجنس نفس التأثير على بعض الأشخاص، لكنه دائماً يحتاج إلى شخصين، أما الطهو، فكل ما يحتاجه المرء هو الوقت والاهتمام، وشراء مجموعة من مواد البقالة.
          إن الأشخاص الذي يقدمون برامج الطهو في التلفزيون يوحون بأن الطهو ينطوي على الإلهام والأصالة والإبداع.  وكانت كلمتهم المفضّلة "التجريب".  لكن إيلا لم تكن توافق على ذلك.  فلماذا لا يُترك "التجريب" للعلماء ونزوات الفنانين! إن الطهو يتعلق بتعلّم الأساسيات، باتباع التعليمات، ومراعاة حكمة العصور.  وكلّ ما يتعين عليك عمله هو اتباع التقاليد العريقة واستخدامها، لا تجريبها.  إذ إن مهارات الطهو مستمدة من العادات والتقاليد، مع أن العصر الحديث



قلّل من شأن هذه الأشياء، لكن لا ضير في أن يكون المرء تقليدياً في المطبخ.
          كما طوّرت إيلا عملها الروتيني اليومي.  ففي صباح كلّ يوم، وفي الوقت نفسه تقريباً، يتناول أفراد الأسرة طعام الفطور، وفي عطلة نهاية الأسبوع يذهبون إلى مركز التسوّق نفسه، وفي أول يوم أحد من كلّ شهر، يدعون جيرانهم إلى العشاء.  ولمّا كان ديفيد مشغولاً في عمله، ولا وقت لديه، كانت مسؤولية البيت تقع على كاهل إيلا: إدارة البيت المالية ورعايته، وإعادة تنجيد الأثاث، والذهاب إلى السوق وتلبية احتياجات البيت، وترتيب جداول الأطفال ومساعدتهم في واجباتهم المدرسية، وما إلى ذلك.  وفي أيام الخميس، كانت تذهب إلى "نادي مزج الطهو"، حيث تقوم أعضاء النادي يمزج الأطباق والأطعمة من مختلف البلدان، وتجديد الوصفات القديمة بتوابل ومكونات جديدة.  وفي كلّ يوم جمعة، كانت تمضي بضع ساعات في سوق المزارعين، تتحدث مع المزارعين عن محاصيلهم، وتتفحّص مرطبان مربّى الخوخ العضوي المنخفض السكّر، أو تشرح لمتسوقة أخرى أفضل طريقة لطهو فطر بورتابيلا الصغير الحجم.  وكانت تشتري من سلسلة محلات "سوق الأطعمة الكاملة" كل ما لا تجده وهي في طريقها إلى البيت.
          وفي مساء أيام السبت، كان ديفيد يصطحب إيلا إلى مطعم (عادة ما يكون تايلاندياً أو يابانياً)، وإذا لم يكونا متعبين أو ثملين، أو إذا كانا في مزاج جيد عندما يعودان إلى البيت، كانا يمارسان الجنس.  قبلات قصيرة سريعة، وحركات رقيقة تنضح بشعور من العطف أكثر من



الحبّ.  فقد انطفأت جذوة الجنس فيهما منذ فترة طويلة.  وكانت تمر أحياناً أسابيع من دون أن يمارسا الجنس.  والغريب أن إيلا كانت تعتبر الجنس أمراً له أعمية كبيرة في حياتها، لكنها أحسّت الآن، بعد أن خفت بريقه، بالارتياح، وشعرت بأنها تكاد تكون قد تحرّرت.  وبشكل عام، كانت تشعر بالرضا عن فكرة أن زوجاً وزوجة مضى على زواجهما فترة طويلة، بدآ يفقدان شيئاً فشيئاً الجاذبية الطبيعية، ليحل محلها أسلوب ارتباط وعلاقة أكثر ثقة واستقراراً.
          لكن المشكلة الوحيدة التي أن ديفيد لم يهجر الجنس بقدر ما هجره مع زوجته التي لم تواجه مباشرة في أمر علاقاته الغرامية، بل إنها لم تلمّح له عن شكوكها.  وبما أن أحداً من أصدقائهما المقرّبين لم يكن يعرف ما يدور بينهما، فقد سهّل ذلك الأمر عليها للتظاهر بالجهل.  ولم تكن هناك فضائح، ولا مصادفات محرجة، لا شيء يجعل الألسنة تتكلم.  ولم تعرف كيف كان يتدبر زوجها أمره، بسبب عدد علاقاته مع النساء الأخريات، وخاصة مع مساعداته الشابات، لكنه كان يعالج الأمر بهدوء وحنكة.  بيد أن للخيانة رائحة.  وبهذه الطريقة كانت إيلا تعرف أشياء كثيرة.
          وإن حدثت سلسلة من الأحداث، فلم يكن بوسع إيلا أن تعرف أيّها يأتي أولاً، وما الذي يأتي لاحقاً.  فهل سبب فقدانها اهتماما بالجنس هو خيانة زوجها؟  أم العكس؟ فهل خانها ديفيد أولاً، ثمّ أهملت هي جسدها وفقدت رغبتها الجنسية؟
          وفي كلتا الحالتين، ظل الأمر على حاله: فلم يعد الوهج موجوداً بينهما، النور الذي ساعدهما على الإبحار في مياه الزواج المجهولة،



والإبقاء على رغبتيهما عائمتين، حتى بعد إنجابهما ثلاثة أطفال ومضي عشرين سنة.
          وخلال الساعات الثلاث التالية، كانت الأفكار تحتدم في عقلها، بينما كانت يداها قلقتين.  قطّعت البندورة شرائح، وهرست الثوم، وقلت البصل، وأعدت الصلصة، وبرشت قشور البرتقال، وعجنت عجينة لخبز رغيف من الخبز المصنوع من الحنطة، بحسب النصيحة الذهبية التي قدمتها لها والدة ديفيد عندما كانا مخطوبين.
          "ما من شيء يذكّر الرجل بيته مثل رائحة خبز مخبوز طازج"، قالت ذات يوم، "لا تشتري خبزك مطلقاً.  اخبزيه بنفسك يا عزيزتي.  سيكون له فعل العجائب".
          عملت إيلا فترة بعد الظهر كلها، وأعدّت مائدة رائعة وضعت عليها مناديل متطابقة، وشموعاً معطرة، وباقة من الأزهار الصفر والبرتقالية البراقة بحيث بدت اصطناعية تقريباً.  وكلمسة نهائية، أضافت حلقات من المناديل البرّاقة.  وعندما انتهت، كانت المائدة تشبه الموائد التي ترى في مجلات البيوت الأنيقة.
          كانت متعبة لكنها كانت راضية، فتحت التلفزيون في المطبخ على الأخبار المحلية:  طعن اختصاصية معالجة شابة في شقّتها، وتسبب مسّ كهربائي في إشعال حريق في أحد المستشفيات، وإلقاء  القبض على أربعة طلاب ثانوية بتهمة تخريب متعمد للممتلكات.  شاهدت الأخبار، وهزّت رأسها إزاء الأخطار اللانهائية التي تلوح في العالم.  كيف يمكن أن يجد أشخاص مثل عزيز ز. زاهارا الرغبة والشجاعة في السفر إلى أصقاع أقلّ تقدماً على سطح الكرة الأرضية، في وقت لم تعد فيه الضواحي في أمريكا آمنة؟


وجدت إيلا أن ما يثير الحيرة هو كيف أن عالماً غامضاً لا يمكن التنبؤ به يمكن أن يعيد الناس إلى بيوتهم، ويكون تأثيره مختلفاً على شخص مثل عزيز، يلهمه الانطلاق في مغامرات بعيداً عن الدرب المطروق.
          جلست أسرة روبنشتاين إلى مائدة مثالية لالتقاط صورة عند الساعة السابعة والنصف مساء، وكانت الشموع المشتعلة تمنح غرفة الطعام شكلاً مقدّساً.  قد يخيّل لشخص غريب يراهم أنهم يشكلون أسرة مثالية، لطيفة، مثل خيوط الدخان التي تذوب وتتلاشى ببطء في الهواء، حتى إن غياب جانيت لم يشوّه الصورة.  تناولوا طعامهم بينما راحت أورلي وآفي يثرثران عن الأحداث التي جرت خلال يومهما في المدرسة.  ولأول مرة أحست إيلا بالامتنان لهما لأنهما كانا ثرثارين وصاخبين يغطيان على الصمت الذي كان سيخيم بثقل عليها وعلى زوجها.
          بطرف عينها، راحت إيلا تراقب ديفيد وهو يغرز شوكته في قطعة القنبيط، ثم يمضغها ببطء.  وهبطت نظرتها على شفتيه الرقيقتين الشاحبتين وأسنانه اللؤلؤية البيضاء – الفم الذي تعرفه جيداً والذي طالما قبّلته.  تصوّرته وهو يقبّل امرأة أخرى.  ولسبب ما، لن تكن المنافسة التي تخيلتها سكرتيرة ديفيد الشابة، بل نسخة من سوزان ساراندون لكن بصدر كبير، تعرض ثدييها في فستان ضيّق بحيوية وثقة، وتنتعل حذاء جلدياً طويلاً أحمر يصل حتى ركبتيها، ذا كعب عال، ووجهها برّاق، قزحي الألوان من المكياج المفرط.  وتخيّلت إيلا ديفيد وهو يقبّل هذه المرأة بسرعة ونهم، لا كما يمضغ القنبيط على مائدة الأسرة.




          في ذلك المكان وفي تلك اللحظة بالذات، بينما كانت إيلا تعد طعام العشاء من كتاب الطهو "جعل فن الطهو بسيطاً وسهلاً" وتتخيّل المرأة التي يعاشرها زوجها، خطر في بالها أمر.  فقد فهمت بوضوح شديد وهدوء، أنها على الرغم من قلة خبرتها وخجلها، ستتخلى عن كل شيء ذات يوم: مطبخها، وكلبها، وأطفالها، وجيرانها،  وزوجها وكتب الطهو، ووصفات صنع الخبز في البيت، إذ ستخرج ببساطة إلى العالم الذي تحدث فيه باستمرار أشياء خطيرة.











السيّد

بغداد، 26 كانون الثاني (يناير) 1243
          عندما يكون المرء فرداً في تكية للدراويش، فإن ذلك يتطلّب منه قدرة على الصبر تفوق قدرة شمس التبريزي.  لكن على الرغم من مضي تسعة أشهر، فهو لا يزال يقيم بين ظهرانينا.
          في البداية، توقّعت أن يحزم أمتعته ويغادر في أي لحظة، لأنه يكره أن يعيش حياة منظمة بدقة شديدة.  فقد لاحظت أن النوم والاستيقاظ في أوقات محددة، وتناول وجبات طعام منتظمة، وأداء أعمال روتينية كالآخرين، أمور تسبب له كثيراً من الضجر.  فقد اعتاد على أن يطير وحيداً، بجموح وحرية.  وقد ساورتني الشكوك عدة مرات بأنه سيهرب.  لكن بقدر ما كانت حاجته إلى الخلوة عظيمة، كان سعيه للعثور على رفيقه أعظم.  وكان شمس يعتقد بأنني سأتوصل إلى معرفة المعلومات التي يحتاجها،  وأن أخبره إلى أين يجب أن يذهب، ومن يكون ذلك الشخص.  وقد مكث في التكية بسبب هذا الاعتقاد.
          خلال الشهور التسعة تلك، كنت أراقبه عن كثب، متسائلاً هل كان الزمن يتدفّق بصورة مختلفة بالنسبة له، أسرع وأكثر حدّة.  فالشيء




الذي يستغرق شهوراً وأحياناً سنوات حتى يتعلمه الدراويش الآخرون، كان شمس يتعلمه في أسابيع، لا بل في أيام.  فقد كان لديه فضول شديد لكلّ ما هو جديد وغير عادي، وكان مراقباً دقيقاً للطبيعة.  ففي أيام كثيرة، كنت أراه يقف في البستان مبدياً إعجابه بتناظر شبكة عنكبوت، أو قطرات الندى المتلألئة على زهرة تتفتح ليلاً.  وقد بدا لي أن الحشرات والنباتات والحيوانات تثير اهتمامه وتشكل مصدر إلهام له أكثر من الكتب والمخطوطات.  وما إن يخطر لي أنه فقد اهتمامه بالقراءة، حتى أجده غارقاً في قراءة كتاب قديم.  ثمّ تمر أسابيع عدة أخرى من دون أن يقرأ أو يدرس شيئاً.
          وعندما سألته عن ذلك، قال إنه يجب على المرء أن يشبع فكره، لكنه يجب أن يحرص على ألاّ يفسده.  وتقول إحدى قواعده: "يتكون الفكر والحبّ من مواد مختلفة.  فالفكر يربط البشر في عقد، لكن الحبّ يذيب جميع العقد.  إن الفكر حذر على الدوام وهو يقول ناصحاً: "احذر الكثير من النشوة"، بينما الحبّ يقول: "لا تكترث! أقْدِم على هذه المجازفة".  وفي حين أن الفكر لا يمكن أن يتلاشى بسهولة، فإن الحبّ يتهدم بسهولة ويصبح ركاماً من تلقاء نفسه.  لكن الكنوز تتوارى بين الأنقاض.  والقلب الكسير يخبئ كنوزاً".
          وكلما ازدادت معرفتي به، ازداد إعجابي بجرأته وفطنته. لكني كنت أشكّ أيضاً في وجود جانب سلبي في براعة شمس التي لا تضاهى وفي أصالته.  فقد كان صريحاً ومستقيماً إلى حدّ الفظاظة، في حين كنت أعلّم الدراويش في تكيتي ألاّ ينظروا إلى عيوب الآخرين، وإذا رأوها، أن يتسامحوا معها ويغضوا الطرف عنها.  أما شمس فلم يكن يدع أي



خطأ يمرّ دون أن يُبدي ملاحظة.  فكان كلما رأى خطأ، تحدث عنه على الفور، ولم يكن يراوغ في الموضوع أبداً.  كان صدقه يثير حنق الآخرين، ويجعلهم يشعرون بالإهانة، لكنه كان يحبّ استفزاز الآخرين ليرى ما يمكن أن يبدر منهم في لحظات الغضب.
          كان يصعب إجباره على أداء أعمال عادية، ولم يكن لديه صبر كبير على أداء هذه الأعمال، وكان يفقد اهتمامه بأي شيء ما إن يتعلّمه.  وعندما يصبح العمل روتينياً، كان ينتابه اليأس،  مثل نمر محبوس في قفص.  وإذا ما أضجره حديث، أو أبدى أحدهم ملاحظة تشي  بالحمق، كان ينهض ويغادر من فوره، ولا يضيع وقته في المجاملات.  أما القيم التي يحرص عليها معظم البشر، كالأمن والراحة والسعادة، فلم تكن تعني له الكثير.  وكان شديد الارتياب بالكلمات إلى حد أنه كان يمضي أياماً من دون أن ينبس بكلمة.  وها هي قاعدة أخرى من قواعده: تنبع معظم مشاكل العالم من أخطاء لغوية ومن سوء فهم بسيط. لا تأخذ الكلمات بمعناها الظاهري مطلقاً.  وعندما تلج دائرة الحبّ، تكون اللغة التي نعرفها قد عفَّى عليها الزمن، فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات، لا يمكن إدراكه إلا بالصمت.
          ومع مرور الوقت، ازداد قلقي عليه.  فقد أحسست في أعماقي بأن المرء الذي يمكن أن يشتعل باتقاد شديد قد يعرّض نفسه للخطر.
          وفي نهاية المطاف، يصبح قدرنا بين يدي الله، الذي يعلم هو وحده كيف سيغادر كلّ منا هذه الدنيا ومتى.  ومن جهتي قرّرت أن أبذل ما بوسعي لأجعل شمس أكثر هدوءاً وبطئاً، وأعوّده، بقدر ما يمكنني،


على أسلوب حياة أكثر اطمئناناً.  وقد خيّل إليّ أنني قد أنجح، لكن عندما حلّ الشتاء، قدم رسول يحمل رسالة من بعيد.
لقد غيّرت هذه الرسالة كلّ شيء.














الرسالة

من القيصرية إلى بغداد، شباط (فبراير) 1243

بسم الله الرحمن الرحيم
أخي العزيز بابا زمان،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
          مضى وقت طويل على لقائنا الأخير، وأرجو أن تصلك رسالتي هذه وأنت بخير.  لقد سمعت أشياء عدة رائعة عن الخانقاه التي أقمتها على أطراف بغداد، التي تعلّم فيها الدراويش الحكمة وحبّ الله.  إني أكتب إليك هذه الرسالة سراً لآخذ رأيك في أمر يشغل بالي.  اسمح لي أن أبدأ من البداية.
          كما تعرف، كان السلطان الراحل علاء الدين كيقباذ رجلاً فذاً برع في القيادة خلال الأوقات العصيبة.  وكان يحلم ببناء مدينة يعيش فيها الشعراء والحرفيون والفلاسفة ويعملون بسلام.  حلم قال الكثيرون إنه يستحيل تحقيقه بسبب الفوضى والحروب في العالم، لا سيما بسبب قيام المغول والصليبيين بشنّ هجماتهم من كلا الجانبين.  لقد رأينا كلّ ذلك.  مسيحيون يقتلون مسلمين، ومسيحيون يقتلون مسيحيين،



ومسلمون يقتلون مسيحيين، ومسلمون يقتلون مسلمين.  أديان وطوائف وقبائل، بل حتى الإخوة يتحاربون.  لكن كيقباذ كان زعيماً ذا عزيمة، فاختار مدينة قونية – أول مكان يبرز بعد الطوفان العظيم – لتحقيق حلمه الكبير.
يعيش حالياً في قونية عالم لعلك سمعت به.  يدعى مولانا جلال الدين، لكنه غالباً ما يعرف باسم الرومي.  لقد تشرّفت بلقائه، لا بل كان لي شرف الدراسة معه، أولاً كمعلّم به، ثمّ، بعد وفاة أبيه، كمعلّم وناصح له، وبعد سنوات، كتلميذ له.  نعم، يا صديقي، لقد أصبحت تلميذاً لتلميذي.  ولمّا كان الرومي يتمتع بقدر كبير  من الموهبة والحكمة، لم يعد لديّ ما أعلّمه إياه، فبدأت أتعلّم منه.  كان أبوه عالماً بارزاً أيضاً.  لكن الرومي يتصف بسمة لا تتوفر إلا لقلة قليلة من العلماء وهي: القدرة على الغوص تحت قشرة الدين واستخراج الجوهرة العالمية والأبدية من جوهره.
أريدك أن تعرف أن هذه ليست آرائي الشخصية فقط.  فعندما التقى الرومي الشاب، بالشيخ الصوفي الجليل فريد الدين العطّار، الذي يعمل عطاراً، يبيع أدوية شعبية وتوابل وعطوراً، قال العطار عنه: "إن هذا الفتى سيفتح باباً في قلب العشق ويضرم النار في قلوب جميع العشاق الصوفيين".  وعندما رأى ابن عربي، الفيلسوف البارز، والكاتب والصوفي المعروف، الرومي الشاب وهو يسير وراء أبيه ذات يوم، قال: "سبحان الله، محيط يمشي وراء بحيرة".
أصبح الرومي، وهو لما يزل في الرابعة والعشرين من عمره، زعيماً روحياً.  أما اليوم، وبعد مضي ثلاث عشرة سنة، فيعتبره سكان قونية



قدوة لهم، وفي كلّ يوم جمعة، يتوجّه الناس من جميع أنحاء المنطقة إلى تلك المدينة للاستماع إلى خطبه.  فقد برع في الفقه والفلسفة واللاهوت وعلم الفلك والتاريخ والكيمياء والجبر.  ويقال إن لديه حالياً أكثر من عشرة آلاف مريد.  ويتعلق مريدوه بكلّ كلمة يقولها، ويرون أنه سيحدث تغييراً إيجابياً مهماً في تاريخ الإسلام، إن لم يكن في تاريخ العالم.
          أما بالنسبة لي، فيظل الرومي على الدوام مثل ابن لي، وقد وعدت أباه الراحل بأن أحوطه بالرعاية على الدوام.  والآن، بعد أن هرمت وبدأت أقترب من أيامي الأخيرة، فإني أريد أن أحرص على أن يكون في أيد أمينة.
          كما ترى، وعلى الرغم من نجاحه وروعته، فقد أسرّ إليّ الرومي نفسه عدّة مرات بأنه لا يشعر بالرضا في قرارة نفسه.  إذ ينقصه في حياته شيء ما – وهو فراغ لا تستطيع أسرته ولا مريدوه أن يملأوه.  وقلت له ذات مرة، مع أنه كان لا يزال غراً، بأنه لم يحترق أيضاً.  كانت كأسه مترعة حتى الحافة، وعلى الرغم من ذلك، يجب أن يفتح باب روحه لكي تتدفّق مياه الحبّ إلى الداخل والخارج.  وعندما سألني كيف يمكن أن يتم ذلك، قلت له إنه بحاجة إلى صديق، رفيق درب، وذكّرته بالحديث الشريف، "المؤمن مرآة المؤمن".
          ولو لم يثر الموضوع ثانية، لربما كنت نسيته تماماً، لكن عندما غادرت قونية، جاء إليّ الرومي يسألني عن رأيي بحلم يراه باستمرار ويضايقه.  وقال لي إنه يبحث في حلمه عن شخص يعيش في مدينة كبيرة تعجّ بالناس في أرض بعيدة.  كلمات بالعربية.  غروب شمس



مثيرة للبهجة.  أشجار توت ودود قز تنتظر بأناة في شرانق سرّية لحظة وصولها.  ثمّ رأى نفسه في فناء بيته، جالساً بالقرب من البئر، يحمل فانوساً بيده، وهو يبكي.
          في البداية لم أعرف إلى ماذا تشير شذرات أحلامه.  فهي لم تكن مألوفة لكن بعد ذلك، في أحد الأيام، بعد أن تلقيت وشاحاً حريرياً كهدية، جاءني الجواب وحُلّ اللغز.  تذكّرت كم كنت مولعاً بالحرير  ودود القز.  تذكّرت الأشياء الرائعة التي سمعتها عن "الطريقة" التي تتبعها.  وخطر لي أن المكان الذي رآه الرومي في أحلامه ليس سوى تكية الدراويش التي أنشأتها أنت.  باختصار، يا أخي، فإني أتساءل هل يعيش رفيق الرومي تحت سقفك.  هذا ما دعاني إلى كتابة هذه الرسالة تلك.
          لا أعرف هل يقيم هذا الشخص في تكيّتك.  فإذا كان الأمر كذلك، فإني أترك الأمر لك لإبلاغه بالقدر الذي ينتظره.  وإذا كان بإمكاننا، أنا وأنت، أن نؤدي دوراً، ولو كان ضئيلاً، في المساعدة على التقاء نهرين ليصبّا في محيط العشق الإلهي وليكوّنا مجرى ماء واحداً، وإذا كان بوسعنا مساعدة صديقين طيبين من أصدقاء الله على الالتقاء، فإني سأعتبر أن بركات الله قد حلت عليّ.
          لكن يوجد شيء ينبغي ألا تنساه.  فقد يكون الرومي رجلاً مؤثراً يحظى بحبّ الكثيرين واحترامهم، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد منتقدون له.  بالطبع لديه منتقدون.  كما أن هذا التدفّق معاً، قد يوّلد السخط والمعارضة ويسبب خصومات يستعصي علينا فهمها، وقد تفوق إدراكنا.  كما أن ولعه برفيقه قد يسبّب مشاكل في محيط أسرته




ومحيطه الداخلي.  فالشخص الذي يحبه علانية ويحظى بإعجاب واحترام أناس كثيرين، لا بد أن يكون مثار حسد وكراهية الآخرين.
          قد يعرّض كلّ ذلك رفيق الرومي إلى خطر لا يمكن لأحد معرفته.  بمعنى آخر، يا أخي، قد لا يتمكن الشخص الذي ترسله إلى قونية من العودة ثانية.  لذلك، قبل أن تتخذ قراراً بالكشف عن هذه الرسالة إلى رفيق الرومي، فإني أطلب منك أن تعطي المسألة فترة أطول من التفكير.
          إني آسفة لأنني وضعتك في موقف صعب، لكن كما يعرفه كلانا، لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها.  انتظر ردك، وإني على ثقة بأنه مهما كانت النتيجة، فإنك ستتخذ الخطوات الصحيحة في الاتجاه الصحيح.
          أدعو الله ألا يتوقف نور الإيمان عن الضياء عليك وعلى دراويشك.

                                السيّد
                                                                               سعيد برهان الدين








شمس


بغداد، 18 كانون الأول (ديسمبر) 1243
          وراء ندف الثلج الهاطلة، والدروب المكسوة بالثلوج، ظهر رسول من بعيد.  قال إنه قادم من القيصرية، وأثار لغطاً بين الدراويش الذين يعرفون أن الزوّار أندر من العنب الصيفي الحلو في هذا الوقت من السنة.  فقدوم رسول يحمل رسالة عاجلة في هذه العواصف الثلجية يعني أحد أمرين:  إما أن يكون قد حدث شيء، أو أن شيئاً مهماً على وشك الحدوث.
          إن وصول الرسول جعل الألسنة تتحدث في تكية الدراويش، وذلك لأن الجميع متلهف لمعرفة فحوى الرسالة التي سلّمت إلى السيّد.  ومتدثراً في عباءة أسراره، لم يقدم السيّد أي إشارة عن محتواها.  وبطبعه البارد والعنيد، وحذره الشديد، ظل لأيام عدة يحمل قسمات رجل يكافح بضميره، ويجد صعوبة في التوصل إلى القرار الصحيح.
          خلال تلك الفترة، لم يكن الفضول هو الذي دفعني لمراقبة بابا زمان.  ففي أعماقي، أحسست بأن الرسالة تخصني شخصياً، لكني لم



أعرف كيف.  أمضيت عدة أمسيات مختلياً بنفسي في غرفة الصلاة أردد أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين لعلها ترشدني.  وفي كل مرة كان يبرز لي اسم – الجبّار – الذي لا يمكن أن يجري في سلطانه شيء إلا بإرادته.
          خلال الأيام التالية، بينما كان الدراويش يضربون أخماساً بأسداس، كنت أمضي وقتي وحيداً في البستان، أتأمل أمّنا الطبيعة الراقدة حالياً تحت ملاءة ثقيلة من الثلج.  وبعد أيام عدة، سمعنا الجرس النحاسي في حلقة المطبخ يقرع عدة مرات، داعياً إيانا جميعاً إلى اجتماع عاجل.  عندما دخلنا الغرفة الرئيسية في الخانقاه، كان الجميع حاضرين، التلاميذ المبتدئين وكبار الدراويش، وكانوا جالسين في دائرة عريضة.  وكان السيّد يجلس في وسط الدائرة، زامّاً شفتيه، كانت عيناه غائرتين.
          بعد أن تنحنح، قال: "بسم الله، لا بد أنكم تتساءلون عن سبب دعوتي لكم إلى هذا الاجتماع اليوم.  إنه حول الرسالة التي تلقيتها.  لا يهمّ من أين جاءت، لكن يكفي القول إنها جذبت انتباهي إلى موضوع ينطوي على أهمية كبيرة".
          توقّف بابا زمان قليلاً، ورح يحدّق خارج النافذة.  كان يبدو مرهقاً، نحيفاً، شاحباً كما لو أنه كبر عدة سنوات خلال هذه الأيام الماضية.  لكنه عندما تابع كلامه، امتلأ صوته بتصميم غير متوقع.
          "يعيش عالم متبحّر في مدينة غير بعيدة، وهو يجيد استخدام الكلمات، لكنه لا يستخدم استعارات كثيرة، لأنه ليس شاعراً.  ويحبّه ويبجله آلاف الأشخاص ويحترمونه ويكنون له إعجاباً شديداً، وهو



ليس عاشقاً.  ولأسباب تتجاوزني وتتجاوزكم، يجب على أحد الدراويش من تكيتنا أن يذهب للقائه ومرافقته".
          انقبض قلبي في صدري. وبدأن أتنفس ببطء، ببطء شديد.  ليس بوسعي إلاّ أن أتذكر إحدى القواعد، التي تقول: الوحدة والخلوة شيئان مختلفان.  فعندما تكون وحيداً، من السهل أن تخدع نفسك ويخيّل إليك أنك تيسر على الطريق القويم.  أما الخلوة فهي أفضل لنا، لأنها تعني أن تكون وحدك من دون أن تشعر بأنك وحيد.  لكن في نهاية الأمر، من الأفضل لك أن تبحث عن شخص، شخص يكون بمثابة مرآة لك.  تذكّر أنك لا تستطيع أن ترى نفسك حقاً، إلا في قلب شخص آخر، وبوجود الله في داخلك.
          تابع السيّد كلامه وقال: "لقد جمعتكم هنا لأسألكم هل يرغب أحد منكم في التطوّع للقيام بهذه الرحلة الروحية. يمكنني أن أعيّن واحداً، لكن هذه ليست مهمّة يمكن القيام بها بدافع الواجب، لأنه لا يمكن القيام بها إلا بدافع الحبّ، وباسم الحبّ".
          طلب درويش شاب إذناً للتكلم، وسأل: "من هو هذا العالم، يا سيدنا؟".
          "لا أستطيع أن أكشف عن اسمه إلا للشخص الذي يريد أن يذهب إليه".
          عند ذلك، رفع عدد من الدراويش أيديهم، بحماسة شديدة.  كان هناك تسعة دراويش.  انضممت إليهم، فأصبح عددنا عشرة.  لوّح بابا زمان بيده، وأشار أن ننتظر حتى ينهي كلامه، وقال: "هناك شيء آخر يجب أن تعرفوه قبل أن تتخذوا قراركم".



وأخبرنا السيّد أيضاً بأن الرحلة محفوفة بمشاق ومخاطر كبيرة، ولا شيء يضمن عودة الشخص الذي سيذهب.  فأنزل الجميع أيديهم، إلاّ أنا.
          نظر بابا زمان في عينيّ مباشرة لأول مرة منذ فترة طويلة، وعندما التقت عيناه بعينيَّ، فهمت أنه كان يعرف منذ البداية بأنني سأكون المتطوّع الوحيد.
          "شمس التبريزي"، قال السيّد ببطء وحزم، كأن اسمي ترك طعماً ثقيلاً في فهمه، "إني أحترم إصرارك، لكنك عضو مهم في طريقتنا، بالإضافة إلى أنك ضيفنا".
          فقلت : "لا أرى كيف يمكن أن يكون ذلك مشكلة".
          لاذ السيّد بالصمت طويلاً، لحظات من التفكير بإمعان. ثمّ، وعلى نحو مفاجئ، استوى واقفاً وقال: لنضع هذا الموضوع جانباً الآن، فعندما يحلّ الربيع سنتكلّم فيه مرة أخرى".
          هاج قلبي وماج.  وبالرغم من أنه كان يعرف أن هذه المهمّة هي السبب الوحيد الذي جاء بي إلى بغداد في المقام الأول، فقد كان بابا زمان يريد أن ينزع مني الفرصة لتحقيق قدري.
          فقلت: "لماذا يا سيّدي؟ ولمَ الانتظار في حين أنني جاهز للذهاب من فوري؟  أخبرني ما هي المدينة وما اسم العالم، لأنطلق على الفور".
          لكن السيّد ردّ بصوت حازم بارد لم أتعوّد على سماعه منه: "لا يوجد شيء يمكن مناقشته.  انتهى الاجتماع".
***



كان شتاء طويلاً، قاسياً، وكان البستان متجمّداً مثل جنّة، كما كانت شفتاي.  وخلال الشهور الثلاثة التالية، لم أكلّم أحداً.  ودأبت على السير كلّ يوم لمسافات طويلة في الريف، آملاً بأن أرى شجرة مزهرة.  لكن بعد الثلج، هطل مزيد من الثلج.  لم يكن الربيع قريباً.  وبالرغم من تعكر مزاجي كما هو الحال في الخارج، ظللت ممتناً ومتفائلاً في داخلي، وهنا تذكرت قاعدة أخرى، وهي قاعدة تلائم مزاجي: مهما حدث في حياتك، ومهما بدت الأشياء مزعجة، فلا تدخل ربوع اليأس.  وحتى لو ظلت جميع الأبواب موصدة، فإن الله سيفتح درباً جديداً لك.  احمد ربك! من السهل عليك أن تحمد الله عندما يكون كلّ شيء على ما يرام.  فالصوفي لا يحمد الله على ما منحه الله إياه فحسب، بل يحمده أيضاً على كلّ ما حرمه منه.
وفي صباح أحد الأيام، رأيت لوناً مبهراً، بهيجاً مثل أغنية جميلة، ينبعث من تحت أكوام الثلج.  كانت أجمة مزروعة بالفصة تتناثر فيها أزهار خزامى صغيرة.  امتلأ قلبي بالبهجة.  وعندما عدت إلى التكية، صادفت التلميذ ذا الشعر الأحمر، فحيّيته مبتهجاً.  لقد اعتاد على رؤيتي غارقاً في صمت غاضب، حتى إنه فغر فاه دهشة.
"ابتسم يا فتى"، صرخت، "ألا ترى الربيع في الهواء؟".
ومنذ ذلك اليوم، تغيّر المشهد الطبيعي بسرعة.  فقد ذابت الثلوج المتبقية، وتبرعمت أزهار الأشجار، وعادت العصافير وطيور النمنمة، وسرعان ما ملأت الهواء رائحة توابل خفيفة.
وفي صباح أحد الأيام، سمعنا الجرس النحاسي يقرع ثانية.  كنت أول الواصلين إلى الغرفة الرئيسية هذه المرة.  ومرة أخرى، جلسنا في دائرة عريضة حول السيّد، ورحنا نستمع إليه وهو يتحدّث عن هذا العالِم المسلم الجليل الذي يعرف كلّ شيء، ما عدا علامات الحبّ.  ومرة أخرى، لم يتطوّع أحد غيري.
          "أرى أن شمس هو الدرويش الوحيد الذي تطوّع"، قال بابا زمان، وقد ارتفعت حدّة صوته، ثم أصبح رقيقاً مثل عواء الريح، "لكنني سأنتظر الخريف حتى أتوصل إلى قرار".
          صُعقت. لم أصدّق أن هذا يمكن أن يحدث.  فقد كنت مستعداً للمغادرة بعد ثلاثة شهور طويلة من التأجيل، وها هو ذا السيّد يطلب مني الآن تأجيل رحلتي ستّة أشهر أخرى.  وبقلب هابط، احتججت، واشتكيت، وتوسلت للسيّد أن يخبرني باسم المدينة واسم العالم، لكنه أصرّ على رفضه.
لكنني هذه المرة عرفت أن الانتظار سيكون أسهل، لأنه لن يكون هناك تأجيل آخر.  فبعد أن تحمّلت الانتظار من الشتاء إلى الربيع، يمكنني أن أتحمّل النار المستعرة فيّ من الربيع إلى الخريف.  ولم يثبط رفض بابا زمان من عزيمتي، بل رفع معنوياتي، وزادني تصميماً على تصميم.  وتقول قاعدة أخرى: لا يعني الصبر أن تتحمّل المصاعب سلباً، بل يعني أن تكون بعيد النظر بحيث تثق بالنتيجة النهائية التي ستتمخض عن أي عملية.  ماذا يعني الصبر؟ إنه يعني أن تنظر إلى الشوكة وترى الوردة، أن تنظر إلى الليل وترى الفجر.  أنا نفاد الصبر فيعني أن تكون قصير النظر ولا تتمكن من رؤية النتيجة.  إن عشاق الله لا ينفد صبرهم مطلقاً، لأنهم يعرفون أنه لكي يصبح الهلال بدراً، فهو يحتاج إلى وقت.



عندما قرع الجرس النحاسي للمرّة الثالثة في الخريف، سرت بخطى وئيدة واثقة.  كنت على ثقة من أن الأمور ستحلّ أخيراً.  وبدا السيّد أكثر شحوباً ونحولاً من أي وقت مضى، وكأن طاقته قد نفدت.  لكنه عندما رآني أرفع يدي ثانية، لم يبعد نظره، ولم يتجاهل الأمر، بل هزّ لي رأسه بحزم.
"حسناً يا شمس، لا ريب في أنك الشخص الذي سينطلق في هذه الرحلة.  إن شال الله ستنطلق غداً صباحاً".
قبّلت يد السيّد.  وأخيراً سألتقي برفيقي.
ابتسم لي بابا زمان بدفء، كما يبتسم الأب لابنه الوحيد قبل أن يرسله إلى ساحة المعركة. ثمّ أخرج من عباءته الطويلة رسالة مختومة، وبعد أن قدمها لي غادر الغرفة صامتاً، وتبعه الآخرون.  عندما أصبحت وحدي في الغرفة، فضضت الختم الشمعي.
كان في داخلها معلومتان دونتا بخط جميل.  اسم المدينة واسم العالِم.  سأذهب إلى قونية للقاء عالِم يدعى الرومي.
بدأ قلبي  يخفق بقوة.  لم أسمع باسمه من قبل. لا بد أنه عالم مشهور، لكنه كان بالنسبة لي لغزاً تاماً.  ورحت أردد حروف اسمه، حرفاً حرفاً:  حرف الراء القوي المشرق، حرف الواو المخملي، وحرف الميم الجسور المتسم بالثقة بالنفس،  وحرف الياء الغامض الذي يجب حلّه.
جمعت الحروف معاً، ورحت أردد اسمه مراراً وتكراراً حتى ذابت الكلمة على لساني بحلاوة قطعة حلوى وأصبح الأمر مألوفاً مثل "الماء" أو "الخبز"، أو "الحليب".



إيلا

نورثامبتون، 22 أيار (مايو) 2008
          تحت لحافها الأبيض، ابتلعت إيلا ريقها بصعوبة بسبب إصابتها بالتهاب في حنجرتها، وكان جسدها مرهقاً.  فقد أثّر عليها السهر إلى ساعة متأخرة من الليل، واحتساؤها كمية زادت على الحد الذي تحتسيه عادة في الليل السابقة.  وبالرغم من ذلك، فقط هبطت إلى الطابق الأرضي لتعدّ طعام الفطور، وجلست إلى المائدة مع طفليها التوأمين وزوجها، وبذلت كل ما بوسعها لكي تبدو مهتمة بما يتحدثون به عن أجمل السيارات في المدرسة، وكان كلّ ما تريده هو أن تعود إلى سريرها لكي تنام.
          فجأة، التفتت أورلي إلى أمّها وسألتها: "يقول آفي إن أختنا لن تعود إلى البيت ثانية.  هل هذا صحيح، يا أمّي؟".  كان صوتها يشي بالشكّ والاتهام.
          فقالت إيلا: "بالطبع هذا غير صحيح.  فقد تشاجرت مع أختك، كما تعرفين، لكنها تحبني وأحبها".
          "هل صحيح أنك اتصلت بسكوت وطلبتِ منه أن يترك جانيت؟".


سأل آفي وعلى وجهه ابتسامة عريضة، إذا إنه كان يجد متعة في إثارة هذا الموضوع على ما يبدو.
          نظرت إيلا إلى زوجها بعينين واسعتين، لكن ديفيد رفع حاجبيه وفتح راحتي يديه للإشارة إلى أنه لم يخبرهما بذلك.
منحت إيلا صوتها نبرة تشي بالسلطة، كانت تستخدمها عندما تعطي أطفالها تعليماتها، وقالت: "هذا غير صحيح مطلقاً.  لقد تحدثت مع سكوت، لكني لم أطلب منه أن يهجر أختك.  كلّ ما قلته له هو ألاّ يستعجلا في الزواج".
" لن أتزوج أبداّ"، أعلنت أورلي وهي على يقين.
"نعم، تقولين ذلك وكأنه يوجد رجل يرغب في الزواج منك"، قال آفي.
بينما كانت إيلا تنصت إلى طفليها التوأمين يستثير أحدهما الآخر، ارتسمت على وجهها ابتسامة متوترة، لم تفهم سببها.  ومع أنها كبتت ابتسامتها، فقد ظلت الابتسامة هناك، محفورة تحت جلدها، عندما أوصلت طفليها وزوجها إلى الباب، وتمنّت لهم يوماً جميلاً.
لم تتخلص إيلا من ابتسامتها إلا بعد أن عادت وجلست على كرسيها إلى المائدة، وقطّبت جبينها.  شعرت كأن جيشاً من الجرذان قد اجتاح مطبخها.  بقايا البيض المقلي، صحون غير فارغة تماماً من الحبوب، وأكواب وسخة متناثرة فوق الطاولة.  وكان الكلب يذرع أرجاء المطبخ، متلهّفاً للخروج ليتمشى قليلاً، لكن حتى بعد أن تناولت كوبين من القهوة وجرعت قليلاً من الفيتامينات، كان كلّ ما بوسعها أن تفعله هو أن تخرجه إلى الحديقة لبضع دقائق.
***


          عندما عادت إيلا من الحديقة، وجدت الضوء الأحمر يومض في جهاز تسجيل المكالمات. ضغطت الزرّ، ويا لبهجتها، ملأ صوت جانيت الرقيق الغرفة.
"ماما، هل أنت هناك . . . ؟ حسناً، أظن أنك لست في البيت، وإلا لرفعت سماعة الهاتف"، ضحكت ضحكة مكتومة، ومضت تقول: "حسناً، لقد غضبت منك كثيراً إلى درجة أنني لم أشأ أن أرى وجهك ثانية.  لكني لست غاضبة الآن.  أقصد، إن ما فعلته كان خطأ،  هذا شيء مؤكد.  ما كان يتعين عليكِ أن تخابري سكوت.  لكني أتفهم السبب الذي جعلك تفعلين ذلك.  اسمعي، لا يتعين عليكِ أن تحيطيني بحمايتك ورعايتك طوال الوقت.  فلم أعد  تلك الطفلة الخديج التي يجب أن تظلّ في الحاضنة.  توقّفي عن هذه الحماية المفرطة، ودعيني أتصرف من تلقاء نفسي ، اتفقنا؟".
اغرورقت عينا إيلا بالدموع. وبرقت في رأسها صورة جانيت عندما كانت رضيعة.  كانت بشرتها حمراء بصورة تثير الحزن، وكانت أصابعها الصغيرة متغضنة، تكاد تكون شفّافة وقد تم وصل رئتيها بأنبوب للتنفّس – لم تكن مهيأة بعد للقدوم إلى هذا العالم.  أمضت إيلا عدة ليالٍ مؤرقة وهي تنصت إلى تنفّسها لتتأكد من أنها لا تزال على قيد الحياة.
"ماما، هناك شيء آخر"، استدركت جانيت قائلة: "أنا أحبّك".
عندما سمعت إيلا ذلك، أصدرت نفساً عميقاً، وانتقل عقلها مباشرة إلى رسالة عزيز الإلكترونية، فقد استجابت شجرة الأمنيات لدعواته.  على الأقل الجزء الأول منها.  فبهذا الاتصال، تكون جانيت قد فعلت


ما يتوجب عليها، وأمسى ما تبقى على عاتق إيلا.  اتصلت بهاتف ابنتها الخلوي ووجدتها في طريقها إلى مكتبة الجامعة.
          "لقد سمعت رسالتك يا حبيبتي.  اسمعي، إني آسفة جداً.  أريد أن أعتذر منك".
          سادت فترة صمت، قصيرة لكنها مشحونة، "لا توجد مشكلة يا أمّي".
          "لا ، ليس الأمر كذلك.  كان عليّ أن أبدي احتراماً أكبر لمشاعرك".
          "لننس الأمر"، قالت جنيت، كما لو كانت هي الأمّ، وإيلا هي ابنتها المتمردة.
          "نعم، يا عزيزتي".
          خفضت جانيت صورتها ليصبح دمدمة سرّية، كأنها تخشى مما ستسأله بعد ذلك، "لقد أقلقني ما قلته قبل أيام.  أقصد، هل هذا صحيح؟  هل أنت حزينة جداً؟".
          "طبعاً لا"، أجابت إيلا بسرعة، وأضافت ، "لقد ربّيت ثلاثة أطفال جميلين، فكيف يمكنني أن أكون حزينة؟".
          لكن بدا أن جانيت لم تكن مقتنعة، وقالت: "أقصد مع بابا".
          لم تعرف إيلا ماذا تقول إلا الحقيقة، "لقد مضى وقت طويل على زواجنا أنا ووالدك.  ويصعب أن نظل عاشقين بعد كلّ هذه السنوات".
          "فهمت"، قالت جانيت،  وعلى نحو غريب، اعترى إيلا شعور بأنها فهمت.
          بعد أن أغلقت إيلا الهاتف، تركت نفسها تستغرق في التفكير بالحبّ.  جلست وتكوّرت في كرسيها الهزاز، وتساءلت كيف يمكنها، وهي المجروحة والمتأذية، أن تدخل في تجربة الحبّ مرة أخرى.  فالحبّ هو للذين يبحثون عن هدف أو سبب في هذا العالم الذي يجري بسرعة كبيرة. لكن ماذا عن الذين تخلّوا عن ذلك منذ أمد بعيد؟
          وقبل انتهاء اليوم، أجابت على رسالة عزيز.
          عزيزي عزيز (إذا كان يحق لي أن أدعوك هكذا)
          شكرا على ردك اللطيف والحميم الذي ساعدني على تجاوز الأزمة العائلية.  فقد تمكنت أنا وابنتي من تجاوز سوء التفاهم الفظيع ذاك، كما أطلقت عليه بتهذيب.
          كنت محقاً في شيء واحد.  إني أتأرجح باستمرار بين متناقضين:  العدواني والسلبي.  فإنني إما أتدخّل كثيراً في شؤون الأشخاص الذين أحبّهم، أو إنني أشعر بالعجز تجاه تصرفاتهم.
          أما بالنسبة للإذعان، فلم أماس في حياتي هذا النوع من الخنوع السلمي الذي كتبت لي عنه.  صدقاً، لا أظن أن لديّ القدرة على أن أكون صوفية، لكن يجب أن أقول لك هذا: فقد تحولت الأشياء بيني وبينها، على نحو مدهش، كما كنت أريد بعد أن توقفت عن التدخّل في شؤونها.  إني أدين لك بشكر كبير.  وكنت كذلك، سأصلي من أجلك، لكنني لم أقرع باب الله منذ وقت طويل، ولم أعد متأكّدة عل لا يزال يقيم في المكان نفسه.  ويحي، هل أتكلّم كما يتكلّم صاحب الحانة في قصّتك؟ لا تقلق، فأنا أكفر بالقيم بمرارة.  لم أكفر بها بعد.  ليس بعد.

                                                                                   صديقتك في
                                                                                   نورثامبتون،
                                                                                        إيلا






الرسالة

من بغداد إلى قيصرية، 29 أيلول (سبتمبر) 1243
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ سيد برهان الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
          غمرتني السعادة عندما تلقيت رسالتك وعلمت أنك وفيّ لطريق العشق كما عهدتك دائماً، وقد وضعتني رسالتك في ورطة، لأنني ما إن علمت أنك تبحث عن رفيق للرومي، حتى عرفت عمت تتحدّث، لكن ما لم أعلمه هو ماذا أفعل بعد ذلك.
          كما ترى، يوجد درويش جوّال تحت سقف تكيتي، يدعى شمس التبريزي، ينطبق عليه وصف الشخص الذي تبحث عنه تماماً.  وهو يؤمن أنه يحمل رسالة خاصة إلى هذا العالم، ولكي يحقق غايته، فهو يبحث عن شخص متنوّر لينقل له رسالته وينوّره.  وأنه لا يبحث عن مريد أو تلميذ، بل يسأل الله أن يعثر على رفيق. وقد أخبرني ذات مرة أنه لم يأت من أجل الناس العاديين، بل أتى ليضع إصبعه على نبض شخص يرشد العالم إلى الحقيقة.


          عندما تلقيت رسالتك، عرفت أنه مقدّر على شمس التبريزي أ، يلتقي الرومي.  ولكي يحظى جميع الدراويش في تكيتي بفرص متساوية، فقد جمعتهم، ومن دون الدخول في أيّ تفاصيل، حدثتهم من عالِم يريد أن يفتح قلبه.  وبالرغم من وجود عدد قليل من المرشحين، كان شمس هو الوحيد الذي أصرّ على قبول ذلك، حتى بعد أن سمع عن أخطار المهمّة.  كان ذلك في الشتاء الماضي، وقد تكرر المشهد نفسه في الربيع وثم في الخريف.
          لعلك تتساءل لماذا انتظرت طوال هذه المدة.  فكرت بذلك كثيراً وبصراحة، لا يمكنني أن أقدم سبباً واحداً فقط:  فقد بدأت أحبّ شمس كثيراً، وقد آلمني كثيراً أن أرسله في رحلة خطيرة.
          وكما ترى، فإن شمساً ليس شخصاً سهل المعشر، فبما أنه عاش حياة بداوة، فهو يستطيع أداء هذه المهمة، لكنه إذا أقام في مدينة  واختلط بأهلها، فإني أخشى أنه سيزعج البعض، لذلك حاولت تأجيل رحلته بقدر ما بوسعي.
          في المساء الذي سيف مغادرة شمس، تمشينا طويلاً حول أشجار التوت حيث أربّي دود القز.  إن العادات القديمة قلما تموت.  إن الحبّ رهيف على نحو ممض، وقوي على نحو مدهش، أشبه بالحرير.  وقد شرحت لشمس كيف أن دودة القز تتلف الحرير الذي تنتجه بعد أن تنبثق من شرنقتها.  لذلك يتعين على المزارعين الاختبار بين الحرير ودودة القز. وفي أحيان كثيرة، فهم يقتلون دودة القز وهي لا تزال داخل الشرنقة لإخراج الحرير سليماً، ولصنع وشاح حريري واحد، تُستخدم المئات من دود القز.



          كان المساء على وشك الانتهاء. هبّت علينا ريح باردة، وبدأت أرتعش.  ففي شيخوختي، أصبحت أبرد بسهولة، لكني عرفت أن هذه الرعشة ليس سببها شيخوختي، بل لأنني أدركت أن هذه هي المرة الأخيرة التي يقف فيها شمس في بستاني، وأن أحدنا لن يرى الآخر مرة أخرى.  ليس في هذا العالم.  ولا بدّ أنه هو أيضاً قد أحسّ بذلك، لأنني رأيت حزناً في عينيه.
          عندما بزغ الفجر هذا الصباح، جاء ليقبّل يدي، ويطلب مباركتي.  فوجئت عندما رأيته قد قصّ شعره الأسود الطويل وحلق لحيته، لكنه لم يقدم تفسيراً وأنا لم أسأله.  وقبل أن يغادر، قال إن دوره في هذه القصّة يشبه دودة القز.  وسينسحب هو والرومي إلى شرنقة العشق الإلهي، ولن يخرجا منها إلا عندما يحين الوقت ويُنسج الحرير الثمين.  لكن في النهاية، لكي يعيش الحرير، يجب أن تموت دودة القز.
          ثم غادر إلى قونية.  حفظه الله. أعرف أنني فعلت ما كان عليّ فعله، وكذلك أنت، لكن قلبي مثقل بالحزن، وقد بدأت أشتاق إلى أكثر الدراويش الذين رأيتهم في تكيتي غرابة وجموحاً.
          في النهاية إنا لله وإنا إليه راجعون.

                                                                                       كفاك الله،
                                                                                       بابا زمان






التلميذ

بغداد، 29 أيلول (سبتمبر) 1243
          ليس من السهل أن تكون درويشاً، هكذا حذّرني الجميع، لكن الشيء الذي نسوا أن يذكروه لي هو أنني سأعاني الأمرّين إن أن أصبحت درويشاً.  فأنا أعمل كالكلب منذ أن وصلت إلى هذه التكية.  ففي معظم الأيام، أعمل كثيراً إلى درجة أنني عندما آوي أخيراً إلى فراشي، لا يغمض لي جفن من التشنج الذي يصيب عضلاتي والألم الذي يعتري قدميَّ.  وأتساءل هل لاحظ أحد المعاملة السيئة التي أتعرض لها.  وحتى لو لاحظ أحد ذلك، فمن المؤكد ألاّ يبدي أحد أي اهتمام.  وكلما عملت أكثر، ازداد الأمر سوءاً.  حتى إنهم لا يعرفون اسمي، وكانوا يتهامسون ويطلقون عليّ من وراء ظهري اسم "التلميذ الجديد المجهول ذي الشعر الأحمر".
          وكان أسوأ شيء بالنسبة لي هو العمل في المطبخ تحت إشراف الطاهي.  فلا يملك هذا الرجل بين جنبيه قلباً، بل قطعة من صخر.  وكان الأجدر به أن يكون قائداً متوحشاً، متعطشاً للدماء في جيش المغول، لا طاهياً في تكية للدراويش.  فلا أذكر أني سمعته يقول



كلاماً لطيفاً لأحد، ولا أظن أنه يعرف حتى كيف يبتسم.
          وفي أحد الأيام، سألت أحد كبار الدراويش هل يجب على التلميذ أن يخضع لمحنة العمل مع طاه في المطبخ، فابتسم ابتسامة غامضة وأجاب: "ليس كلّ التلاميذ، بل بعضهم فقط".
          إذاً لماذا أنا؟  لماذا يريدني السيّد أن أعاني أكثر من التلاميذ الآخرين؟  هل لأن "نفسي" اعظم من "نفوسهم" لذلك فإنني بحاجة إلى معاملة أقسى لتأديبي؟
          ففي كلّ يوم، أكون أول المستيقظين، فأجلب الماء من الجدول القريب، ثمّ أوقد النار في الموقد، وأخبز خبز السمسم المرقق. وأعدّ الحساء للفطور.  فليس من السهل توفير الطعام لخمسين شخصاً، إذ يجب طهو كلّ شيء في قدور لا يقلّ حجم كلّ منها عن حجم أحواض الحمّامات.  واحرزوا من يكشطها ويغسلها بعد ذلك؟ وإني أمضي كلّ وقتي، من الفجر حتى المغرب، في تنظيف الأرضيات، والأسطح، والدرج، وأكنس الفناء، وأقطع الحطب، وأقضي ساعات عدة جاثياً على يديّ وركبتي في كشط وتنظيف ألواح الأرضيات القديمة التي تصدر صريراً.  وكنت أعدّ مربى البرتقال والأطعمة الحارة، وأخلّل الجزر والقرع، وأحرص على إضافة الكمية الملائمة من الملح، إلى حد يكفي لجعل بيضة تطفو.  فإذا أضفت قدراً أكثر أو أقل من الملح، تنتاب الطاهي نوبة غضب، فيكسر جميع المرطبانات، ويصبح لزاماً عليّ إعداد كلّ شيء من جديد.
          والأنكى من كل ذلك، كان يطلب مني ترديد أدعية باللغة العربية أثناء قيامي بكلّ عمل من هذه الأعمال.  ويطلب مني أن أردد هذه


الأدعية بصوت عال لكي يتأكد من أنني لم أنس كلمة منها أو أخطئ بلفظها.  لذلك فإني أصلّي وأعمل، وأعمل وأصلّي.  وكان معذّبي يدّعي: "كلما تحملت المشاق في المطبخ، نضجت أكثر يا بني، ومع تعلّم الطهو، ستنضج روحك ببطء".
          "لكن إلى متى ستدوم هذه التجربة؟"، سألته ذات مرة.
          فأجاب، "ألف يوم ويوم، فإذا كان بإمكان شهرزاد الحكواتية أن تختلق حكاية جديدة كلّ ليلة طوال هذه المدة، فبوسعك أنت أن تتحمّل ذلك أيضاً".
          هذا جنون! هل بيني وبين شهرزاد أي شبه؟  فكلّ ما كانت تفعله هو أن تضج على وسائد مخملية، وتحرك أصابع قدميها، وتختلق قصصاً خيالية وهي تلقم الملك الفظ حبات العنب الحلو، وما تتفتق عنها مخيلتها.  ولا أظن أنها قامت بعمل شاق، ولا أظن أنها ستتحمل أسبوعاً واحداً لو طلب منها أن تفعل نصف ما أفعله. ولا أعرف هل يحصي أحد الأيام، لكن من المؤكد أنني أحصيها، فلا يزال أمامي 624 يوماً.
          أمضيت الأيام الأربعين الأولى من تجربتي في حجرة صغيرة واطئة ولم يكن بإمكاني الاستلقاء أو الوقوف، لذلك كنت أضطر إلى الجلوس على ركبتيَّ طوال الوقت.  وإذا رغبت في تناول طعام ملائم، أو الحصول على قليل من الراحة، أو إذا خفت من العتمة أو الوحدة، أو لا سمح الله، احتلمت بجسد امرأة، كان يطلب مني أن أقرع الأجراس الفضية المدلاة من السقف لتساعدني روحياً.  لكني لم أفعل ذلك قط.  لكن هذا لا يعني أنه لم تراودني أفكار مشتتة تلهي المرء،


لكن ما الخطأ في أن تخطو للمرء أفكار مشتتة وهو سجين فاقد الحركة؟
          عند انتهاء الخلوة، كنت أعود إلى المطبخ لتبدأ معاناتي على يد الطاهي، وقد عانيت من ذلك بالفعل.  لكن الحقيقة المرّة بقدر مرارتي هي أنني لم أخرق قواعد الطاهي قط – حتى المساء الذي وصل فيه شمس التبريزي.  ففي تلك الليلة، عندما لحق بي الطاهي أخيراً، أوسعني ضرباً، وكسر قضيب شجرة صفصاف تلو آخر على ظهري.  ثمّ وضع حذائي أمام الباب، مقدمته باتجاه الخارج، دلالة على أم الأوان قد حان لأغادر.  ففي تكية الدراويش، لا يطردونك ولا يقولون لك صراحة أنك أخفقت، بل يجعلونك تغادر بصمت.
          "لا نستطيع أن نجعل منك درويشاً رغماً عنك"، أعلن الطاهي، "إذا يمكن للمرء أن يجلب حماراً إلى الماء، لكنه لا يستطيع أن يرغمه على الشرب.  فيجب أن يكون لدى الحمار الاستعداد لذلك.  لا توجد وسيلة أخرى".
          بالطبع فهو يقصد أني أنا الحمار.  بصراحة، كنت أنوي مغادرة هذا المكان منذ زمن بعيد لولا وجود شمس التبريزي.  إذاً إن فضولي بمعرفته أكثر جعلني أتسمّر في هذا المكان.  فأنا لم ألتق بشخص مثله من قبل.  إذ إنه لم يكن يخشى أحداً، ولم يكن يطيع أحداً.  حتى الطاهي كان يكنّ له احتراماً كبيراً.  وإن كان من قدوة يحتذى بها في هذه التكية، فهي شمس بكل سحره، وكرامته، وتمرده، لا المعلّم الشيخ المتواضع.
          نعم، كان شمس التبريزي بطلاً في نظري.  فبعد أن رأيته، عرفت أنني لست بحاجة لأن أصبح درويشاً وديعاً.  فلو أمضيت وقتاً كافياً


معه، لأصبحت شخصاً مقداماً، حازماً، متمرداً.  لذلك عندما حلّ الخريف، وأدركت أن شمساً سيغادر ولن يعود، قررت أن أغادر معه. 
          بعد أن حسمت أمري، ذهبت لرؤية بابا زمان، فوجدته جالساً، يقرأ في كتاب قديم على ضوء فانوس.
          "ماذا تريد أيها التلميذ؟"، سأل متعباً، وكأن رؤيتي أتعبته.
          وقلت بقدر ما أمكنني من الصراحة: "لقد علمت أن شمس التبريزي سيغادر قريباً، يا سيدي.  أريد أن أذهب معه، فقد يحتاج إلى رفيق في رحلته".
          "لم أكن أعرف أنك مهتم به إلى هذه الدرجة"، قال السيّد مرتاباً، "أم أنك تقول ذلك لتتهرب من عملك في المطبخ؟ فلم تنته فترة تدريبك بعد، ولا يمكن القول إنك أصبحت درويشاً".
          "لعل مرافقة شخص مثل شمس في رحلته هي أفضل تدريب لي"، قلت عارفاً إن قول ذلك يعد جرأة، ومع ذلك فقد قلته.
          أطرق السيّد مفكراً، وكلما طال صمته، ازددت اقتناعاً بأنه سيوبّخني على وقاحتي، وينادي الطاهي لمعاقبتي.  لكنه لم يفعل ذلك، بل نظر إليّ ببأس وهزّ رأسه.
          "لعلك لم تخلق للعيش في تكية يا بني.  فمن بين كلّ سبعة تلاميذ يبدأون هذا الطريق، لا يبقى إلا واحد.  وإحساسي يقول لي إنك لا تصلح لأن تكون درويشاً، لذلك يجب أن تبحث عن قسمتك في مكان آخر.  أما بالنسبة لمرافقة شمس في رحلته، فيجب أن تسأله هو". وبإنهاء حديثنا هكذا، اختتم بابا زمان هذا الموضوع بإيماءة مؤدبّة وحازمة برأسه، وعاد إلى كتابه.  أحسست بأنني حزين وصغير، لكني شعرت بأنني أصبحت حراً على نحو غريب.




شمس

بغداد، 30 أيلول (سبتمبر) 1243
          في مواجهة الريح، انطلقت ممتطياً فرسي عند بزوغ الفجر. توقفت مرة واحدة فقط لألقي نظرة إلى الوراء، فرأيت تكية الدراويش وكأنها عشّ طيور تتوارى بين أشجار التوت وشجيرات أخرى.  وللحظات عدة، ظلّ وجه بابا زمان المرهق يتراءى أمامي.  فقد كنت أعرف أنه كان قلقاً عليّ، لكني لم أر سبباً حقيقياً يدعوه لأن يقلق.  فقد انطلقت في رحلة حبّ داخلية، فكيف يمكن أن يفضي ذلك إلى وقوع أيّ ضرر؟  ها هي قاعدتي العاشرة: لا يوجد فرق كبير بين الشرق والغرب، والجنوب والشمال.  فمهما كانت وجهتك، يجب أن تجعل الرحلة التي تقوم بها رحلة في داخلك.  فإذا سافرت في داخلك، فسيكون بوسعك اجتياز العالم الشاسع وما وراءه.
          وبالرغم من أنني كنت أتوقع مواجهة بعض المشاق، فلم يساورني القلق.  ورحّبت بالقدر الذي كان بانتظاري في قونية.  وبما أنني صوفي، فقد تعلّمت أن أتقبّل الشوكة والوردة معاً، مساوئ الحياة ومحاسنها.  وها هي قاعدة أخرى: عندما تجد القابلة أن الحبلى لا

تتألم أثناء المخاض، فإنها تعرف أن الطريق ليس سالكاً بعد لوليدها، فلن تضع وليدها إذاً، ولكي تولد نفس جديدة، يجب أن يكون ألم.
          وكما يحتاج الصلصال إلى حرارة عالية ليشتدّ، فالحبّ لا يكتمل إلاّ بالألم.
***
          قبل أن أغادر تكية الدراويش بليلة واحدة، أشرعت جميع النوافذ في غرفتي كي تهبّ عليها أصوات وروائح الظلام.  وعلى ضوء الشمعة المتراقص، قصصت شعري الطويل، وسقطت خصلات سميكة منه على الأرض.  ثمّ حلقت لحيتي وشاربي، ونزعت حاجبيَّ.  وعندما أنهيت ذلك، أمعنت النظر في الوجه المنعكس في المرآة الذي ازداد بريقاً وشباباً.  فبعد أن أزلت الشعر، أصبح وجهي مجرداً من أي اسم أو عمر أو جنس، ولم يعد له ماض ولا مستقبل، وأصبح مغلقاً إلى الأبد في هذه اللحظة.
          "بدأت رحلتك تغيّرك"، قال السيّد عندما ذهبت إلى غرفته لتوديعه، "وهي لمَّا تبدأ بعد".
          فقلت بهدوء: "نعم، إني أدرك ذلك".  وها هي قاعدة أخرى من القواعد الأربعين: "إن السعي وراء الحبّ يغيّرنا.  فما من أحد يسعى وراء الحبّ إلا وينضج أثناء رحلته.  فما إن تبدأ رحلة البحث عن الحبّ، حتى تبدأ تتغيّر من الداخل ومن الخارج".
          بابتسامة طفيفة، أخرج بابا زمان صندوقاً مخملياً وقدمه لي، فوجدت في داخله ثلاثة أشياء هي: مرآة فضّية، ومنديل حريري، وقارورة زجاج فيها بلسم.

          "ستساعدك هذه الأشياء في رحلتك.  استخدمها عندما تحتاج إليها.  فإذا فقدت الثقة بنفسك، ستريك المرآة جمالك الداخلي، وإذا أحسست بأن سمعتك قد شابتها شائبة، سيذكّرك المنديل بشدة نقاء قلبك.  أما البلسم، فإنه سيشفي جراحك، الداخلية والخارجية".
          تلمست كلّ واحدة منها، ثم أغلقت الصندوق، وشكرت بابا زمان وقلت: "أظن أنك لا تريد أن تقول شيئاً آخر".
          ومع خيوط الفجر الأولى للصباح، وعندما بدأن العصافير تغرّد، وعندما بدأت قطرات ندى صغيرة تتساقط من الأغصان، امتطيت فرسي، وانطلقت باتجاه قونية، لا أعرف ماذا بانتظاري، لكني كنت واثقاً من القدر الذي كتبه الله لي.






التلميذ


بغداد، 30 أيلول (سبتمبر) 1243
          امتطيت الحصان الذي سرقته، وانطلقت وراء شمس التبريزي.  ومع أنني بذلت ما بوسعي للحفاظ على مسافة أمان بيننا، تبين لي أنه يستحيل عليّ اللحاق به ومتابعته من دون أن يراني.
          عندما توقّف شمس في أحد أسواق بغداد لينال قسطاً من الراحة ويشتري بضعة أشياء يحتاج إليها في رحلته، قرّرت أن أظهر نفسي له، فارتميت أمام حصانه.
          "أيها الشاب المجهول ذو الشعر الأحمر، ماذا تفعل عندك ممدداً على الأرض؟"، صاح شمس من فوق حصانه، وقد بدا نصف مبتهج، نصف مندهش.
          جثوت أمامه، وشبكت يديَّ، ومططت رقبتي ، كما يفعل الشحاذون، وقلت متوسلاً: "أريد أن أرافقك.  أرجوك دعني أرافقك".
          "هل تعرف إلى أين أنا ذاهب؟".
          لذت بالصمت.  لم يخطر لي هذا السؤال من قبل، فقلت: "لا، لكن ذلك لا يهمّ.  أريد أن أكون مريداً لك.  إنك قدوتي".

          فقال شمس: "لقد اعتدتُ على الترحال وحيداً، ولا أرغب في أن يكون لي مريدون أو تلاميذ، شكراً لك؟ ومن المؤكد أنني لست قدوة لأحد، وخاصة لك، فامض في طريقك.  لكن إذا ظللت تبحث عن معلّم في المستقبل، فأرجو أن تتذكّر قاعدة ذهبية تقول:  يوجد معلّمون مزيفون وأساتذة مزيفون في هذا العالم أكثر عدداً من النجوم في الكون المرئي.  فلا تخلط بين الأشخاص الأنانيين الذين يعملون بدافع السلطة وبين المعلّمين الحقيقيين.  فالمعلّم الروحي الصادق لا يوجّه انتباهك إليه ولا يتوقّع طاعة مطلقة، أو إعجاباً تاماً منك، بل يساعدك على أن تقدّر نفسك الداخلية وتحترمها.  إن المعلّمين الحقيقيين شفّافون كالبلور، يعبر نور الله من خلالهم".
          "أرجوك امنحني فرصة"، قلت متوسلاً، "فلدى جميع الرحالة المشهورين من يساعدهم في حلّهم وترحالهم، كمريد أو خادم".
          حكّ شمس ذقنه مفكراً، وكأنه يقرّ بصحة كلماتي، وسأل: "هل تقدر على مرافقتي؟".
          وثبت واقفاً على قدميّ، وهززت رأسي بمجامع قلبي وقلت: "طبعاً.  وقوتي تنبع من داخلي".
          "حسناً إذاً.  ها هي مهتمّك الأولى: أريدك أن تتوجه ألى أقرب حانة وتطلب إبريقاً مليئاً بالخمر، وتأتي به وتشربه هنا في السوق".
          كنت أقول بتنظيف الأرضيات بعباءتي، وتلميع القدور حتى تصبح براقة كالزجاج الفينيسي (نسبة إلى البندقية) الجميل الذي رأيته مع أحد الحرفيين كان قد هرب من القسطنطينية منذ أمد بعيد عندما اجتاح الصليبيون المدينة، وأستطيع أن أفرم مائة بصلة بجلسة واحدة، أو أقشّر

وأهرس فصوص الثوم، كلّ ذلك باسم النماء الروحي.  لكن احتساء خمرة بين جمع الناس في السوق يفوق طاقتي.  فنظرت إليه برعب.
          "لا يمكنني أن أفعل ذلك.  فلو عرف أبي، لكسر ساقيّ.  فقد أرسلني إلى تكية الدراويش لأصبح مسلماً صالحاً، لا أصبح كافراً من عبدة الأوثان.  ماذا ستقول عني عائلتي وأصدقائي؟".
          أحسست بنظرة شمس الحارقة التي وجّهها إليّ، فارتعش جسدي كله كما ارتعش عندما تجسّست عليه خلف الأبواب المغلقة.
          "كما ترى لا يمكن أن تصبح مرافقاً لي"، قال بنبرة تشي بالاتهام، "فأنت تهتم كثيراً برأي الناس فيك.  لكن أتعرف؟ لأنك شديد الحرص على نيل موافقة الآخرين، قلن تتخلّص من نقدهم، مهما حاولت".
          أدركت أن فرصتي لمرافقته بدأت تبتعد، فانبريت للدفاع عن نفسي، "كيف يمكنني أن أعرف أنك لا تختبرني بهذا السؤال؟ فالإسلام يحرّم الخمر".
          "لكن هذا لعب بالله.  فليس من مهمتنا أن يحكم أحدنا على إيمان الآخر"، أجاب شمس.
          تطلعت حولي بيأس، لا أعرف ماذا أفعل بكلماته، فقد أخذ عقلي يتخبط مثل عجينة فطيرة.
          واصل شمس كلامه وقال: "إنك تقول إنك تريد أن تجتاز الطريق، لكنك لا تريد أن تضحي بأيّ شيء في سبيل  تحقيق هذه الغاية.  المال، أو القوة، أو الشهرة، أو الإسراف، أو المتعة الجسدية – أي شيء يعتبره المرء عزيزاً عليه في الحياة، يجب عليه أن يتخلّص منه أولاً".

          ربّت شمس على حصانه، وأنهى كلامه بقوله: "أظن أنك يجب أن تعود إلى أسرتك في بغداد.  ابحث عن حرفي صادق وتتلمذ عليه.  لديّ شعور بأنك يمكن أن تصبح تاجراً جيداً ذات يوم.  لكن لا تكن جشعاً! والآن، اسمح لي، يجب أن أنطلق".
          بذلك، حيّاني للمرّة الأخيرة، ولكز حصانه، وانطلق مبتعداً، وأخذ العالم ينزلق تحت حوافره الهادرة.  قفزت على فرسي ولحقت به نحو أطراف بغداد، لكن المسافة بيننا بدأت تتسع، حتى أصبح مجرد بقعة داكنة من بعيد.  وحتى بعد مضي فترة طويلة من اختفاء تلك البقعة في الأفق، شعرت بوطأة شمس عليّ.





إيلا

نورثامبتون، 24 أيار (مايو) 2008
          كانت إيلا ترى أن وجبة الفطور هي أهم وجبة في اليوم.  وفي صباح كلّ يوم، سواء أكان عطلة نهاية الأسبوع، أم خلال الأسبوع، كانت تتوجه إلى المطبخ، وكانت تقول لنفسها إن وجبة الفطور الجيدة تحدّد مسار بقية اليوم.  فقد قرأتْ في إحدى المجلات النسائية أن أفراد الأسرة الذين يتناولون وجبة الفطور معاً بانتظام يكونون أكثر انسجاماً وتماسكاً من أفراد الأسرة الذين يخرجون من البيت نصف جائعين.  ومع أنها كانت تؤمن بذلك، كان عليها أن تستمتع بتناول الفطور الذي تحدثت عنه المجلات.  لكن تجربتها مع وجبة الفطور كانت أشبه باصطدام المجرات، لأن لكلّ فرد من أفراد أسرتها رغبة مختلفة في الطعام.  فقد كان كلّ واحد منهم يرغب في تناول شيء مختلف، وكان كذلك يناقض فكرة إيلا عن تناول الطعام معاً.  فكيف يمكن أم توجد وحدة على المائدة بينما يقضم أحدهم شريحة خبز محمّص مع المربّى (جانيت)، ويتنازل آخر رقائق الحبوب المحلاة بالعسل (آفي)، وثالث ينتظر أن يقدم له طبق البيض المقلي (ديفيد)، ورابع يرفض


تناول أيّ شيء (أورلي)؟  وعلى الرغم من كل ذلك، فقد كانت وجبة الفطور مهمة، وكانت تجهّزها صباح كلّ يوم، عازمة على ألا يبدأ أي من أولادها يومه بتناول قطع البسكويت، أو تناول طعام رخيص آخر.
          لكن إيلا عندما دخلت المطبخ هذا الصباح، كان أول شيء فعلته هو أنها جلست إلى طاولة المطبخ وفتحت حاسوبها النقال، بدلاً من أن تعدّ القهوة، أو عصير البرتقال، أو تحمّص شرائح الخبز.  وفتحت الإنترنت لرؤية هل أرسل لها عزيز رسالة إلكترونية.  ويا لبهجتها، فقد وجدت رسالة.
العزيزة إيلا،
          غمرتني السعادة عندما علمت أن الأمور تحسّنت بينك وبين ابنتك.  أما أنا، فقد غادرت قرية موموستينانغو البارحة عند الفجر.  والغريب في الأمر مع أنني لم أمكث هنا سوى بضعة أيام، فإنني حزنت كثيراً عندما حان الوقت لتوديعها، بل كدت أشعر بالكآبة.  وتساءلت هل سأتمكن من رؤية هذه القرية الصغيرة في غواتيمالا  ثانية؟  لا أظن.
          وكلّما ودّعت مكاناً أحبّه، أحسّ بإني أترك فيه جزءاً مني.  ويخيّل إليّ أننا سواء اخترنا الترحال كما فعل ماركو بولو، أو ظللنا في البقعة نفسها من المهد إلى اللحد، فإن الحياة عبارة عن سلسلة من الولادات والوفيّات.  إذ تولد لحظات وتموت أخرى، واكي تبرز التجارب الجديدة، تذوي التجارب القديمة.  ألا تظنين ذلك؟
          وعندما كنت في موموستينانغو، رحت أتأمّل محاولاً تخيّل هالتك، وسرعان ما برزت لي ثلاثة ألوان هي: الأصفر الدافئ، والبرتقالي

الخجول، والأرجواني.  أحسست بأن هذه هي ألوانك، وخيّل إليّ أنها ألوان جميلة، سواء أكانت منفصلة أم مجتمعة.
          كانت تشاغول محطتي النهائية في غواتيمالا – وهي بلدة صغيرة تتناثر فيها بيوت مشيدة بالطين، وفي عيون أطفالها حكمة تتجاوز أعمارهم.  ونساؤها من مختلف الأعمار ينسجن في بيوتهن سجاجيد جدارية مزخرفة رائعة.  وقد طلبت من امرأة عجوز أن تختار سجادة جدارية، وقلت لها إنني سأرسلها إلى سيدة تعيش في نورثامبتون.  وبعد أن فكرت قليلاً.  سحبت سجادة من بين كومة كبيرة من ورائها.  وأقسم بالله، كان فيها أكثر من خمسين سجادة من جميع الألوان.  لكن السجادة التي اختارتها لك كانت منسوجة بثلاثة ألوان فقط: أصفر وبرتقالي وأرجواني.  أظن أنك ترغبين في معرفة هذه الصدفة، إن كان من شيء كهذا في كون الله.
          هل خطر في بالك أن تبادلنا الرسائل قد لا يكون ناجماً عن الصدفة؟  مع أحرّ التحيات،

                                                                                            عزيز

          ملاحظة: إذا أردتِ، يمكنني أن أرسل إليك السجادة الجدارية بالبريد، أو يمكنني أن أنتظر حتى يأتي اليوم الذي نلتقي فيه ونحتسي كوباً من القهوة وأقدمها لك بنفسي.
          أغمضت إيلا عينيها وحاولت أن تتخيّل كيف تحيط ألوان هالتها بوجهها.  ومن الغريب أن الصورة التي برزت في عقلها، لم تكن


صورتها وهي امرأة في عمرها، بل صورتها عندما كانت طفلة، في حوالي السابعة من عمرها.
          عادت تتدفق إليها ذكريات كثيرة، ذكريات خيّل إليها أنها نسيتها منذ زمن بعيد.  صورة أمّها وهي واقفة وقد وضعت مئزراً أخضر بلون الفستق حول خصرها، تمسك بيدها كوباً للقياس، وعلى وجهها قناع رمادي من الألم، وقلوب ورقية معلقة على الجدران، لامعة وبرّاقة، وجسد والدها يتدلى من السقف كأنه يريد أن يمتزج بزينة عيد الميلاد، ويضفي على البيت شكلاً بهيجاً.  تذكّرت كيف أمضت سنوات مراهقتها، وكيف أنها حمّلت أمّها مسئولية انتحار أبيها.  وعندما كانت إيلا فتاة صغيرة، وعدت نفسها بأنها عندما تتزوّج، فإنها ستسعد زوجها وألا تفشل في زواجها، مثل أمّها.  وفي سعيها لجعل زواجها مختلفاً عن زواج أمّها بقدر ما تستطيع، لم تتزوّج رجلاً مسيحياً، بل فضّلت أن تتزوج رجلاً من دينها.
          ومنذ سنوات قليلة قط، توقّفت إيلا عن كراهية أمّها العجوز، وبالرغم من أنهما أصبحتا على وفاق مؤخراً، كان القلق في أعماقها لا يزال يعتريها  عندما تتذكّر الماضي.
          "ماما! . . . الأرض لأمّنا! الأرض لأمّنا".
          سمعت إيلا موجة من الضحك والهمسات وراء كتفها.  عندما التفتت، رأت أربعة أزواج من العيون تراقبها.  فللمرة الأولى، جاءت أورلي وآفي وجانيت وديفيد لتناول طعام الفطور، ووقفوا بجانب بعضهم بعضاً يتأملونها كما لو كانت مخلوقة غريبة.  ومن الطريقة التي كانوا ينظرون إليها، بدا كأنهم يقفون هناك منذ فترة، محاولين لفت انتباهها.

          "صباح الخير، لكم جميعاً"، قالت إيلا بابتسامة.
          "كيف لم تسمعينا؟، سألتها أورلي، والدهشة ترتسم على وجهها.
          "كنتِ مستغرقة تماماً في تلك الشاشة"، قال ديفيد من دون أن ينظر إليها.
          تبعت إيلا نظرة زوجها، ورأت على الشاشة المفتوحة أمامها، رسالة عزيز ز . زاهارا وهي تومض بشكل باهت، فأغلقت حاسوبها النقال بسرعة من دون أن تطفئه.
          "توجد رسائل عدة من الوكالة الأدبية يجب أن أقرأها"، قالت إيلا، "كنت أكتب تقريري".
          "لا، كنت تقرأين رسائلك الإلكترونية"، قال آفي، بوجه متجهّم.
          ما الذي يجعل الفتيان المراهقين يتحمسون لأن يكشف أحدهم عيوب الآخر وأكاذيبه؟  تساءلت إيلا.  لكنها أحست بالارتياح، عندما لم يبد الآخرون اهتماماً بالموضوع، بل راحوا جميعاً ينظرون إلى مكان آخر، موجّهين نظراتهم إلى طاولة المطبخ.
          التفتت أورلي نحو إيلا، وسألت بالنيابة عنهم جميعاً: "ماما، لماذا لم تحضّري وجبة الفطور هذا الصباح؟".
          التفتت إيلا نحو الطاولة ورأت ما كانوا ينظرون إليه.  فلم تكن هناك قهوة، ولا بيض مقلي مخفوق على الموقد، ولا خبز محمص بمربى العنّاب.  هزّت رأسها عدة مرات، كما لو أنها توافق على صوت داخلي يقول حقيقة لا يمكن نكرانها.

          صحيح، قالت لنفسها، كيف نسيتِ أن تعدّي طعام الفطور؟

هناك تعليق واحد:

  1. الكويكبات هي عوالم صخرية تدور حول الشمس وهي أصغر من أن تُسمى الكواكب. ومن المعروف أيضا باسم الكواكب أو الكواكب الصغيرة. هناك ملايين الكويكبات ، يتراوح حجمها من مئات الأميال إلى عدة أقدام. في المجموع ، كتلة كل الكويكبات أقل من كتلة كوكب الأرض.

    على الرغم من حجمها ، يمكن أن تكون الكويكبات خطيرة. لقد ضرب الكثيرون الأرض في الماضي ، وسوف يصطدم الكثيرون بكوكبنا في المستقبل. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل العلماء يدرسون الكويكبات ويتوقون لمعرفة المزيد عن أعدادهم ومداراتهم وخصائصهم الفيزيائية. إذا توجه كويكب في طريقنا ، نريد أن نعرف ذلك. https://wearecurious.net/questions/31822/ma-afdl-almmarsat-llrbt-aal-ard-sndok-maadny

    ردحذف