الجزء الثاني
الماء
الأشياء السائلة تتغيَّر،
ولا يمكن التنبؤ بها
الرومي
قونية، 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
كان
البدر المتلألئ المكتمل يشبه لؤلؤة رائعة معلقة في السماء. نهضتُ من السرير ونظرتُ من النافذة إلى الفناء
الذي يغمره ضوء القمر. لكن حتى رؤية هذا
الجمال الرائع، لم تخفف شدّة ضربات قلبي أو ارتعاش يدي.
"أفندي،
إنك تبدو شاحباً. هل رأيت الحلم ذاته ثانية؟"، همست زوجتي، "هل أجلب لك
كوباً من الماء؟".
طمأنتها
وطلبت منها أن تعود إلى فراشها. فليس
بإمكانها أن تفعل شيئاً. لأن أحلامنا جزء
من قدرنا، فهي تأخذ مسارها كما يشاء الله.
وقلت لنفسي لا بدّ من وجود سبب يجعلني أرى الحلم ذاته في كل ليلة من
الليالي الأربعين الماضية. وكانت بداية
الحلم تختلف قليلاً في كلّ مرة، أو لعلها كانت هي نفسها دائماً، لكني أنا الذي كنت
ألجه من باب مختلف في كلّ ليلة.
هذه
المرة، رأيت نفسي أقرأ القرآن في غرفة مفروشة بالسجاد بدت مألوفة لي، لكنها لم تكن
تشبه أي مكان ذهبت إليه من قبل. قبالتي
جلس درويش، طويل، نحيف، منتصب القامة، على وجهه حجاب،
يحمل شمعداناً فيه خمس شموع متوهّجة تمدني بالضوء، لأتمكن من القراءة.
بعد
قليل رفعت رأسي لأطلع الدرويش على القصيدة التي كنت أقرأها، وعندها فقط أدركت، ويا
لرهبتي، أن ما خلته شمعداناً، كان في الحقيقة اليد اليمنى لرجل. كان الدرويش يمدّ يده إليّ، وكل أصبع من أصابعه
يشتعل.
وبرعب،
تطلعت حولي بحثاً عن الماء، لكن لم يكن هناك ماء على مرمى البصر. فخلعت عباءتي ورميتها على الدرويش لأطفئ
اللهب. لكن عندما رفعت العباءة، كان قد
اختفى، مخلّفاً وراءه شمعة مشتعلة.
ومنذئذ،
أصبحت أرى الحلم نفسه على الدوام. بدأت
أبحث عنه في البيت، وأفتّش في كلّ زاوية وركن.
ثم عدوت إلى الفناء، الذي تفتّحت فيه الورود في بحر من اللون الأصفر
البراق، ورحت أصيح يمنة ويسرة، لكني لم أر الرجل في أي مكان.
"عد
أيها الحبيب. أين أنت؟".
وأخيراً،
كما لو أنّ حدساً مشؤوماً يقودني، اقتربت من البئر ونظرت في المياه الداكنة
المتماوجة في القعر. في البداية لم أر
شيئاً، لكن بعد قليل، غمرني القمر بنوره المتلألئ وأضاء الفناء بلمعان نادر. عندها فقط لاحظت عينين سوداوين تحدّقان فيّ
بحزن غير مسبوق من قاع البئر.
"لقد
قتلوه"، صاح أحدهم. ربما كان ذلك أنا
نفسي. ربما بدا صوتي هكذا في حالة من
العذاب اللامتناهي.
ورحت
أصرخ وأصرخ حتى أمسكتني زوجتي بقوة، وضمتني إلى صدرها، وسألتني برقة، "أفندي،
هل راودك الحلم نفسه ثانية؟".
***
بعد أن
نامت كيرا ثانية، تسللت إلى الفناء. في
تلك اللحظة، تحصّل لديّ انطباع بأن الحلم لا يزال معي، واضحاً ومخيفاً. وفي هدأة الليل، أحدثت رؤية البئر رعشة سرت في
أوصالي، لني لم أتمالك نفسي من الجلوس بجانبه، ورحت أنصت إلى حفيف النسيم الليلي
بين الأشجار.
وفي
أوقات كهذه، كانت تغمرني موجة من الحزن المفاجئ، لا أعرف سببها. لقد اكتملت حياتي وحققت ما كنت أصبو إليه، فقد
أنعم الله عليّ بالأشياء الثلاثة العزيزة عليّ وهي: المعرفة، والفضيلة، والقدرة
على مساعدة الآخرين في البحث عن الله.
وبعد أن
بلغت الثامنة والثلاثين من العمر، منحني الله أكثر مما كنت أطلبه. فقد درست حتى أصبحت خطيباً وفقيهاً وعالماً
شرعياً، ودرست العلوم العرفانية، وهي المعرفة التي توهب للأنبياء والأولياء وعلماء
الدين بدرجات متفاوتة. وبتوجيه من أبي
رحمه الله، درست على يد أفضل الأساتذة في عصرنا، وبذلت جهداً كبيراً لتعميق إيماني
بأنّ هذا هو الواجب الذي خصّني به الله.
وكان
أستاذي القديم سيد برهان الدين يقول إني من الناس الذين يحبهم الله كثيراً، لأنني
كُلِّفتُ بهذه المهمّة الشريفة لإبلاغ رسالته إلى عباده ومساعدتهم على التمييز بين
الحق والباطل.
ولسنوات
عدة درّست في المدرسة، وناقشت اللاهوت مع علماء
الشريعة الآخرين، وعلّمت تلاميذي، ودرّست الفقه والحديث،
وألقيت خطب الجمعة في أكبر مساجد المدينة.
وطالما نسيت عدد التلاميذ الذين درّستهم.
وأشعر بالإطراء عندما أسمع الآخرين يمتدحون الخطب التي ألقيها، ويقولون إن
كلماتي غيّرت حياتهم في وقت كانوا في أمس الحاجة إلى الإرشاد والتوجيه.
لقد
أكرمني الله بأسرة محبّة، وأصدقاء طيبين، ومريدين مخلصين. ولم أعاني في حياتي الفاقة أو الشح، مع أن
فقداني لزوجتي الأولى كان شديد الوطأة عليّ.
وظننت أني لن أتزوّج ثانية، لكني تزوجت، وبفضل كيرا، عشت حياة مفعمة بالحبّ
والبهجة. وكبر ولداي، مع أنني لا أكفّ عن
التساؤل بدهشة كيف أن أحدهما يختلف عن الآخر.
فهما مثل بذرتين، بالرغم من أنهما زرعتا جنباً إلى جنب وفي التربة نفسها،
وغذّتهما الشمس ذاتها، وسقتهما نفس الماء، فقد انتشتا فأعطتا نبتتين مختلفتين
تماماً. إني فخور بهما، وفخور أيضاً
بابنتنا المتبناة ذات المواهب الفريدة.
إني رجل سعيد، قانع وراض بحياتي
وبالمجتمع الذي أعيش فيه.
لماذا
إذاً يعتريني شعور بالفراغ في داخلي، يزداد عمقاً واتساعاً يوماً بعد يوم؟ إنه
ينغل في روحي كالمرض ويرافقني حيثما ذهبت، هادئاً كالفأر لكنه مفترس.
شمس
قونية، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
قبل أن
أدخل أبواب أي مدينة لم أزرها من قبل، كنت أتوقف قليلاً لألقي تحية على الأولياء
والقديسين، الأحياء منهم والأموات، المعروفين منهم والمخفيين. فكنت كلما أصل مكاناً جديداً، فإن أول شيء
أفعله هو أن أتلقى بركة الأولياء الصالحين، سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين أو
يهوداً. لأنني أؤمن بأن الأولياء الصالحين
يترفّعون عن هذه الفروق الاسمية التافهة، وهم ينتمون إلى سائر البشرية.
لذلك،
ما إن لاحت لي قونية لأول مرة من مسافة بعيدة، حتى فعلت ما كنت أقوم به، لكن شيئاً
غير عادي حدث. فبدلاً من الردّ على تحيتي،
ومنحي بركاتهم، صمت الأولياء صمت شواهد القبور المحطمة. حيّيتهم ثانية، هذه المرة بصوت أعلى وأشدّ
حزماً، فلعلهم لم يسمعوني. لكن الصمت خيّم
مرة أخرى. عندها أدركت أنهم سمعوني جيداً،
لكنهم لم يمنحوني بركاتهم.
"قولي
لي ماذا في الأمر؟"، طلبت من الريح أن تحمل كلماتي إلى الأولياء والقديسين في
طول البلاد وعرضها.
وبعد
قليل، عادت الريح بالرد، وقالت: "أيها الدرويش، لن تجد في هذه المدينة سوى
نقيضين، ولا شيء بينهما. فإمّا الحبّ
الخالص، وإمّا الكره المحض. إننا نحذّرك. ادخل المدينة على مسؤوليتك الخاصة".
فقلت:
"في هذه الحالة، لا داعي للقلق، فما دمت سأجد الحبّ الخالص، فإن هذا
يكفيني".
عندما
سمع أولياء قونية ذلك، منحوني بركاتهم.
لكنني قررت أن أتأنى في دخول المدينة، فجلست تحت شجرة بلوط. وبينما أخذ حصاني يرعى الأعشاب المتناثرة، رحت
أجيل النظر في المدينة التي لاحت أمامي من بعيد.
فقد كانت مآذن قونية تلمع تحت أشعة الشمس مثل قطع البلور. وكانت تتناهى إليّ، بين الحين والآخر، أصوات
نباح كلاب، ونهيق حمير، وضحكات أطفال، وأصوات باعة يصيحون بأعلى أصواتهم – أصوات
عادية تنم عن أصوات مدينة تضجّ بالحياة.
تساءلت ما هي أنواع البهجة والحزن التي تدور الآن وراء الأبواب الموصدة
والنوافذ المغطاة بستائر من الشبك؟ ولمّا كنت معتاداً على حياة الترحال، كان
المكوث في المدينة يزعجني قليلاً، لكني تذكّرت قاعدة أساسية أخرى تقول: لا تحاول
أن تقاوم التغييرات التي تعترض سبيلك، بل دع الحياة تعيش فيك. ولا تقلق إذا قلبت حياتك رأساً على عقب. فكيف يمكنك أن تعرف أن الجانب الذي اعتدت عليه
أفضل من الجانب الذي سيأتي؟
أخرجني
صوت رقيق من حلم يقظتي، وقال: "السلام عليك أيها الدرويِش".
عندما
التفتُّ، رأيت فلاحاً أسمر البشرة، مقتول العضلات، ذا شاربين متهدلين. كان يركب عربة يجرها ثور ضامر وكأن هذا الحيوان
المسكين على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في أي لحظة.
فأجبته:
"وعليك السلام، بارك الله فيك!".
"لماذا
تجلس هنا وحدك؟ إن كنت قد تعبت من امتطاء
حصانك، فيمكنني أن أوصلك بنفسي".
فقلت له
مبتسماً: "شكراً لك، أظن أنني أستطيع أن أكمل رحلتي مشياً على القدمين أسرع
من ثورك".
"لا
تبخس ثوري قدره"، قال الفلاح، وقد أحسّ بالإهانة، "ربما كان عجوزاً
وضعيفاً، لكنه أعزّ صديق لي".
أذهلتني
هذه الكلمات، فوثبت واقفاً على قدمي، وانحنيت أمام الفلاح. فكيف لي، أنا ذلك العنصر البسيط في دائرة خلق
الله الواسعة، أن أبخس من قدر عنصر آخر في هذه الدائرة، سواء أكان حيواناً أم
إنساناً؟
فقلت:
"إني أعتذر منك ومن ثورك. أرجوك
سامحني".
ارتسم
ظلّ من عدم التصديق على وجه الفلاح. تسمّر
واقفاً للحظة، وخيّل إليه أنني أسخر منه، وقال: "لم يفعل ذلك أحد قط"،
وابتسم لي ابتسامة دافئة.
"أتعني
الاعتذار من ثورك؟".
"وهذا
أيضاً. لكن أحداً لم يعتذر لي قط، بل إن ما يحدث هو العكس تماماً، فأنا الذي أعتذر
دائماً. حتى عندما يخطئ الناس بحقي، فأنا
من أعتذر لهم".
تأثرت من سماع
ذلك، وقلت بهدوء: "يقول القرآن الكريم (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)،
وهي قاعدة من القواعد".
"‘ن
الله منهمك في إكمال صنعك، من الخارج ومن الداخل.
إنه منهمك بك تماماً. فكلّ إنسان
هو عمل متواصل يتحرّك ببطء لكن بثبات نحو الكمال.
فكلّ واحد منا هو عبارة عن عمل فني غير مكتمل يسعى جاهداً للاكتمال. إن الله يتعامل مع كلّ واحد منّا على حدة لأن
البشرية لوحة جميلة رسمها خطاط ماهر تتساوى فيها جميع النقاط من حيث الأهمية
لإكمال الصورة".
"هل
أتيت لتسمع الخطبة أيضاً؟"، سأل الفلاح باهتمام مجدداً، وأضاف : "يبدو
أن المكان سيزدحم بالناس. إنه رجل عظيم".
خفق
قلبي بشدة عندما أدركت من يقصد، فسألته: "قل لي ما الذي يميّز خطب
الرومي؟".
صمت
الفلاح وحدّق في الأفق الواسع. فقد بدا أن
عقله يجول في كل مكان، من دون أن يكون في أي مكان محدد.
ثمّ
قال: "لقد أتيت من قرية رزئت بالنكبات.
ففي البدء حلّت المجاعة، ثمّ جاء المغول الذين حرقوا ونهبوا كلّ قرية مروّا
بها. لكن ما فعلوه في المدن الكبيرة، كان
أسوأ. إذ استولوا على أرضروم وسيواس
وقيصرية، وذبحوا جميع سكانها من الذكور، وسبوا نساءها. لم أفقد أحداً من أحبائي أو أخسر بيتي، لكني
فقدت شيئاً مهماً، وهو بهجتي".
فسألته:
"وما علاقة ذلك بالرومي؟".
حدّق
الفلاح ثانية بثوره، ودمدم بكلام يخلو من أي نبرة: "يقول الجميع إنك إذا
استمعت إلى خطب الرومي، فإن حزنك يزول".
من
الناحية الشخصية، لا أظن أن هناك مشكلة مع الحزن.
بل على العكس تماماً – فالنفاق هو الذي يجعل الناس سعداء، أما الحقيقة
فتجعلهم يشعرون بالحزن. لكني لم أقل ذلك
للفلاح، بل قلت: "لماذا لا أرافقك حتى قونية، وتحدّثني المزيد عن
الرومي؟".
ربطت
رسن حصاني بالعربة، وصعدت إليها وجلست بجانب الفلاح، وأحسست بالسعادة عندما رأيت
أن الثور لم يعبأ بالحمل الإضافي. وبشكل
أو بآخر، راح يسير ببطء شديد على نحو لا يطاق.
وقدم لي الفلاح قطعة من الخبز وجبن الماعز، فرحت أتناولها. ثمّ دخلنا قونية، تحت الشمس المتوجهة في سماء
زرقاء صافية، وتحت عيون أولياء المدينة الساهرة.
"رعاك
الله يا صديقي"، قلت له وقفزت من العربة، وحللت رسن حصاني.
"احرص
على حضور الخطبة"، صاح الفلاح بلهفة.
هززت رأسي وودعته ملوّحاً بيدي، وقلت: "إن شاء الله".
وبالرغم
من أنني كنت أتلهف لسماع الخطبة وأترقب لقاء الرومي، فقد أردت في البداية أن أمضي
بعض الوقت في المدينة، لأتعرف أولاً على آراء سكان المدينة بهذا الخطيب
العظيم. فقد أردت أن أراه بعيون أجنبية،
اللطيفة منها وغير اللطيفة، المحبّة وغير المحبّة، قبل أن أراه بعينيّ رأسي.
حسن المتسوّل
قونية، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
صدّق أو
لا تصدّق، إنهم يطلقون على هذا المطهر(¹) الأرضيّ "العذاب المقدّس". أنا الأبرص العالق في اليمبوس(²) ، الذي لا
يريد كثرٌ، سواء أكانوا أمواتاً أم أحياء، أن أكون بين ظهرانيهم. وتشير إليّ الأمهات في الشارع لإخافة أطفالهن
المشاكسين، ويرجمني الأطفال بالحجارة، ويطردني أصحاب الحوانيت من أمام محلاتهم كي
لا أجلب عليهم سوء الحظّ الذي يلازمني حيثما ذهبت، وتشيح النساء الحبالى بوجوههن
عني عندما تقع أعينهن في عينيّ، خشية أن يلدن أطفالاً مشوهين. ولم يكن يعرف هؤلاء أنهم يريدون تحاشيّ بنفس
القدر الذي أرغب في تحاشيهم وتجنب نظراتهم المحدقة التافهة.
كان
جلدي يتغيّر ويصبح داكناً وغليظاً، وتظهر بقع بأحجام متباينة، بلون البيض
المتعفّن، على كتفيّ وركبتيّ وذراعيّ ووجهي، عندها أشعر بوخز واحتراق، لكن سرعان
ما كان الألم يتلاشى بطريقة ما.
(1)
حاجز بين الجنة والنار.
(2)
دهليز في جهنم.
ثم تكبر هذه البقع وتنتفخ، وتتحوّل إلى بصيلات قبيحة
الشكل، وتتحوّل الأيدي إلى مخالب، ويتشوّه الوجه إلى حدّ يستحيل التعرف عليه. وبعد أن أبدأ ببلوغ المراحل النهائية، لا أعود
أستطيع إغلاق جفنيّ، ويسيل لعابي وتنهمر دموعي من تلقاء نفسها، وقد سقطت ستة أظافر
من أصابعي، وهناك ظفر آخر على وشك السقوط.
ومن الغريب أنه لا يزال لديّ شعر، لذلك يجب أن أعتبر نفسي محظوظاً في هذا
الأمر.
كنت قد
سمعت أنهم يلقون بالمجذومين خارج أسوار المدينة، أنا في هذه المدينة فهم يتركون
المجذوم يعيش فيها، طالما أنه يحمل جرساً لتحذير الآخرين من الاقتراب منه. كما يُسمح لنا بالتسوّل، وهو أمر جيد، لأننا ما
لم نفعل ذلك، فإننا سنتضور جوعاً.
فالتسوّل هو إحدى الوسيلتين الوحيدتين لكي نعيش، أما الوسيلة الأخرى فهي
الصلاة. لا لأن الله يحيط المجذومين
برعاية خاصة، بل لأن البعض يعتقد، لسبب غريب، أنه يفعل ذلك. ذلك، فبقدر ما كان سكان المدينة يحتقروننا، فهم
يحترموننا أيضاً. ويطلبون منا أن نصلّي من
أجلهم لشفاء المرضى والمشلولين والمسنين.
وينفحوننا مبلغاً من المال، ويقدمون لنا الطعام، بأمل أن يستخرجوا بضعة
أدعية إضافية من أفواهنا. وقد يعامل
المجذومون في الشارع معاملة أسوأ من الكلاب، أما في الأماكن التي يلوح فيها شبح
الموت واليأس، فإننا نصبح فيها سلاطين.
وعندما
يطلب مني أن أصلي لشخص لقاء مبلغ من المال، كنت أطرق رأسي وأدمدم بالعربية بكلمات
غير مفهومة، وأدّعي أنني
مستغرق في الصلاة.
فكل ما يمكنني عمله هو الادعاء والتصنّع لأنني أعتقد بأن الله لا يسمعني،
ولا يوجد لديّ سبب يجعلني أؤمن بأنه يسمعني.
بالرغم
من أن التسوّل ليس عملية مريحة، فإني أجده أسهل من الصلاة بكثير. فعلى الأقل أنا لا أخدع أحداً. ويعتبر يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع للتسوّل،
أما رمضان فكل أيامه مريحة. وعادة ما يكون
آخر يوم في رمضان أفضل الأيام للتسوّل، عندما يتسابق الناس، حتى المعدمون الذين لا
يملكون شروى نقير، لدفع الزكاة، ليغفر الله لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر. لذلك نجد الناس مرة واحدة في السنة لا يهربون
من المستوّلين، بل يبحثون عن متسوّل، وكلما ازداد بؤساً، كان أفضل، ويتباهون بأنهم
أسخياء ومحبون للخير، فهم لا يتسابقون لمنحنا مال الزكاة فقط، بل ليشعرونا كذلك
بأنهم يحبوننا في ذلك اليوم.
لعل
اليوم هو أكثر الأيام ربحاً أيضاً، لأن الرومي سيلقي خطبة يوم الجمعة. فقد عجّ المسجد بالمصلين، واصطف الذين لم يجدوا
مكاناً داخل المسجد في الباحة. إن صلاة
العصر هي أفضل فترة للشحاذين والنشّالين، ومثلي تماماً فهم موجودون جميعاً هنا،
يتناثرون في صفوف المصلين.
جلست
قبالة مدخل المسجد مسنداً ظهري إلى شجرة قيقب.
وكان الهواء يعبق برائحة الرطوبة التي تنبعث بعد هطول الأمطار، ممزوجة
برائحة جميلة تهبّ من البساتين البعيدة.
وضعت طاسة التسوّل أمامي. ولم أكن
مثل المتسولين الآخرين، أطلب بصراحة منحي
صدقة. فلا يحتاج المجذوم إلى أن يئنّ ولا أن ينتحب أو
يتوسل، ويختلق قصصاً تظهر تعاسته أو مرضه.
إذ أن لرؤية وجهي تأثير ألف كلمة، لذلك كشفت عن وجهي وجلست.
وبعد
ساعة، بدأت تتساقط في طاستي قطع معدنية كانت جميعها قطعاً نحاسية مكسورة. وكنت أتوق للحصول على قطعة ذهبية محفور عليها
رمز الشمس والأسد والهلال. فمنذ أن خفف
المرحوم علاء الدين كيقباذ القواعد المفروضة على العملات، أُعلن أن جميع العملات
المعدنية الصادرة عن ولاة حلب، والحكّام الفاطميين في القاهرة، والخليفة في بغداد،
فضلاً عن الفلورين الإيطالي، صالحة للتداول، وكان حكّام قونية، بالإضافة إلى
الشحاذين في المدينة، يقبلون استخدامها جميعاً.
وتساقطت
في حضني نقود معدنية وبضع أوراق جافة. فقد
كانت أوراق شجرة القيقب الذهبية المائلة إلى الأحمر تتساقط أيضاً، وعندما هبّت ريح
شديدة، سقط عدد من أوراقها في طاستي، وكأن الشجرة تريد أن تتصدّق عَلَيَّ هي
أيضاً. وفجأة أدركت أن شيئاً مشتركاً يجمع
بيني وبين شجرة القيقب. فالشجرة التي
تتساقط أوراقها في الخريف تشبه رجلاً تتساقط أطرافه عندما يبلغ المراحل الأخيرة من
داء الجذام.
كنت مثل
شجرة عارية. فقد كان يتساقط جلدي وأعضائي
ووجهي، وفي كلّ يوم، كان جزء آخر من جسمي يتخلى عني. ولكن لم يكن لديّ، كما هو حال شجرة القيقب، فصل
ربيع، تتفتح أزهاري فيه، فما أفقده، أفقده إلى الأبد. وعندما يرمقني الناس، فهم لا يرون من أنا، بل
يرون ما أفتقده. وكانوا عندما يلقون قطعة
من النقود في
طاستي، يفعلون ذلك بسرعة كبيرة، ويتحاشون النظر في
عينيّ، وكأن المرض سينتقل إليهم إذا نظروا إليّ.
فقد كنت في نظرهم أسوأ من لصّ أو قاتل.
وبالرغم من أنهم يبغضون هؤلاء المجرمين ويرفضونهم، لم يكونوا يعاملونهم
باعتبارهم أشخاصاً غير مرئيين. أما أنا،
فكلّ ما كانوا يرونه فيّ، هو الموت يحدّق في وجوههم. وهذا ما كان يرعبهم، رؤية أن الموت قد يكون
قريباً وبشعاً إلى هذه الدرجة.
وفجأة
حدث هرج ومرج في الخلف، وسمعت أحدهم يصرخ: "إنه قادم! إنه قادم!".
وكما هو
متوقع، جاء الرومي، ممتطياً حصاناً أبيض كالحليب، مرتدياً قفطاناً عنبرياً رائعاً
مطرّزاً بأوراق ذهبية ولآلئ صغيرة، منتصباً بفخر، حكيماً ونبيلاً، يتبعه حشد من
المعجبين والمريدين. كان يشعّ بها وثقة،
وكان يبدو حاكماً أكثر منه عالم دين – سلطان الريح والنار والماء والتراب – حتى
حصانه المهيب كان ينتصب بثبات، وكأنه يدرك أهمية الرجل الذي يمتطيه.
دسست
النقود في جيبي، ولففت رأسي، وتركت نصف وجهي مكشوفاً، ودخلت المسجد. كان المسجد يعجّ بالناس إلى حد أنه يستحيل معه
على المرء أن يتنفّس، ناهيك عن أن يعثر على مكان يجلس فيه. لكن الشيء الجيد هو أن المجذوم يستطيع أن يجد مكاناً، مهما كان المكان مكتظاً، لأن
أحداً لا يريد أن يجلس بجانبه.
"إخوتي"،
قال الرومي الذي بدأ صوته يعلو وينخفض، "إن رحابة الكون تجعلنا نشعر بضآلتنا،
بل بعدم أهميتنا. وقد يتساءل البعض:
"ما المعنى الذي يمكن أن يتحصّل لديّ، في معرفتي المحدودة ، عن
الله؟، ويخيّل إليّ أن هذا السؤال يخطر في بال الكثيرين
منكم، بين الحين والآخر. وفي خطبة اليوم،
أريد أن أجد بعض الأجوبة المحددة عن هذا السؤال".
كان
ولدا الرومي يجلسان في الصفّ الأمامي، الوسيم منهما، سلطان ولد، الذي يقول الجميع
إنه يشبه أمّه المرحومة، والابن الأصغر، علاء الدين، بوجهه المفعم بالحيوية وعينيه
الماكرتين. ويمكنني أن أرى أنهما كانا
فخورين بأبيهما.
وتابع
الرومي كلامه قائلاً: "لقد كُرِّم بنو آدم بمعارف عظيمة لا تقوى على حملها
حتى الجبال أو السماوات، لذلك يقول سبحانه (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض
والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان). فبعد أن رفع البشر إلى هذه المكانة المشرفة،
يجب ألا يكون هدفهم أدنى مما شرّفهم به الله".
كان
الرومي يتحدث عن الله، ويلفظ حروف العلة بأسلوبه الغريب الذي لا يستطيع أن يلفظه
إلا المتعلمون، مؤكداً أنه لا يجلس على عرش بعيد في السماء، بل إنه قريب من كل
واحد منا. وقال إن لا شيء يقرّبنا من الله
إلا الألم والمعاناة.
"إن
يدك تفتح وتغلق باستمرار، وما لم تفعل ذلك، فإنك تصاب بالشلل. إن أعمق وجود بالنسبة لك يقبع في كلّ انقباض
وتوسّع مهما كان صغيرين، وكلاهما متوازن ومنسق على نحو جميل مثل جناحيْ
طائر".
في
البداية، أعجبني ما قاله، وما أدفأ قلبي هو التفكير بأن المتعة والحزن يعتمد
أحدهما على الآخر مثل جانحي طير. لكني
أحسست
في اللحظة ذاتها، بموجة من الاستياء تصعد إلى
حنجرتي. فما الذي يعرفه الرومي عن
المعاناة والألم؟ فهو ابن رجل مرموق،
ووريث عائلة مشهورة ثرية، ويعيش حياة رغيدة.
ومع أنني علمت أن زوجته الأولى قد ماتت، فلا أظن أنه تعرّض لمحنة
حقيقية. فقد ولد وفي فمه ملعقة من فضة،
وتتلمذ على أفضل العلماء، وكان محبوباً ومدلّلاً ومحترماً على الدوام، فكيف يجرؤ
على أن يلقي خطبة عن الألم والمعاناة.
بقلب
حزين، أدركت أن المقارنة بيني وبين الرومي مقارنة غير مجدية. وتساءلت عن السبب الذي يجعل الله غير
عادل؟ فقد منحني الفقر والمرض والتعاسة،
ومنح الرومي الثروة والنجاح والحكمة.
وبسمعته النقية وسلوكه الراقي، فهو نادراً ما ينتمي إلى هذا العالم، على
الأقل، إلى هذه المدينة. أما أنا فيتعين
عليّ أن أستر وجهي حتى لا ينفر الناس من رؤيتي، بينما يشرق الرومي ويتلألأ مثل حجر
كريم ثمين. وتساءلت كيف كان سيتصرف لو كان
في مكاني؟ هل خطر في باله قط أن شخصاً مثالياً وصاحب امتيازات مثله قد يتعثّر
ويسقط ذات يوم؟ هل فكّر يوماً كيف يشعر
المرء عندما يكون منبوذاً، حتى ليوم واحد؟ هل سيظل الرومي العظيم يرغب بالحياة لو
عاش الحياة التي أعيشها؟
ومع كلّ
سؤال جديد، كان استيائي يزداد، جارفاً كل إعجاب أكنّه له. وبشعور من المرارة والمشاكسة، نهضت وشققت طريقي
إلى الخارج، ورمقني عدد من المصلين بفضول، متسائلين لماذا أغادر خطبة يتلهف
الكثيرون لحضورها.
شمس
قونية، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
بفضل
الفلاح الذي أوصلني إلى وسط المدينة، وجدت مكاناً للإقامة لي ولحصاني. وبدا لي أن خان تجار السكّر يلائمني. فمن بين الغرف الأربع التي عرضوها عليّ، اخترت الغرفة التي يوجد فيها أقل قدر من
الأثاث، فقد كانت مفروشة بحصيرة للنوم، وبطانية متعفنة، وفانوس على وشك أن ينطفئ،
وقطعة طوب مجفّفة بالشمس لاستخدامها كوسادة، ومشهد للبلدة كلها حتى سفوح التلال
المحيطة.
بعد أن
استقر بي المقام في الخان، خرجت ورحت أطوف في الشوارع، مبدياً دهشتي من هذا المزيج
من الأديان والعادات واللغات الذي يملأ الهواء.
إذ صادفت في طريقي غجراً يعزفون موسيقى، ومسافرين متجولين من الإفرنجة،
وفنانين فرساً، وبهلوانات صينيين، وسحرة أفاعٍ هنوداً، وسحرة زرادشتيين، وفلاسفة
يونانيين. وفي سوق الجواري، رأيت محظيات
ذوات بشرة بيضاء كالحليب، ومخصيّين زنوجاً فقدوا القدرة على الكلام من شدّة
الأهوال التي
كابدوها. وصادفت
في السوق حلاقين جوّالين يحملون أدوات حجامة، وبصارات يحملن كرات بلورية، وسحرة
يبتلعون النار. وكان هناك حجاج في طريقهم
إلى القدس، ومشرّدون شككت في أنهم جنود هاربون من الحملات الصليبية الأخيرة. وسمعت أشخاصاً يتكلمون اللغات الإيطالية،
والفرنسية، والسكسونية، واليونانية، والفارسية، والتركية، والكردية، والأرمنية،
والعبرية، ولهجات عدة أخرى لم أتمكن من معرفتها.
وعلى الرغم من اختلافاتهم الظاهرة اللانهائية، كان جميع هؤلاء يبدون شيئاً
متشابهاً من النقص وعدم الاكتمال، وهو أن كل واحد منهم يشكل تحفة فنية غير مكتملة.
كانت
المدينة أشبه ببرج بابل. وكان كلّ شيء
فيها يتحوّل باستمرار، يتشعّب، يبرز إلى الضوء، ينتشر، يزدهر، ثم يذوب ويتفسّخ،
ويموت. وفي خضم هذه الفوضى وقفت في مكان
يسوده الصمت والصفا، غير مبال بالعالم حولي، لكني أحسست، في الوقت نفسه، بحبّ جارف
لجميع الذين يكافحون ويعانون فيه. وبينما
كنت أراقب الناس من حولي، تذكّرت قاعدة ذهبية أخرى وهي: من السهل أن تحبّ إلهاً يتصف بالكمال، والنقاء،
والعصمة. لكن الأصعب من ذلك أن تحبّ
إخوانك البشر بكلّ نقائصهم وعيوبهم.
تذكّر، أن المرء لا يعرف إلا ما هو قادر على أن يحبّ. فلا حكمة من دون حبّ. وما لم نتعلّم كيف نحبّ خلق الله، فلن نستطيع
أن نحبّ حقاً ولن نعرف الله حقاً.
رحت
أجوب الأزقة الضيّقة حيث يكدح حرفيون من مختلف الأعمار في محلاتهم الصغيرة
الحقيرة. وكنت في كلّ مكان أرتاده،
أسمع أهالي المدينة يتحدّثون عن الرومي. تساءلت كيف يكون شعور المرء عندما يكون مشهوراً
ويحظى بشعبية كبيرة؟ وكيف يؤثّر ذلك على
النفس؟ وبينما كان عقلي يعجّ بهذه
الأسئلة، سرت في الطريق المعاكس للمسجد الذي يلقي فيه الرومي خطبته، وشيئاً فشيئاً
بدأ المكان المحيط بي يتغيّر. وكلما اتجهت
شمالاً، صارت تظهر البيوت المهلهلة الآيلة للسقوط، وجدران البساتين المتساقطة،
والأطفال الأكثر صخباً وشغباً. وتغيّرت الروائح أيضاً، فأصبحت لاذعة أكثر،
مفعمة بروائح التوابل والثوم. وأخيراً،
ولجت شارعاً فاحت منه ثلاث روائح: العرق، والعطر، والشهوة. وهنا عرفت أنني وصلت إلى الشطر الفقير من المدينة.
كان
هناك بيت متداع في أعلى الشارع الشديد الانحدار، تسند جدرانه أعمدة من الخيزران،
وسقفه مغطى بالعشب. وكانت تجلس أمام البيت
ثلة من النساء يتجاذبن أطراف الحديث.
وعندما رأينني أقترب، نظرن إليّ بأعين فضولية، وبدا أنهن قليلات السمع،
وكنّ يجلسن بالقرب من بستان مكسو بورود ملونة بجميع الألوان، وتتضوع منه أروع
روائح يمكن تنشقها، وتساءلت ترى من يقول برعاية هذا البستان؟
لم
أنتظر طويلاً حتى عرفت الجواب. فما إن
بلغت البستان، حتى فُتح باب المدخل إلى البيت وخرجت منه امرأة بدينة، مزدانة
بالجواهر، فارعة الطول. وعندما كانت تغمض
عينيها نصف إغماضة، كما فعلت الآن، كانت عيناها تضيعان في طيات لحمها. وكان لها شارب رفيع أسود وسالفان سميكان. ومضت فترة من الوقت قبل أن أدرك أنها رجل
وامرأة في آن معاً.
"ماذا
تريد؟"، سألتني الخنثى بارتياب. كانت
تعابير وجهها تتغيّر باستمرار: ففي لحظة، كان يبدو مثل وجه امرأة، ثمّ يعود المدّ،
ليحّل محله وجه رجل.
عرّفتها
على نفسي، وسألتها عن اسمها، لكنها تجاهلت سؤالي.
"لا
مكان لك هنا"، قالت، ملوّحة بيديها كما لو كانت تنشّ ذبابة عنها.
"لم
لا؟".
"ألا
ترى أن هذا المكان هو مبغى؟ ألم تقسموا، يا معشر الدراويش، بأن تتحاشوا الرغبات
الجنسية؟ ومع أن الناس يعتقدون بأنني ألغ في الإثم هنا، فإني أتصدّق وأوصد أبوابي
في شهر رمضان. والآن، أريد أن أنقذك. هيا ابتعد عنا. فهذا أقذر ركن في المدينة".
فقلت
معترضاً: "إن القذارة تقبع في الداخل، لا في الخارج. هكذا تقول القاعدة".
"عمَّ
تتحدّث؟"، قالت بصوت أجش.
"هذه
إحدى القواعد الأربعين"، حاولت أن أوضح :"إن القذارة الحقيقية تقبع في
الداخل، أما القذارة الأخرى فهي تزول بغسلها.
ويوجد نوع واحد من القذارة لا يمكن تطهيرها بالماء النقي، وهو لوثة
الكراهية والتعصب التي تلوّث الروح.
نستطيع أن نطهّر أجسامنا بالزهد والصيام، لكن الحبّ وحده هو الذي يطهّر
قلوبنا".
لكن
الخنثى لم تعبأ بما قلت، وقالت: "لقد فقدتم عقولكم يا معشر الدراويش. فلديّ هنا زبائن من جميع الأنواع. لكن درويشاً؟
عندما
تنبت للضفادع لحى!
لو تركتك تدخل، بهدم الله هذا المكان على رؤوسنا ولعننا لأننا أغوينا
مؤمناً".
لم
أتمالك نفسي من الضحك، وقلت: "من أين تأتين بهذه الأفكار السخيفة؟ هل تظنين
أن الله أب متقلب المزاج يراقبنا من السناء ويمطر فوق رؤوسنا أحجاراً وضفادع كلما
ارتكبنا خطأ؟".
أمسكت
صاحبة المبغى طرف شاربها الرفيع وشدّته قليلاً، ورمقتني بنظرة مفعمة بالانزعاج تشي
بالخسة.
"لا
تقلقي، فأنا لم آت إلى هنا لزيارة مبغاك"، قلت أطمئنها، "بل كنت أستمتع
برؤية الورود في حديقتك".
آه،
هكذا إذاً، وهزّت الخنثى كتفيها باستهجان، "لقد زرعتها فتاة تعمل لدّي تدعى
وردة الصحراء".
وأومأت
الخنثى إلى فتاة شابة تجلس أمامنا بين العاهرات.
كان لها ذقن ناعمة، رقيقة، وبشرة تشعّ كاللؤلؤ، وعينان لوزيتان غامقتان
يغشاهما القلق. كانت رائعة الجمال. عندما نظرت إليها، أحسست بأنها لن تمكث في هذا
المكان طويلاً.
أخفضت
صوتي ليصبح همساً كي لا يسمعني أحد إلا صاحبة المبغى، وقلت: "إن تلك الفتاة
طيبة. ستنطق ذات يوم في رحلة روحية بحثاً
عن الله. إنها ستهجر هذا المكان ولن تعود
إليه أبداً. وعندما يحلّ ذلك اليوم، لا
تحاولي منعها".
نظرت
الخنثى إليّ بدهشة، قبل أن تنفجر قائلة: "ماذا تقول بحقّ الجحيم؟ لا أحد يأمرني ماذا أفعل مع فتياتي! هيا اخرج
من هنا. وإلاّ ناديت رأس الواوي".
" من هو ذاك؟ ، سألتها.
"صدّقني،
لا أظن أنك تريد أن تعرف"، قالت الخنثى، وهي تهزّ إصبعها لتأكيد النقطة التي
تريد أن تؤكدها.
جعلني
سماع هذا الاسم الغريب أرتعش قليلاً، لكني لم أكترث للأمر، فقلت: "سأغادر
الآن، لكني سأعود، ولا تتفاجئي برؤيتي ثانية.
فأنا لست واحداً من أولئك الأتقياء الذين يمضون حياتهم كلها وهم جاثون على
سجادة الصلاة، بينما يغلقون عيونهم وقلوبهم عن العالم الخارجي، ولا يقرأون القرآن
إلا قراءة سطحية. أما أنا فأقرأ القرآن من
خلال الأزهار المتفتحة والطيور المهاجرة.
إني أقرأ أنفاس القرآن التي تتخلل البشر".
هل هذا
يعني أنك تقرأ الأشخاص؟"، ضحكت صاحبة المبغى بفتور، "ما هذه
السخافة؟".
"إن
كلّ إنسان عبارة عن كتاب مفتوح، وكلّ واحد منا قرآن متنقّل. إن البحث عن الله متأصل في قلوب الجميع، سواء
أكان ولياً أم قديساً أم مومساً. فالحبّ
يقبع في داخل كلّ منّا منذ اللحظة التي نولد فيها، وينتظر الفرصة التي يظهر فيها
منذ تلك اللحظة. وهذا ما تقوله إحدى
القواعد الأربعين: يقبع الكون كله داخل كلّ إنسان –في داخلك. كلّ شيء ترينه حولك، بما في ذلك الأشياء التي
قد لا تحبينها، حتى الأشخاص الذين تحتقرينهم أو تمقتينهم، يقبعون في داخلك بدرجات
متفاوتة. لذلك، لا تبحثي عن الشيطان خارج
نفسك – أيضاً. فالشيطان ليس قوة خارقة
تهاجمك من الخارج، بل هو صوت عادي ينبعث من داخلك. فإذا تعرّفت على نفسك تماماً، وواجهت بصدق
وقسوة جانبيك المظلم والمشرق، عندها تبلغين أرقى أشكال
الوعي. وعندما تعرفين نفسك، فإنك ستعرفين
الله".
عقدت
الخنثى ذراعيها فوق صدرها، وانحنت إلى الأمام ورمقتني بنظرة تشي بالتهديد.
ثم
قالت: "درويش يعظ عاهرات! إني أحذّرك، فلن أسمح لك بأن تزعج أحداً هنا
بأفكارك السخيفة. من الأفضل لك أن تبتعد
عن هذا المبغى! لأنك إن لم تفعل ذلك، فإني أقسم بالله أن "رأس الواوي"
سيقطع ذلك اللسان السليط وسآكله بكل متعة".
إيلا
نورثامبتون، 28 أيار (مايو) 2008
استيقظت
إيلا حزينة. لا لأنها كانت تبكي أو لأنها
لم تكن سعيدة، بل كانت حزينة لأنها لم تكن تشعر بالرغبة في الابتسام وأخذ الأمور
بخفة. أحست كأنها وصلت إلى نقطة مهمة لم
تكن مستعدة لها. وبينما كانت تعدّ القهوة
في المطبخ، أخرجت من الدرج قائمة القرارات التي كانت قد دوّنتها وراحت تقرأها.
عشرة
أشياء يجب القيام بها قبل أن تبلغي الأربعين من العمر:
1-
نظّمي وقتك جيداً.
كوني أفضل تنظيماً، وصمّمي على استغلال وقتك إلى أقصى درجة. اشتري دفتر ملاحظات لتدوين مخططاتك اليومية.
(أُنجز)،
2-
أضيفي فيتامينات ومكمّلات معدنية ومضادات أكسدة إلى غذائك.
(أُنجز)،
3-
اعملي شيئاً لإزالة التجاعيد. جربي منتجات ألفا هيدروكسي، واستعملي كريمات
لوريال الجديدة. (أُنجز)،
4-
غيّري قماش الأثاث، اشتري نباتات جديدة، اجلبي وسادات
جديدة. (أُنجز)،
5-
قيّمي حياتك وقيمك ومعتقداتك. (لم ينجز بالكامل)،
6-
أزيلي اللحم من قائمة طعامك، ضعي قائمة صحّية كلّ أسبوع،
وابدأي بمنح جسمك الاحترام الذي يستحقه. (لم ينجز بالكامل)،
7-
باشري قراءة أشعار الرومي. (أُنجز)،
8-
خذي الأطفال إلى مسرحية موسيقية في برودواي. (أنجز)،
9-
ابدأي بكتابة كتاب الطهو. (لم ينجز)،
10-
افتحي قلبك للحبّ.
وقفت إيلا في
مكانها، وثبتت عينيها على البند العاشر في قائمتها، غير عارفة أكان عليها أن تضع
بجانبه علامة أم لا. حتى إنها لم تعرف ما
قصدته حقاً عندما كتبته. بماذا كانت تفكر؟
لا بد أن ذلك كان بتأثير رواية "الكفر الحلو"، همهمت لنفسها. فقد ألفت نفسها أنها تفكّر مؤخراً بالحبّ كثيراً.
***
السيد عزيز،
يصادف اليوم عيد
ميلادي! أشعر بأنني وصلت إلى نقطة أساسية في حياتي. يقال إن بلوغ الأربعين يشكل لحظة حاسمة وخاصة
بالنسبة للمرأة. كما يقال إن الأربعين هي
ثلاثون جديدة (وأن الستين هي أربعون جديدة)، لكن بقدر رغبتي في تصديق ذلك، يبدو
الأمر بعيد المنال بالنسبة لي. أقصد على من تضحكون؟ فالأربعون هي أربعون! أظن أنني
سأحصل الآن على المزيد من كلّ شيء – المزيد من
المعرفة، المزيد
من الحكمة، وبالطبع المزيد من التجاعيد وابيضاض الشعر.
كانت أعياد
الميلاد تدخل السعادة على قلبي باستمرار، لكني استيقظت هذا الصباح وأنا أشعر بثقل
في صدري، وأطرح أسئلة كبيرة جداً على امرأة لم تحتس قهوتها الصباحية بعد . ورحت أتساءل هل الطريقة التي عشتها في حياتي في
الطريقة التي أريد أن أستمرّ بها؟
ثم اعتراني شعور بالخوف. ماذا لو أسفرت كلمتا نعم ولا عن نتائج سيئة؟
لذلك وجدت جواباً آخر وهو: ربما. أمنياتي
الحارة،
إيلا
ملاحظة: آسفة
لأنني لم أتمكن من كتابة رسالة أكثر تفاؤلاً.
لا أعرف لماذا أشعر بالاكتئاب اليوم.
لا يمكنني أن أهتدي إلى أي سبب.
(أعني غير سبب بلوغي الأربعين. أظن
أن هذا هو ما يطلقون عليه أزمة منتصف العمر).
***
العزيزة إيلا،
عيد ميلاد سعيد! إن الأربعين هي أجمل عمر
للرجال والنساء على حد سواء. هل تعرفين أن
الأربعين في الفكر الصوفي ترمز إلى الصعود من مستوى إلى مستوى أعلى، وإلى يقظة
روحية؟ فعندما نحزن نحزن لمدة أربعين
يوماً. وعندما يولد طفل فهو يستغرق أربعين
يوماً حتى يتهيأ لبدء الحياة على الأرض.
وعندما نعشق يجب أن ننتظر أربعين يوماً حتى نتأكد من حقيقة مشاعرنا.
لقد استمر طوفان
نوح أربعين يوماً، وفي حين دمّر الماء الحياة، فقد جرف أيضاً جميع الشوائب، ومكّن
البشر من بدء حياة جديدة. وفي الصوفية
الإسلامية أربعون درجة تفصل بين الإنسان والله.
بالإضافة إلى ذلك، هناك أربع مراحل أساسية من الوعي في كلّ منها عشر درجات،
فيصبح مجموعها أربعين. وقد خرج المسيح إلى
القفر أربعين يوماً وليلة. وكان محمد في الأربعين من عمره عندما نزل عليه
الوحي. وتأمّل بوذا تحت شجرة زيزفون
أربعين يوماً. بالإضافة إلى قواعد شمس الأربعين.
إنك تتلقين مهمّة جديدة في الأربعين، حياة
جديدة! لقد بلغت الرقم الميمون وأكثر
الأرقام التي تبشر بالخير. مبروك! لا
تقلقي لأنك كبرت سنة. فلا يمكن لقوة التجاعيد
ولا الشعر الشائب أن تتحدى قوة الأربعين!
أمنياتي الحارة،
عزيز
البغي
وردة الصحراء
قونية، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
إن بيوت البغاء
التي تضم نساء مثلي موجودة منذ بداية الزمن.
إلا أن هناك شيئاً يدهشني وهو لماذا يقول البعض إنهم يكرهون رؤية البغايا،
وفي الوقت نفسه يصعّبون الحياة على البغي التي تريد أن تتوب وتبدأ حياة جديدة؟ وكأنهم يقولون لنا إنهم يرثون لحالنا لأننا
سقطنا إلى الدرك الأسفل، لكن يجب علينا أن نبقى في المكان الذي سقطنا فيه إلى
الأبد. لا أستطيع أن أفهم سبب ذلك، لكن
كلّ ما أعرفه هو أن بعض الناس يتغذّون على تعاسات الآخرين، ولا يحبّون رؤية أن
ينخفض عدد البؤساء على وجه الأرض. لكنهم
مهما قالوا أو فعلوا، فإني سأخرج من هذا المكان ذات يوم.
استيقظت هذا
الصباح وقد غمرتني رغبة جامحة في الاستماع إلى خطبة الرومي العظيم. ولو أنني أخبرت صاحبة المبغى بالحقيقة وطلبت
منها أن تسمح لي بالذهاب، لسخرت مني، وقالت: "منذ متى تؤمُّ العاهرات المسجد؟"
ولانفجرت في الضحك، واحمرَّ وجهها المستدير وأصبح قرمزي اللون.
لذلك كذبت عليها.
فبعد أن غادر ذلك الدرويش الأمرد، بدت مشغولة البال، فشعرت بأن الوقت ملائم الآن
لأذهب وأكلّمها، لأنه لا يمكن التحدّث إليها لا عندما تكون مشغولة البال. قلت لها إنني أريد أن أذهب إلى السوق لشراء بعض
الحاجيات. صدقتني. صدقتني بعد تسع سنوات من العمل عندها مثل كلبة.
فقالت: "بشرط واحد فقط، وهو أن يرافقك
سمسم".
لا مشكلة في
ذلك. فقد كنت أحبّ سمسم، الرجل البدين
اللحيم الذي له عقل طفل، والذي كان صادقاً وموضع ثقة إلى درجة السذاجة. كيف استطاع العيش في هذا العالم القاسي؟ كان لغزاً بالنسبة لي. لم يكن أحد يعرف اسمه الحقيقي، وربما لم يكن هو
نفسه يعرفه. وقد أطلقنا عليه هذا الاسم
لأنه كان مولعاً بتناول الحلاوة بالسمسم.
وعندما كانت إحدى البغايا تخرج من المبغى، كان يرافقها مثل ظلّ صامت. كان أفضل حارس أرغب في أن يرافقني.
سلكنا الدرب
المترب الذي يخترق البساتين، وعندما وصلنا إلى أول تقاطع، طلبت من سمسم أن
ينتظرني، واختفيت وراء أجمة خبأت فيها حقيبة مليئة بثياب الرجال.
كان ارتداء ثياب
رجالية أصعب مما كنت أظن. فقد لففت أوشحة
طويلة حول نهديّ حتى يبدو صدري مسطحاً، ثمّ ارتديت سروالاً عريضاً، وصدرية قطنية، وعباءة حمراء غامقة طويلة،
وعمامة. وأخيراً، غطّيت نصف وجهي بوشاح،
لكي أبدو مثل رحّالة عربي.
عندما عدت إلى
سمسم، أجفل وبدت على وجهه علائم الحيرة.
"هيا
بنا"، قلت أحثّه، وعندما لم يتزحزح من مكانه، كشفت عن وجهي وقلت له:
"عزيزي، ألم تعرفني؟".
"وردة
الصحراء، هل هذا أنتِ؟"، صاح سمسم، ووضع يده على فمه مثل طفل خائف،
"لماذا ليست هذه الثياب؟".
"هل تستطيع
أن تكتم سرّاً؟".
فهزّ سمسم رأسه،
واتسعت عيناه.
فهمست: "هيا
لنذهب إلى المسجد، لكن لا تخبر صاحبة المبغى".
ارتعشت شفة سمسم
السفلى، وقال: "لا، لا. إننا ذاهبان
إلى السوق".
"نعم يا
عزيزي. لكننا سنذهب أولاً إلى المسجد
لنستمع إلى خطبة الرومي العظيم".
اعترت سمسم رعدة،
كما كنت أتوقع، بسبب تغيير الخطة. قلت له
بتوسل: "أرجوك، إن هذا أمر مهم بالنسبة لي، فإذا وافقت ووعدتني بألاّ تخبر
أحداً بالأمر، فسأشتري لك قطعة كبيرة من الحلاوة".
طقطق سمسم بلسانه
ببهجة، وكأن الكلمة وحدها خلّفت مذاقاً حلواّ في فمه.
وبانتظار قطعة
الحلوى، انطلقنا صوب المسجد الذي سيلقي فيه الرومي خطبته.
***
كنت قد ولدت في
قرية صغيرة بالقرب من نيقية، وكانت أمّي تقول لي دائماً: "لقد ولدتِ في
المكان الملائم، لكني أخشى أن تكوني قد ولدتِ تحت نجم سيئ". كان الزمن آنذاك متقّلباً وسيئاً. وسنة بعد أخرى، تغيّر كلّ شيء. ففي البداية، انتشرت شائعات تقول إن الصليبيين
سيعودون، وسمعنا قصصاً فظيعة عن المجازر الوحشية التي
ارتكبوها في
القسطنطينية، حيث سلبوا القصور ونهبوها، وحطموا الأيقونات في الكنائس. ثم سمعنا عن هجمات السلاجقة. وقبل أن ينسى الناس الحكايات المرعبة عن
الجرائم التي ارتكبها جيش السلاجقة، جاء المغول الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة. ومع
أن اسم العدو ووجهه يتغيّران ، فقد ظل الخوف من الدمار على يد غزاة خارجيين ثابتاً
كالثلج فوق قمة جبل إدا.
كان والدايَ
خبازين وكانا مسيحيين مؤمنين. وكانت رائحة
الخبز المنبعث من الفرن إحدى الذكريات التي لا تزال تلازمني حتى الآن. لم نكن أسرة غنية. وكنت أعرف ذلك عندما طنت طفلة، لكنّنا لم نكن
مدقعي الفقر. وكنت أرى النظرات المحدثة في
عيون الفقراء الذين يأتون إلى المخبز ويستجدون للحصول على الفتات. وكنت أشكر الله قبل أن آوي إلى الفراش كلّ
ليلة، لأنه لم يرسلني إلى السرير وأنا جائعة.
كنت أشعر بأنني أكلّم صديقاً. لأن
الله كان صديقي آنذاك.
عندما كنت في
السابعة من عمري، حملت أمّي. وأظن أنها
أجهضت عدّة مرات قبل أن تحمل بي، لكني لم أكن أعرف شيئاً عن ذلك. كنت آنذاك فتاة بريئة جداً، فإذا سألني أحدهم
كيف يصنع الأطفال، كنت أقول إن الله يصنعهم من عجينة حلوة طرية.
لكن لا بد أن الجنين
الذي عجنه الله لأمّي كان ضخماً، لأن بطنها سرعان ما انتفخت وكبرت. وأصبحت أمّي ضخمة، فلم تعد تستطيع الحراك. قالت القابلة إنها تعاني من استسقاء، لكن ذلك
لم يكن يبدو أمراً سيئاً بالنسبة لي.
لكن الشيء الذي
لم تكن تعرفه أمّي ولا القابلة، أنه لم يكن في بطنها طفل واحد، بل ثلاثة
أطفال. وكانوا جميعاً صبياناً. وبدأ إخوتي عراكاً داخل رحم أمّي، فقد خنق
أحدهم شقيقه بحبله السرّي، وكما لو كان يريد الانتقام، سدّ الرضيع الميت المنفذ،
فمنع الطفلين الآخرين من الخروج. وظلت
أمّي في المخاض طوال أربعة أيام. وكنا نسمع صياحها ليلاً ونهاراً، حتى لم نكن نسمع
شيئاً سوى صياحها.
وبذلت القابلة
كلّ ما بوسعها لإنقاذ حياة إخوتي، عندما لم تتمكن من إنقاذ أمّي. فأخذت مقصاً، وشقت بطن أمّي، وفي النهاية، لم
ينج إلا طفل واحد، هكذا ولد أخي، الذي لم يغفر له أبي، ولم يحضر مراسم عماده.
بعد أن ماتت
أمّي، أصبح أبي دائم التجهم والعبوس، ولم تعد حياتنا كما كانت في الماضي، فقد
تدهورت الأمور بسرعة كبيرة في المخبز، وفقدنا زبائننا. وعندما بدأت أخشى الفقر، وأن أضطر إلى التسوّل
ذات يوم، بدأت أخبئ لفائف الخبز تحت سريري، حيث كانت تجفّ. لكن أخي هو الذي عانى أشد المعاناة. فعلى الأقل، كنت قد أحطت بالمحبة والرعاية في
الماضي، أما هو فلم يحظ بشيء منهما. وكنت
أتألم كثيراً عندما أرى أبي يسيء معاملته، لكن على الرغم من ذلك، كان هناك جزء مني
يجعلني أشعر بالارتياح، بل حتى بالامتنان، لأني لم أكن هدفاً لغضب أبي. وكنت أرجو أن أتمكن من حماية أخي، ولو كانت
الأمور غير ذلك، لما أصبحت أعمل اليوم في مبغى في قونية. يا لغرابة الحياة!
وبعد سنة من وفاة
أمي تزوّج أبي. وأصبح الفرق الوحيد في
حياة أخي هو انضمام زوجة أبي إلى أبي في إساءة معاملته. فبدأ يهرب من البيت، ليعود وقد اكتسب أسوأ
العادات، ويصاحب رفاق السوء. وفي أحد
الأيام، أوسعه أبي ضرباً حتى كاد أن يقتله.
ثمّ تغيّر الفتى، وظهرت في عينيه نظرة قاسية باردة جديدة. كنت أعرف أنه كان يفكّر بشيء ما، لكني لم أكن
أعرف ما هي الخطة الرهيبة التي تدور في رأسه.
لشدّ ما كنت أتمنّى أن أعرف. لشدّ
ما كنت أتمنّى أن أمنع وقوع المأساة.
وذات صباح يوم
ربيعي، وجد أبي وزوجته ميتين، مقتولين بسمّ الجرذان، وعندما شاع الخبر، ارتاب
الجميع في أن القاتل هو أخي. وعندما بدأ
الحرّاس يبحثون عنه، هرب مرعوباً، ولم أره
منذ ذلك الحين. وهكذا أضحيت وحيدة في هذا
العالم، ولم أعد أحتمل البقاء في البيت حيث كنت لا أزال أشم رائحة أمّي، ولم يعد
بإمكاني العمل في المخبز حيث كانت ذكريات مزعجة تحوم في هوائه، فقرّرت أن أتوجّه
إلى القسطنطينية لأعيش مع عمّة عانس عجوز أصبحت الآن القريبة الوحيدة لي. كنت آنذاك في الثالثة عشرة من عمري.
رحلت في عربة إلى
القسطنطينية. كنت أصغر المسافرين في
العربة، والأنثى الوحيدة المسافرة وحدها.
وبعد مضي بضع ساعات في الطريق، اعترضت طريقنا عصابة من اللصوص، فسلبوا كلّ
شيء: الحقائب، والملابس، والأحذية، والأحزمة، والمجوهرات، حتى النقانق التي كانت
بحوزة السائق. ولما كنت لا أملك شيئاً
أقدمه لهم، وقفت جانباً بهدوء، وكنت واثقة من أنهم لن يلحقوا بي أي أذى. لكن
عندما أنهوا
عملهم وهمّوا بالمغادرة، التفت زعيمهم إليّ وسألني، "هل أنت عذراء، أيتها
الجميلة؟".
احمرّ وجهي
خجلاً، ولم أجب عن هذا السؤال غير المحتشم.
لكني لم أكن أعرف أن خجلي كان الرد الذي كان ينتظره.
"هيا
بنا"، صاح زعيم العصابة، وأضاف: "خذوا الخيول والفتاة".
عندما رحت
أقاومهم وأنا أجهش في البكاء، لم يحاول أحد من المسافرين مساعدتي. وقادني اللصوص إلى غابة كثيفة، حيث فوجئت بأنهم
أقاموا فيها قرية كاملة، فيها نساء وأطفال، وفيها بط وماعز وخنازير. كانت تبدو مثل قرية شاعرية، سوى أنها كانت
ملاذاً للمجرمين.
وسرعان ما عرفت
لماذا سألني زعيم العصابة عن عذريتي. فقد كان زعيم القرية مريضاً مصاباً بحمّى
عصبية. وكان طريح الفراش منذ فترة طويلة،
وكانت تنتشر في جسده بقع حمراء. وكان قد
جرّب أدوية كثيرة لكن من دون جدوى. وكان
قد أقنعه أحدهم بأنه إذا نام مع عذراء، فإن مرضه سينتقل إليها ويشفى.
هناك أشياء في
حياتي لا أريد أن أتذكّرها، من بينها الفترة التي أمضيتها في الغابة. فحتى اليوم، عندما أتذكر الغابة، لا أتذكّر
منها إلا أشجار الصنوبر. فقد كنت أفضّل أن
أجلس تحت تلك الأشجار مع عدد من نساء القرية، اللاتي كان معظمهن زوجات أو بنات
اللصوص. وكانت توجد كذلك عاهرات أتين من تلقاء
أنفسهن، لكني لم أفهم لماذا لم يهربن، في حين صمّمت أنا على الهرب.
كانت تعبر الغابة
عربات عدة، معظم أصحابها من النبلاء. وكان
عدم تعرضها
للسرقة يشكل لغزاً بالنسبة لي، حتى علمت أنّ بعض الحوذيين يرشون اللصوص قبل عبورهم
الغابة ليسافروا بأمان. وعندما فهمت كيف
تسير الأمور، اتخذت ترتيباتي الخاصة. فبعد
أن أوقفت عربة متوجّهة إلى المدينة الكبيرة، توسلت إلى السائق أن يأخذني معه، فطلب
مني مبلغاً كبيراً من المال، مع علمه بأني لا أملك شيئاً، فدفعت له بالطريقة
الوحيدة التي أعرفها.
بعد انقضاء فترة
طويلة على وصولي إلى القسطنطينية، عرفت السبب الذي جعل العاهرات لا يهربن من
القرية في الغابة. لأن المدينة أسوأ حالاً.
فهي مكان لا يعرف الرحمة، ولم أبحث عن عمتي العجوز، لأنني أدركت أن سيدة
محترمة مثلها لن تقبل بالعيش مع ساقطة مثلي.
وهكذا أصبحت وحيدة، ولم يمض وقت طويل على مكوثي في المدينة حتى تحطّمت
معنوياتي وأُتلف جسدي. وفجأة وجدت نفسي في
عالم آخر تماماً – عالم مفعم بالحقد، والاغتصاب، والوحشية، والمرض. وأجهضت مرات متعاقبة حتى تضرر جسدي وضعفت،
وتوقّفت دورتي الشهرية ولم يعد بإمكاني الحمل.
رأيت أشياء في
تلك الشوارع لا أستطيع وصفها بمجرد كلمات.
فبعد أن غادرت المدينة، سافرت مع جنود ومهجرين وغجر، وكنت ألبي احتياجاتهم
جميعاً. ثمّ وجدني رجل يدعى "رأس
الواوي" وأحضرني إلى هذا المبغى في قونية.
ولم يكن يهمّ صاحبة المبغى معرفة من أين أتيت طالما أنني كنت في صحة جيدة. وسعدت كثيراً عندما عرفت أنني لا أنجب، لأنه لن
تعترضني أيّ مشاكل في عملي.
وبسبب عقمي،
سمتني "صحراء"، ولكي تضيف رونقاً على هذا الاسم، أضافت كلمة
"وردة"، التي أعجبتني لأنني أعشق الورود.
إنني أعتبر
الإيمان بهذه الطريقة، مثل بستان فيه ورود مخفية كنت أطوف فيه ذات يوم وأستنشق
الروائح العطرة التي تعبق منه، لكن لم يعد بإمكاني أن أدخله. أريد أن يعود الله صديقاً لي كما كان ذات مرة،
وبهذا الشوق أدور حول تلك الحديقة، أبحث عن مدخل، لعلي أجد بوابة تمكنني من
الدخول.
***
عندما وصلت إلى
المسجد برفقة سمسم، لم أصدّق عينيّ. فقد
جلس رجال من مختلف الأعمار والحرف في زوايا المسجد، حتى في المكان المخصص للنساء
في الخلف. كنت على وشك أن أستسلم وأغادر
عندما لاحظت متسولاً يترك مكانه ويخرج.
شكرت حسن طالعي، وشققت طريقي بين الجموع إلى المكان الذي تركه، وطلبت من
سمسم أن ينتظرني في الخارج.
هكذا وجدت نفسي
أنصت إلى الرومي العظيم في مسجد مليء بالرجال.
حتى إنني لم أشأ أن أفكر بما يمكن أن يحدث لو اكتشفوا وجود امرأة في وسطهم،
ناهيك عن أنها عاهرة. وبعد أن طردت جميع
الأفكار الكئيبة من رأسي، وجّهت كل اهتمامي إلى الخطبة.
قال الرومي:
"لقد خلق الله المعاناة حتى تظهر السعادة من خلال نقيضها. فالأشياء تظهر من خلال أضدادها. وبما أنه لا
يوجد نقيض لله، فإنه يظل مخفياً".
بينما كان الخطيب
يتحدث، ارتفع صوته وتضخم مثل جدول جبلي
تغذيه الثلوج
الذائبة: "انظروا إلى حقارة الأرض ومجد السماء. اعلموا أن جميع الأشياء التي تحدث في العالم هي
هكذا: الفيضانات والجفاف والسلام والحرب. فمهما حدث، لا تنسوا، أن الله لم يخلق
شيئاً عبثاً، سواء أكان الغضب أم الحلم أو الصدق أم الدهاء".
بجلوسي هناك،
بدأت أفهم أن لكل شيء هدفاً في الحياة.
حبل أمّي والاقتتال بين أخوتي في رحمها، والوحدة التي عاشها أخي، بل حتى
جريمة قتل أبي وزوجته، والأيام المرعبة التي عشتها في الغابة، وكلّ الأشياء
المتوحشة التي تعرضت لها في شوارع القسطنطينية، التي ساهم كلّ منها، بطريقته
الخاصة، في قصتي. فوراء كلّ هذه المشاق
والمصاعب، يقبع مخطط أكبر. لم أكن أفهمه
بوضوح، لكني كنت أستطيع أن أشعر به لكلّ جوارحي.
وبعد الاستماع إلى الرومي في مسجد مكتظ بالناس في عصر ذلك اليوم، أحسست
بسحابة من السكينة تهبط عليّ، وببهجة وراحة مثل رؤية أمّي وهي تخبز الخبز.
حسن
الشحاذ
قونية، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
جلست تحت شجرة
القيقب وأنا أتميّز من الغيظ. غضبي من
الرومي على خطبته المنمقة عن الألم والمعاناة، وهو أمر يبدو أنه لا يعرف عنه الشيء
الكثير. اقترب ظلّ المئذنة عبر
الشارع. كنت نصف نائم، نصف مراقب لعابري
السبيل، وعلى وشك أن أغفو، عندما رأيت درويشاً لم يسبق لي أن صادفته من قبل. كان يرتدي ثوباً أسود بالياً، ويحمل بيده عصا
كبيرة، وكان أمرد، وكان يضع قرطاً صغيراً فضّياً في إحدى أذنيه، وبدا مختلفاً إلى
درجة أنني لم أتمكن من تركيز بصري عليه.
وبينما كانت
عيناه تتطلعان يمنة ويسرة، سرعان ما رآني.
وبدلاً من تجاهل وجودي كما يفعل الناس عادة عندما يرونني في الطريق لأول
مرة، وضع يده اليمنى على قلبه وحيّاني كما لو كنا صديقين قديمين. دهشت ورحت أتطلع حولي لأتثبّت من أنه لم يكن
يحيّي شخصاً آخر. لكن لم يكن هناك أحد
سواي وشجرة القيقب. بذهول وحيرة، وضعت يدي
على قلبي ورددت له التحية.
توجّه الدرويش
بخطاً وئيدة نحوي. أطرقت عينيّ، متوقعاً أن يلقي في طاستي قطعة نحاسية، أو يعطيني
قطعة خبز، لكنه لم يفعل ذلك، جثا على ركبتيه فأصبح على مستوى عينيّ.
فرددت قائلاً:
"وعليك السلام أيها الدرويش"، وبدا صوتي أجش غريباً عيلّ. مضى زمن طويل لم أتحدث فيه إلى أي أحد، حتى كدت
أنسى كيف كانت رنّة صوتي.
عرّف على نفسه
وقال إن اسمه شمس التبريزي، وسألني عن اسمي.
ضحكت وقلت:
"وما حاجة رجل مثلي إلى اسم؟".
فقال معترضاً:
"لملّ شخص اسم. لله عدد لا يحصى من
الأسماء، ولا نعرف منها إلا تسعة وتسعين اسماً.
فإذا كان لله أسماء، فكيف يمكن لإنسان وهو صورة الله أن يجول من دون
اسم؟".
لم أعرف كيف أردّ
عليه، بل لم أحاول ذلك ، ثم قلت: "كانت لديّ زوجة وأمّ ذات يوم. كانتا تطلقان عليّ اسم حسن".
"إذاً اسمك
حسن"، هزّ الدرويش رأسه، ثمّ قدّم إليّ مرآة فضّية، وقال: "احتفظ
بها. لقد قدّمها لي رجل طيب في بغداد،
لكنك تحتاجها أكثر مما أحتاجها أنا. إنها
ستذكّرك بأنك تحمل الله في داخلك".
قبل أن تتاح لي
فرصة الردّ عليه، سمعنا هرجاً ومرجاً في الخلف.
كان أول شيء خطر في بالي هو أنهم قبضوا على نشّال في المسجد، لكن عندما
تعالت الأصوات وازدادت عنفاً وصخباً، قلت لا بد أن
الأمر أكبر من ذلك، فالقبض على نشّال لا يحدث عادة مثل
هذه الجلبة.
وسرعان ما تبيّنا
الأمر. فقد اكتشفوا وجود امرأة، عاهرة
معروفة، في المسجد متنكرة في زيّ رجل.
وكان هناك عدد من الرجال يدفعونها خارج المسجد، ويهتفون: "اجلدوا هذه
المرأة المخادعة بالسوط! اجلدوا العاهرة بالسوط".
في هذه الأثناء
وصل الرعاع الغاضبون إلى الشارع. رأيت
الشابّة وهي ترتدي زي رجل. كان وجهها
شاحباً كالموت، وكانت عيناها اللوزيتان مذعورتين.
كنت قد شاهدت أعمال قتل كثيرة من قبل، ولم أعد أدهش لرؤية كيف يتغيّر بعض
الناس عندما ينضمون إلى الغوغاء. إذ سرعان
ما يتحوّل الرجال العاديون الذين لا يوجد لديهم ماض عنيف – أصحاب حرف أو باعة أو
باعة متجولون – إلى أشخاص عدوانيين، حتى إنهم يصبحون قتلة عندما يجتمعون. فقد كانت أعمال القتل شائعة، وتنتهي بعرض الجثث
في الشوارع لردع الآخرين.
"يا لها من
امرأة مسكينة"، دمدمت لشمس التبريزي، لكني عندما التفتّ إليه لأسمع ردّه، لم
أجده. بل رأيت الدرويش يندفع بقوة نحو
الغوغاء، مثل سهم مشتعل قُذف به إلى السماء.
وثبت واقفاً وهرعت للحاق به.
عندما وصل إلى
بداية الموكب، رفع شمس عصاه مثل راية، وصاح بأعلى صوته: "توقفوا، أيها الناس!
توقفوا".
ارتبكوا وحلّ
عليهم صمت مطبق، وراح الرجال يحدّقون فيه بدهشة.
"يجب أن
تخجلوا من أنفسكم!"، صاح شمس التبريزي، وراح يضرب الأرض بعصاه: "ثلاثون
رجلاً يهاجمون امرأة واحدة. هل هذا
عدل؟".
"إنها لا
تستحقّ العدل"، قال رجل ضخم له وجه مربع، وعينان خمولتان، يبدو أنه نصّب نفسه
زعيماً على هذه المجموعة التي تشكلت تلقائياً.
عرفته في الحال. كان حارساً يدعى بيبرس، وهو رجل يعرفه جميع الشحاذين في
المدينة لوحشيّته وجشعه.
"وجدنا هذه
المرأة متنكرة في ثياب رجل بعد أن انسلّت إلى المسجد لتخدع المسلمين
المؤمنين"، قال بيبرس.
"هل تقصد
أنكم تريدون معاقبة شخص لأنه ارتاد المسجد؟ هل هذه جريمة؟"، سأل شمس
التبريزي، بصوت يقطر احتقاراً.
أحدث هذا السؤال
هدوءاً موقتاً، فقد بدا أن أحداً لم يفكّر
بهذا الأمر.
"إنها
عاهرة!"، هتف رجل آخر. كان يتقد
غضباً وأصبح وجهه قرمزياً داكناً: "لا مكان لها في مسجد طاهر".
بدا ذلك كافياً
لإلهاب مشاعر المجموعة ثانية. إذ بدأ أشخاص آخرون يرددون: "إنها عاهرة!
زانية! لنقتل العاهرة!".
قفز فتى شاب إلى
الأمام وأمسك عمامة المرأة، وشدّها بقوة.
انحلّت العمامة، وتهدّل شعر المرأة الطويل الأشقر، اللامع مثل نبات عبّاد
الشمس، في مويجات جميلة. حبسنا أنفاسنا
جميعاً، مشدوهين من شدة جمال المرأة وشبابها.
لا بد أن شمس
أدرك وجود هذه المشاعر المتباينة، لأن انتقدهم
بحدّة: "يجب أن تقرروا يا إخوتي. هل تحتقرون هذه المرأة حقاً، أم أنكن
تشتهونها؟".
ثم أمسك الدرويش
بيد البغي وشدّها نحوه، بعيداً عن الفتى الشاب والغوغاء. اختبأت وراءه كما تختبئ فتاة صغيرة وراء ثوب
أمّها.
"إنك ترتكب
خطأ فادحاً"، قال زعيم الجماعة، رافعاً عقيرته فوق همهمة الحشد: "إنك
غريب في هذه البلدة ولا تعرف عاداتنا فلا تحشر نفسك في هذا الأمر".
ثم تدخل شخص آخر
وقال: "من أيّ نوع من الدراويش أنت؟ ألا يوجد لديك شيء أفضل من الدفاع عن
عاهرة؟".
صمت شمس التبريزي
للحظة، وكأنه يمعن التفكير في هذه الأسئلة.
لم تظهر عليه أي علامة من علامات الغضب، وظل محافظاً على هدوئه، ثمّ
قال:"لكن بربكم كيف لاحظتم وجودها؟ فعلى الرغم من أنكم تؤمّون المسجد، فإنكم تولون انتباهكم لمن حولكم أكثر مما
تولونه لله؟ فلو كنتم مؤمنين حقاً كما تدّعون، لما لاحظتم وجود هذه المرأة حتى لو
كانت عارية. هيا، عودوا إلى الخطبة،
واعملوا شيئاً أفضل هذه المرة".
حلّ صمت أخرق على
الشارع برمته، وتناثرت أوراق الأشجار على طول الرصيف، وللحظة كانت هي الأشياء
الوحيدة التي تتحرّك.
"هيّا، أيها
الناس! هيّا عودوا لسماع الخطبة"، قال شمس التبريزي، ملوّحاً بعصاه، وراح
يهشّ الرجال كالذباب.
لم يستديروا
جميعهم وينصرفوا، لكنهم رجعوا بضع خطوات، مترنحين، لا يعرفون ماذا سيفعلون بعد
ذلك. وكان عدد قليل منهم
ينظر نحو المسجد كأنهم يترددون في العودة إليه، وهنا
استجمعت البغي شجاعتها لتخرج من وراء الدرويش، وبسرعة أرنب ، ولّت الأدبار، وراح
شعرها الطويل يتطاير في جميع الاتجاهات وهي تجري نحو أقرب شارع فرعي.
حاول رجلان
مطاردتها، لكن شمس التبريزي اعترض طريقهما، وألقى بعصاه تحت قدميهما فتعثرا
وسقطا. وضحك عدد من عابري السبيل عندما
رؤوا ذلك، كما ضحكت أنا.
بحرج وذهول، نهض
الرجلان ثانية، لكن البغي كانت قد اختفت، وسار الدرويش مبتعداً، بعد أن أنجز مهتمه
هنا.
سليمان
السكران
قونية، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
قبل حدوث تلك
الجلبة، كنت أغفو مسنداً ظهري إلى حائط الحانة، لكن الجلبة المنبعثة في الخارج،
جعلتني أكاد أخرج من جلدي.
"ما الذي
يجري هنا؟"، صحت عندما فتحت عيني، "هل هاجمنا المغول".
انطلقت موجة من
الضحك. التفتُ فوجدت عدداً من الزبائن
يسخرون مني. يا لهم من لقطاء قذرين.
"لا تقلق،
أيها السكران العجوز"، صاح خريستوس، صاحب الحانة، "لا يوجد مغول
يطاردونك. بل إن الرومي يمرّ بموكبه محاطاً بحشد من المعجبين والمريدين".
توجهت إلى
النافذة ونظرت إلى الخارج. رأيت موكباً من
المريدين والمعجبين والمتحمّسين يهتفون: " الله أكبر، الله أكبر"،
يتوسطهم الرومي بقامته المنتصبة، ممتطياً حصاناً أبيض، ووجه يشعّ قوّة وثقة. فتحت النافذة، ومددت رأسي، ورحت أتفرج
عليهم. اقترب الموكب الذي كان يتحرك ببطء
شديد. كان عدد من الرجال في الموكب قريبين
مني كثيراً إلى درجة أنه كان بإمكاني أن ألمس بضعة رؤوس
بسهولة. وفجأة خطرت لي فكرة رائعة وهي أن
أختطف بعض العمائم عن رؤوس بعضهم.
أمسكت
محكّة الظهر الخشبية التي تخص خريستوس.
فتحت النافذة بيد، وأمسكت محكّة الظهر باليد الأخرى، وانحنيت إلى الأمام،
وتمكنت من الوصول إلى عمامة أحد الرجال.
كنت على وشك أن أسحب العمامة عندما رفع رجل آخر بصره إلى الأعلى بالصدفة،
ورآني.
"السلام
عليكم"، حيّيته، بابتسامة عريضة.
"مسلم في
حانة! عار عليك"، زأر الرجل، "ألا تعرف أن الخمر رجس من عمل
الشيطان؟".
فتحت فمي لأجيب،
لكن قبل أن ينبعث مني أي صوت، سمعت ثوت أزيز حاد يمرّ بجانب رأسي. برعب شديد عرفت أنها قطعة حجر. ولو لم أخفض رأسي في آخر لحظة، لتهشمت
جمجمتي. فقد مرقت من النافذة المشرعة،
وسقطت ورائي على طاولة يجلس إليها تاجر فارسي.
فأمسكها التاجر الذي كان في حالة سكر شديدة، غير مدرك لما يجري حوله، وراح
يتفحّصها كما لو كانت رسالة غامضة نزلت من السماء.
"سليمان ،
أغلق تلك النافذة وعد إلى طاولتك، صاح خريستوس مزمجراً، بصوت أجش مفعم بالقلق.
"هل رأيت ما
حدث؟"، قلت، وعدت متعثراً نحو منضدتي، "لقد قذفني أحدهم بحجر. كان من
الممكن أن يقتلني".
رفع خريستوس حاجبيه، وقال "أنا آسف، لكن ماذا كنت
تتوقّع؟ إلا تعرف أن هناك أناساً لا يريدون رؤية مسلم في حانة؟ وها أنت تكشف عن
نفسك، ورائحة الخمر تفوح منك، وأنفك متوهج مثل فانوس أحمر".
"وما الضير
في ذلك؟"، تأتأتُ قائلاً: "ألست إنساناً؟".
ربّت خريستوس على كتفي وكأنه يقول، حسناً، حسناً.
فقلت: "لهذا
السبب أكره الدين. إذ يعتقد المتدينون أن
الله واقف إلى جانبهم ويظنون أنهم يتفوقون على الآخرين".
لم يحر خريستوس
جواباً. فقد كان رجلاً متديناً. لكنه كان أيضاً صاحب حانة ماهراً يعرف كيف يهدئ
من روع زبون غاضب. أحضر لي دورقاً آخر من النبيذ الأحمر، وراح ينظر إلي وأنا
أجرعه. وفي الخارج، عصفت ريح شديدة، فصفقت
النوافذ، وبعثرت أوراق الأشجار الجافة ذات اليمين وذات الشمال. لبثنا واقفين لحظة، ورحنا ننصت بعناية، كما لو
كان هناك لحن يجب أن نسمعه.
قلت: "لا
أفهم لماذا حرّم الله الخمر في هذه الدنيا، ووعد بها في الجنة. فإذا كانت سيئة إلى هذه الدرجة كما يدّعون،
فلماذا تقدم لهم في الجنة؟".
"أسئلة،
أسئلة . . . "، همهم خريستوس ورفع يديه، "إنك تنضح بالأسئلة
دائماً. هل يجب عليك أن تسأل عن كلّ
شيء؟".
"سليمان،
إني أعرفك منذ فترة طويلة. وأنت لست
زبوناً عندي فحسب. إنك صديقي، وأنا قلق
عليك".
"سأكون على
ما يرام"، قلت، لكن خريستوس قاطعني، وقال:
"إنك رجل
طيب، لكن لسانك حادّ كالخنجر، وهذا ما يثير قلقي.
فهناك أناس من جميع الأنواع في قونية.
وليس سراً أن بعضهم لا يحترمون مسلماً مدمناً على الشراب. يجب أن تتعلّم كيف تتوخى الحذر بين الناس. إقض أمورك سراً، وحاذر من كلّ كلمة
تقولها".
ابتسمت ابتسامة
عريضة، وقلت: "هل يمكننا أن نتوّج حديثنا هذا بقصيدة للخيّام"؟.
أطلق خريستوس
تنهيدة، لكن التاجر الفارسي الذي سمعني صاح مبتهجاً، "نعم، نريد أن نسمع
قصيدة للخيّام".
وانضم إلينا
زبائن آخرون، وصفقوا بقوة. بدافع من
الحماسة والاستفزاز، قفزت إلى الطاولة ورحت أقرأ:
"هل
تظنن أن الله خلق الكرمة،
ثمّ
حرّمها وجعل شرابها إثما؟".
صاح التاجر الفارسي، "طبعاً لا! لا معنى
لهذا".
"فاشكر
الذي سخّرها لنا هكذا،
والذي
لا بد أنه يحبّ سماع صلصلة الأقداح!".
إذا كان
من شيء تعلمته خلال هذه السنوات من الشراب، فهو أن الناس يختلفون في أساليب
شرابهم. فقد كنت أعرف أشخاصاً يجرعون
دوارق من النبيذ كلّ ليلة، فيتحولون إلى أشخاص مرحين، يغنّون، ثم يغطون في النوم،
في حين يستحيل آخرون إلى وحوش
على الرغم من أنهم لا يحتسون سوى قطرات قليلة. فإذا كان الشراب نفسه يجعل البعض مرحين
ومنتشين، ويجعل آخرين أشراراً وعدوانيين، أفلا يجب أن نلوم الشارب، لا الشراب
نفسه؟
"اشرب!
لأنك لا تعرف من أين أتيت، ولماذا أتيت!
اشرب!
لأنك لا تعرف لماذا تذهب، وإلى أين".
انطلقت عاصفة من
التصفيق، حتى إن خريستوس شارك في التصفيق.
ففي الحي اليهودي في قونية، وفي حانة يملكها رجل مسيحي، رفعنا نحن، تلك
المجموعة المختلطة من محبي الخمر من جميع الأديان، أقداحنا وشربنا نخب بعضنا، مع
أنه يصعب تصديق ذلك، لأن الله يحبّنا ويغفر لنا.
إيلا
نورثامبتون، 31 أيار (مايو) 2008
"خير لك انت
تصل سالماً من أن تكون نادماً"، ذكر أحد المواقع على شبكة الإنترنت. "تفحّصي قمصانه للتأكد من وجود بقع أحمر
الشفاه، وتأكدي هل تفوح منه رائحة عطر غريبة عندما يعود إلى البيت".
كانت تلك أول مرة
تجري فيها إيلا روبنشتاين اختباراً على نفسها على الإنترنت، بعنوان: "كيف
يمكنك أن تعرفي هل يخونك زوجك أم لا؟"، ومع أنها وجدت الأسئلة تافهة، فقد
عرفت الآن أن الحياة نفسها قد تكون عبارة عادية تتكرر بين الحين والآخر ليس إلاّ.
وعلى الرغم من
نتيجة الاختبار الذي أجرته، لم تشأ إيلا أن تواجه ديفيد. فلم تسأله أين يمضي الليالي التي يقضيها خارج
البيت. وخلال هذه الفترة، كانت تمضي معظم
أوقاتها في قراءة رواية "الكفر الحلو"، مستخدمة الرواية ذريعة لتغطية
صمتها. ولمّا كان عقلها مشتتاً، فقد
استغرقت وقتاً أطول من المعتاد في إنهاء قراءتها.
لكنها كانت مستمتعة بالقصّة، وبكلّ قاعدة جديدة من قواعد شمس التي غيّرت
حياتها برمتها.
كانت إيلا تتصرف
بصورة طبيعية أثناء وجود الأطفال، لكن عندما تكون وحدها مع ديفيد، كان زوجها ينظر
إليها بفضول، وكأنه يتساءل أي نوع من الزوجات تلك التي لا تسأل زوجها أين أمضى
الليلة. لكن إيلا لم تكن تريد سماع
معلومات لا تعرف كيف تتصرف إزاءها. فكانت
تظن أنه كلما قلّت معرفتها بعلاقات زوجها الغرامية، تقلّ تفكيرها بها. وصدق من قال إن الجهل نعمة.
كانت المرة
الوحيدة التي كفرت فيها بتلك النعمة في عيد الميلاد الماضي، عندما وصل إلى صندوق
بريدهم استمارة استطلاع من أحد الفنادق المحلية، موجّهة إلى ديفيد. فقد أراد قسم "خدمات الزبائن" أن
يعرف هل أمضى إقامة سعيدة في الفندق الذي نزل فيه مرات عدة. تركت إيلا الرسالة على المنضدة، فوق كومة
الرسائل، وراحت تراقبه في ذلك المساء عندما أخرج الرسالة من المغلف المفتوح
وقرأها.
"آه،
استمارة تقييم للنزلاء! هذا آخر شيء أريد أن أراه"، قال ديفيد، مبتسماً لها
نصف ابتسامة، "لقد حضرت مؤتمراً لطب الأسنان في السنة الماضية. لا بد أنهم أدرجوا أسماء جميع المشاركين في
قائمة الزبائن لديهم".
صدّقته. على الأقل ذلك الجزء فيها الذي لم يكن يرغب في
أن يهزّ المركب، أما الجزء الآخر فكان يتسم بالتشاؤم والارتياب، وهو الجزء الذي
راح يبحث في اليوم التالي عن رقم الفندق وتتصل فيه، وتسمع ما كانت تعرفه أصلاً،
وهو أنه لم يعقد في فندقهم مؤتمر لطب الأسنان لا هذه السنة ولا في السنة الماضية.
لكن في أعماقها،
لامت إيلا نفسها. فقد بدأت تتقدم في السن،
وازداد وزنها خلال السنوات الستّ الماضية. ومع كلّ رطل جديد يكتسبه جسمها، كان
دافعها الجنسي ينخفض. وصعّبت دروس الطهو
عليها التخلص من الأرطال الزائدة، مع انه كانت هناك نساء في مجموعتها يطهين أكثر
منها وأفضل منها، لكنّ وزنهن وحجمهن ظلّ نصف وزنها وحجمها.
وعندما تذكّرت
حياتها الماضية، أدركت أن التمرّد لا يلائمها. لأنها لم تدخّن الحشيش قط مع فتيان
وراء أبواب مغلقة، ولم تُطرد من الحانات، ولم تستعمل حبوب منع الحمل، ولم تكن
تنتابها نوبات غضب، أو تكذب على أمّها، ولم تهرب من المدرسة، ولم تماس الجنس في
فترة مراهقتها. في حين كانت الفتيات في
مثل عمرها يجهضن أو يقدمن أطفالهن الذين أنجبوهن خارد إطار الزواج للتبني، وكانت
تستمع إلى قصصهن كأنها تشاهد برنامجاً تلفزيونياً عن مجاعة في إثيوبيا. والأمر الذي كان يثير الحزن في نفس إيلا هو
انتشار هذه المآسي في العالم، لكنها لم تكن ترى أنها تعيش في الكون نفسه مع تلك
الفتيات المسكينات البائسات.
لم تكن تشارك في
الحفلات التي كان الشباب يقيمونها، حتى عندما كانت في سن المراهقة، بل كانت تفضّل
البقاء في البيت وقراءة كتاب جيد في ليلة الجمعة، على أن تشارك شباناً غرباء في
حفلة ماجنة.
"لماذا لا
تفعلن مثل إيلا؟"، كانت الأمهات في الحيّ يسألن بناتهن، "انظرن، فهي لا
تورط نفسها في مشاكل".
وفي حين كانت
أمهاتهن يحترمنها كثيراً، كانت الفتيات والفتيان يرون فيها فتاة جدّية معقّدة تخلو
من الروح المرحة، ولا عجب أنها لم تكن فتاة محبوبة كثيراً في المدرسة
الثانوية. وفي إحدى المرات، قال لها أحد
زملائها: "أتعرفين ما هي مشكلتك؟ إنك تأخذين الحياة بجدية كبيرة. إنك فتاة
مملة حتى الموت".
أنصتت له بعناية،
وقالت إنها ستفكّر في الأمر.
حتى إنها لم تغيّر
تصفيفة شعرها كثيراً طوال تلك السنوات – شعر طويل، مسدل، أشقر عسلي، تعقصه في شكل
كعكة – أو تجعله في ضفائر تتدلى حتى أسفل
ظهرها. لم تكن تتبرج كثيراً، بل كانت تضع
مسحة من أحمر الشفاه البني اللون المائل إلى الأحمر، وتظلل عينيها باللون الأخضر،
فيخفي لون عينيها الأزرق الرمادي أكثر مما يبرزه، كما كانت تقول لها ابنتها. وفي
جميع الأحوال، لم تكن تستطيع أن ترسم خطين مقوسين جيداً بظل العيون ، وكان الخط
المرسوم على أحد الجفنين غالباً ما يخرج عن مساره فيبدو أثخن من الخط المرسوم على
الجفن الآخر.
كان يخيّل إلى
إيلا أن عيباً فيها. إمّا فضولية ملحاحة
(إزاء مخططات زواج جانيت)، أو سلبية منصاعة (إزاء علاقات زوجها الغرامية). فهناك إيلا المهووسة بالسيطرة، وهنا إيلا
الوديعة على نحو يائس. لم تكن تعرف أيّ
هذين الأمرين سيظهر، ومتى.
كانت هناك إيلا
ثالثة، إيلا التي تلاحظ كلّ شيء بهدوء، ريثما يحين وقت انفجارها. فقد كان يقبع تحت نفس إيلا الهادئة المخنوقة،
غضب وتمرد شديدان. وكانت إيلا الثالثة
تحذّرها من أنها إذا
استمرّت على هذا المنوال، فلا بد أنها ستنفجر ذات
يوم. إنها مسألة وقت.
وبعد التفكير في
هذه المسائل في آخر يوم من أيام شهر أيار (مايو)، فعلت إيلا ما لم تفعله منذ زمن
طويل. إذ صلّت، وسألت الله أن يمدّها بحبّ
يغمر كيانها، أو أن يجعلها قاسية وغير مبالية بحيث لا تبالي ولا تكترث بعدم وجود
الحبّ في حياتها.
"أي واحدة
تختارين، الرجاء الإجابة بسرعة"، استدركت قائلة، "لعلك نسيت أنني بلغت
الأربعين من عمري. وكما ترين، فإنني لا
أجيد استخدام سنوات عمري".
البغي
وردة الصحراء
قونية، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
رحت أجري وأجري
لاهثة في الزقاق الضيّق، غير قادرة على النظر إلى الوراء. كانت رئتاي تحترقان، وصدري يعلو ويهبط، حتى
وصلت أخيراً إلى السوق المزدحم، واستندت إلى حائط آيل للسقوط. عندها استجمعت شجاعتي لأنظر خلفي. ولمفاجأتي وارتياحي الكبيرين، رأيت شخصاً
واحداً يتبعني، وهو سمسم. توقّف بجانبي
وهو يلهث، ويداه تتأرجحان على جانبيه، وقد ارتسمت على وجهه قسمات الحيرة والغيظ،
غير قادر على فهم السبب الذي جعلني أجري فجأة كالمجنونة في أزقة قونية.
لقد حدث كلّ شيء
بسرعة كبيرة، ولم أتبيّن حقيقة ما جرى إلا عندما وصلت إلى السوق. فعندما طنت جالسة
في المسجد، مستغرقة في سماع الخطبة، أثمل من لألئ الحكمة التي يلقيها الرومي. وفي غمرة هذه النشوة التي تملّكتني، لم ألحظ أن
الفتى الجالس بجانبي قد داس عن غير قصد على طرف الوشاح الذي يستر وجهي. وقبل أن أتبين ذلك، انحلّ الوشاح، ومالت عمامتي
إلى الجانب، فانكشف
وجهي وجزء من شعري.
وبسرعة أعدت تثبيت الوشاح، وتابعت الاستماع للرومي، واثقة من أن أحداً لم
يلحظ شيئاً. لكن عندما رفعت بصري ثانية،
رأيت شاباً في الصف الأمامي يحدّق بي. كان
وجهه مربّع الشكل، له عين كسولة، وأنف حادّ ، وفم يشي بالازدراء. عرفت للتو أنه بيبرس.
كان بيبرس أحد
أولئك الزبائن المزعجين الذين لم تكن أي فتاة في المبغى ترغب في مضاجعته. فهناك رجال يرغبون في مضاجعة مومسات، لكنهم
يحتقرونهن ولا يكفّون عن إهانتهن. وكان
بيبرس من هذا النوع من الرجال. فلم يكن
يكفّ عن إلقاء نكات بذيئة، وكان صاحب مزاج سيئ للغاية. ففي إحدى المرات، ضب فتاة ضرباً مبرحاً إلى حدّ
أن صاحبة المبغى، التي تعشق المال أكثر من أيّ شيء آخر، طردته وطلبت منه ألاّ يطأ
بقدمه هذا المكان ثانية. لكنه ظلّ يأتي،
على الأقل لبضعة شهور أخرى. ثمّ، لسبب
أجهله، فجأة توقف عن القدوم إلى المبغى، ولم نعد نسمع عنه. ها هو الآن، يجلس في الصف الأمامي، بعد أن أرخى
لحية طويلة مثل الرجال الورعين، لكن البريق العنيف كان لا يزال ينبعث من عينيه.
أشحت بوجهي عنه،
لكن الأوان كان قد فات. فقد عرفني.
همس بيبرس شيئاً
في أذن الرجل الجالس بجانيه، ثم استدارا وحدّقا بي، ثم أشارا إلى رجل آخر، وواحد
تلو الأخر، راح جميع الرجال في ذلك الصفّ يحدّقون بي. احمرّ وجهي وخفق قلبي، لكني لم أستطع أن أتزحزح
من مكاني، بل تعلّقت بالأمل الطفولي بأنني إذا ظللت جالسة من دون أن آتي بحركة
وأغمضت عيني، فإن الظلام سيبتلعنا جميعاً، ولن يبقى شيء أقلق عليه.
عندما تجاسرت
وفتحت عينيّ ثانية، رأيت بيبرس يشقّ طريقه عبر الحشد نحوي. هرعت نحو الباب، لكن استحال عليّ الهرب، فقد
كنت محاطة ببحر متلاطم من الرجال. وبلمح
البصر وصل إليّ بيبرس، واقترب مني كثيراً إلى حد أني شممت أنفاسه. أمسكني من ذراعي، وقال من بين أسنانه المطبقة:
"ماذا تفعل عاهرة هنا؟ ألا تخجلين؟".
أرجوك . . .
أرجوك دعني أذهب"، تلعثمت، لكني لا أظن أنه سمعني.
لحق به
أصدقاؤه. رجال فظون، مرعبون، متكبّرون،
واثقون من أنفسهم، تفوح منهم رائحة الغضب والحلّ، وراحوا يمطرونني بالإهانات. التفت الرجال الآخرون لرية ما يحدث، وهمهم
بعضهم مستنكرين، لكن أحداً منهم لم يتدخّل.
كان جسمي مسترخياً مثل قطعة عجين، وتركتهم يدفعون بي نحو الباب، وعندما
وصلنا إلى الشارع، تمنّيت أن يهبّ سمسم لمساعدتي، وقلت لنفسي إنه إذا حدث الأسوأ،
فإني سأهرب. لكن ما إن وطأت قدماي أرض
الشارع حتى ازداد الرجال عنفاً وعدوانية.
وأدركت برعب أنهم كانوا يحرصون على ألاّ يرفعوا أواتهم أو يدفعوني في
المسجد بدافع الاحترام للخطيب والمصلين، أما في الشارع فلم يكن هناك شيء يمكن أن
يوقفهم.
لقد عانيت في
حياتي من أشياء أشدّ صعوبة، لكني مع ذلك أشكّ في أن شعوراً بالحزن قد انتابني كما
الآن. فبعد سنوات من التردد، اقتربت اليوم
خطوة باتجاه الله، وكيف أجاب على تقربي منه؟ بركلي وطردي من بيته!
"ما كان
عليّ أن أذهب إلى هناك"، قلت لسمسم، وقد تصدّع صوتي مثل جليد رقيق،
"إنهم محقون، لأنه ليس لعاهرة مكان في مسجد أو كنيسة، أو في أيّ بيت من بيوت
الله".
"لا تقولي
هذا".
عندما استدرت
لرؤية من قال ذلك، لم أصدّق عينيّ. كان
هو، الدرويش الأمرد الجوّال. ارتسمت على
وجه سمسم ابتسامة عريضة، مبتهجاً لرؤيته مرة أخرى. اندفعت لأقبّل يديه، لكنه أوقفني عن ذلك وقال:
"لا ، أرجوك".
"لكن كيف
يمكنني أن أشكرك؟ إني أدين لك بالشيء الكثير، قلت راجية.
هزّ كتفيه وبدا
غير مهتم، وقال: "إنك لا تدينين لي بشيء.
إننا لا ندين لأحد بشيء إلا له".
عرّفني على نفسه
وقال إن اسمه شمس التبريزي، ثم ذكر أغرب شيء في حياتي: "يبدأ بعض الناس
حياتهم بهالة متوهجة لكنها سرعان ما تبدأ تفقد بريقها وتبهت. ويبدو أنك واحدة من هؤلاء. فقد كانت هالتك ذات يوم أنصع بياضاً من الزنابق
التي تتناثر فيها نقاط صفر ووردية، لكنّها بهتت بمرور الزمن، وأصبحت بنية باهتة
الآن. ألا تفتقدين ألوانك الأصلية؟ ألا تحبين أن تتحدّي جوهرك؟".
نظرت إليه،
وأحسست بأنني أهيم في كلماته.
"لقد فقدت
هالتك بريقها لأنك أقنعت نفسك طوال هذه السنوات بأنك قذرة من الداخل
والخارج".
"لست
قذرة"، قلت وعضضت شفتي، "ألا تعرف ماذا أفعل لكسب رزقي؟".
"دعني أحكي
لك حكاية"، قال شمس، وهذا ما حكاه:
في أحد الأيام،
مرّت مومس بجانب كلب ضال. كان الحيوان
يلهث تحت الشمس القائظة، عطشاً وعاجزاً. وعلى
الفور نزعت المومس حذاءها وملأته بالماء من أقرب بئر لتسقي الكلب. ثمّ مضت في طريقها. وفي اليوم التالي صادفت صوفياً، يمتلك حكمة
عظيمة. وعندما رآها، قبّل يديها. ذُهلت، لكنه قال لها إن عطفها على الكلب كان
صادقاً فغفر لها الله جميع ذنوبها.
فهمت ما كان شمس
التبريزي يريد أن يقوله لي، لكن شيئاً في داخلي رفض تصديقه، لذلك قلت: "دعني
أؤكد لك، إنني لو أطعمت جميع الكلاب في قونية، فلن يكفي ذلك للتكفير عن
ذنوبي".
"ليس
بإمكانك معرفة ذلك، لأن الله وحده هو العليم.
وما الذي يجعلك تظنين أن أحداً من الرجال الذين أخرجوك من المسجد اليوم هو
أقرب إلى الله؟".
"حتى لو لم
يكونوا أقرب إلى الله"، أجبت من دون اقتناع ، "فمن سيقول لهم ذلك؟
أنت؟".
لكن الدرويش هزّ
رأسه، وقال: "لا ، لا تسير الأمور هكذا، يجب عليكِ أنتِ أن تقولي لهم".
"أتظن أنهم
سينصتون إليّ؟ هؤلاء الرجال يكرهونني".
"سينصتون"،
قال بتصميم، "لأنه لا يوجد شيء يدعى "هم"، كما لا يوجد شيء يدعى
"أنا"، وكلّ ما يجب عليك عمله هو أن تعرفي أن كلّ شيء شخص مرتبط ببعضه
بعضاً في هذا الكون. فلسنا مئات وآلافاً
من الكائنات المختلفة، بل إننا جميعاً شيء واحد".
انتظرت أن يوضح
لي، لكنه تابع قائلاً: "وهذه قاعدة
من القواعد الأربعين. إذا أراد المرء أن
يغيّر الطريقة التي يعامله فيها الناس، فيجب أن يغيّر أولاً الطريقة التي يعامل
فيها نفسه. وإذا لم يتعلّم كيف يحبّ نفسه،
حباً كاملاً صادقاً، فلا توجد وسيلة يمكنه فيها أن يحبّ. لكنه عندما يبلغ تلك المرحلة، سيشكر كلّ شوكة
يلقيها عليه الآخرون. فهذا يدل على أن
الورود ستنهمر عليه قريباً"، توقف
قليلاً ثم أضاف: "كيف يمكن للمرء أن يلوم الآخرين لأنهم لا يحترمونه إذا لم
يكن يعتبر نفسه جديراً بالاحترام".
وقفت هناك غير
قادرة على أن أنبس بكلمة عندما أحسست بأن ما في قبضتي قد بدأ ينسلً مني. إذ تذكرت جميع الرجال الذين ضاجعتهم، رائحتهم،
وملمس أيديهم ذات الجلد السميك، وتأوهاتهم عند بلوغهم لحظة الرعشة... رأيت فتياناً
لطيفين استحالوا وحوشاً، ووحوشاً استحالوا فتياناً لطيفين. ففي إحدى المرات، جاءني زبون اعتاد البصق على
المومسات وهو يضاجعهن، وكان يقول: "قذرة"، ويبصق في فمي وعلى وجهي ويقول
: " أيتها القحبة القذرة".
بينما يقول لي
هذا الدرويش إنني أنظف من ماء النبع الرقراق.
خيّل إليّ أنها نكتة سمجة، وعندما أرغمت نفسي على الضحك، لم يخرج الصوت من
حنجرتي، فكتمت تنهيدة.
"إن الماضي
دوّامة، إذا تركته يسير على لحظتك الحالية، فإنه سيمتصّك ويجرفك"، قال شمس
وكأنه قرأ أفكاري، "ما الزمن إلا وهم فحسب، وكلّ ما تحتاجين إليه هو أن تعيشي
هذه اللحظة بالذات. هذا كل ما يهم".
عندما قال ذلك،
أخرج منديلاً حريرياً من جيب عباءته، وقال: "احتفظي به. لقد أعطاني إياه رجل طيب في بغداد، لكنك بحاجة
إليه أكثر مني. إنه سيذكّرك بأن قلبك نقي
وأنك تحملين الله في داخلك".
وهنا أمسك
الدرويش عصاه ونهض، متهيئاً للذهاب، وقال: "اتركي ذلك المبغى".
"أين؟ كيف؟
لا يوجد لديّ مكان آخر أذهب إليه".
"ليست هذه
مشكلة"، قال شمس وعيناه تلمعان، "لا تهتمي إلى أين سيقودك الطريق، بل
ركّزي على الخطوة الأولى. فهي أصعب خطوة
يجب أن تتحملي مسؤوليتها. وما إن تتخذي
تلك الخطوة دعي كلّ شيء يجري بشكل طبيعي وسيأتي ما تبقى من تلقاء نفسه. لا تسيري مع التيار، بل كوني أنتِ التيار".
هززت رأسي. لم أكن بحاجة إلى السؤال لكي أفهم ذلك أيضاً،
فهي إحدى القواعد الأربعين.
سليمان
السكران
قونية، 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1244
قبل منتصف الليل،
احتسيت آخر قدح من الشراب وغادرت الحانة.
"تذكّر ما
قلته لك. انتبه لكل كلمة تقولها"،
قال خريستوس محذّراً، ولوّح لي مودعاً.
هززت رأسي، وشعرت
بأنني محظوظ لأن لدّي صديقاً يهتم بي. لكن
ما إن وطأت قدماي الشارع الخاوي المعتم، حتى أحسست بشيء من الإعياء لم أشعر به من
قبل. تمنّيت لو أنني أخذت معي قنينة نبيذ. فقد كان لا يزال في مقدوري أن أشرب.
بينما رحت أترنّح
وأنا أسير، وحذائي الطويل يصدر طقطقة فوق بلاط الشارع المكسور، لمعت في رأسي صورة
الرجال الذين كانوا يسيرون في موكب الرومي.
وقد آلمني تذكّر نظرة البغض في عيونهم.
وإن كان هناك شيء أكرهه في العالم، فهو الحشمة، وقد وبّخني الغني والفقير
إلى حدّ أن أتذكرهما وحده يجعل رعدة تسري في أوصالي.
بينما كانت هذه
الأفكار تحتدم في رأسي، انعطفت عند الناصية ورحت أسير في زقاق فرعي. كان الزقاق أكثر عتمة بسبب الأشجار
الباسقة الضخمة التي تحفّه من الجانبين. وكأن هذا لم يكن كافياً، فقد توارى القمر فجأة
وراء غيمة، فغلفني ظلام كثيف، وإلا لكنت قد لاحظت الحارسين وهما يقتربان مني.
"السلام
عليكما"، قلت، وكان صوتي يشي بمرح محاولاً إخفاء شعوري بالقلق.
لكن الحارسين لم
يردّا على تحيتي، بل سألاني ما الذي أفعله في الشارع في هذه الساعة المتأخرة من
الليل.
فهمهمت قائلاً: "إني
أتمشى".
وقفنا وجهاً
لوجه، وخيّم صمت ثقيل لم يخترقه سوى نباح كلاب من بعيد. تقدم أحد الرجلين خطوة وراح يشمّ الهواء، ثم
قال: "تفوح رائحة نتنة هنا".
"نعم، تفوح
رائحة خمرة"، أكّد الحارس الآخر.
فقرّرت أن أعالج
الأمر بخفة، فقلت: "لا تزعجا نفسيكما .
إن هذه الرائحة النتنة مجرد رائحة مجازية.
فبما أنه لا يُسمح لنا نحن المسلمين أن نشرب نبيذاً مجازياً، فلا بد أن تكون الرائحة مجازية أيضاً".
"بحقّ
الجحيم، بماذا يهذر هذا الرجل؟"، دمدم الحارس الأول.
عندما فقط برز
القمر من وراء القيمة، وشملنا بضوئه الرقيق الشاحب، فتمكنت من رؤية الرجل الواقف
أمامي. كان وجهه مربّع الشكل، له ذقن
ناتئة، وعينان زرقاوان باردتان، وأنف حادّ.
كان من الممكن أن يبدو وسيماً لو لا عينه الكسولة، والتجهّم الدائم الذي يكسو
وجهه.
"ماذا تفعل
في الشارع في هذه الساعة؟"، كرّر الرجل سؤاله ، "من أين أتيت، وإلى أين
أنت ذاهب؟".
لم أتمالك نفسي،
فقلت: "هذه أسئلة عميقة يا بني. فلو
كنت أعرف الأجوبة، لحللت لغز سبب وجودنا في العالم".
"أتسخر مني
أيها القذر؟"، سأل الحارس، عابساً، وبسرعة أخرج سوطاً، ولوّح به في الهواء.
كانت في حركاته
مبالغة شديدة فضحكت ضحكة مكتومة. وما تلا
ذلك أنه أهوى السوط على صدري. كانت الضربة
مفاجئة لي فقدت توازني وسقطت.
"لعل ذلك
يعلّمك كيف تتصرف بأدب"، ردّ الحارس، ونقل سوطه من يد إلى يد، "ألا تعرف
أن شرب الخمر من الكبائر؟".
حتى عندما أحسست
بحرارة دمي، وحتى عندما أخذ رأسي يدور في بحر الألم، كنت لا أزال غير مصدق أن
شاباً في عمر ابني ينهال عليّ بالسوط في وسط الزقاق.
"هيا
عاقبني"، رددت قائلاً، "لو كانت جنة الله مخصصة لأمثالك، لفضلت أن أحترق
في نار جهنم".
في نوبة غضب
شديد، راح الحارس الشاب يضربني بالسوط بكل ما أوتي من قوة. غطّيت وجهي بيدي، لكن ذلك لم يجد نفعاً. وفي تلك اللحظة خطرت لي أغنية قديمة مرحة، شقّت
طريقها بالقوة بين شفتيّ اللتين يسيل منهما الدم.
عازماً على ألاّ أظهر بؤسي، رحت أغنّي بصوت أعلى وأعلى مع كلّ ضربة سوط:
"قبّليني يا
حبيبتي، قشّري قلبي حتى الصميم"
شفتاك حلوتان
بحلاوة نبيذ الكرز، صبّي لي للمزيد".
سخريتي هذه زادت
الحارس حنقاً. وكلما ارتفع صوتي بالغناء،
ازدادت ضرباته شدة. لم أكن أتصور وجود غضب
كهذا الغضب في جوف رجل واحد.
"يكفي يا
بيبرس . توقّف"، سمعت الحارس الآخر
يصرخ برعب.
وفجأة توقف عن
الضرب بالسوط كما بدأ. أردت أن أقول آخر
كلمة، أقول شيئاً قوياً وفجاً، لكن الدم في فمي أخفى صوتي. قرقعت بطني، وتقيّأت.
"إنك شخص
مريض"، قال بيبرس موبّخاً، "لا تلم إلا نفسك على ما فعلته بك".
أدارا ظهريهما
لي، وسارا واختفيا في عتمة الليل.
لا أعرف إلى متى
بقيت مستلقياً هناك. ربما بضع دقائق أو
الليلة بطولها. إذ فقد الزمن وطأته، وكذلك
كلّ شيء آخر، وتوارى القمر وراء الغيوم، ولم يتركني نوره فحسب، بل تركني وأنا لا
أعرف من أنا أيضاً. وسرعان ما رحت أتخبّط
في بحر النسيان بين الحياة والموت، ولم أعبأ إلى أين سينتهي بي الأمر. ثم بدأ الخدر في جسمي يتلاشى، فصارت تؤلمني كلّ
كدمة، وكلّ خبطة، ويؤلمني كلّ جرح في جسمي، بجنون، تغسلني موجة بعد موجة من
الألم. كان رأسي يترنح، وأطرافي
تؤلمني. في تلك الحالة رحت أئن مثل حيوان
جريح.
لا بد أن بصري قد
كُفّ. فعندما فتحت عينيّ، كان سروالي
مبللاً بالبول، وأطرافي تؤلمني بشدة. تضرعت إلى الله أن يصيب جسدي
بالخدر أو أن يمنحني الشراب، عندما سمعت وقع خطوات
تقترب. أخذ قلبي يخفق بشدة، فقد يكون
واحداً من أولاد الشوارع أو لعله سارق أو قاتلٌ.
لكني سألت نفسي ممَ أخاف؟ فقد بلغت
مرحلة لم يعد يخيفني فيها شيء قد يجلبه لي الليل.
ومن وراء الظلال،
خرج درويش طويل، نحيف، أمرد. جثا إلى
جانبي وساعدني على النهوض. وعرّفني على
نفسه بأن اسمه شمس التبريزي، وسألني عن اسمي.
"سليمان
السكران من قونية في خدمتك"، قلت وسحبت سناً مخلخلاً من فمي، "يسرني
لقاؤك".
"إنك
تنزف دماً"، دمدم شمس وراح يمسح الدم عن وجهي، "ليس من الخارج فقد، بل
من الداخل أيضاً.
عندما قال ذلك،
أخرج قارورة فضّية من جيب عباءته، وقال: "ادهن جروحك بهذا المرهم. لقد أعطاني إياه رجل طيب في بغداد، لكنك تحتاج
إليه أكثر مني. إنك تعرف أن الجرح في
داخلك أعمق، وهو ما يجب أن تقلق منه. إنه
سيذكّرك بأنك تحمل الله في داخلك".
"شكراً"،
سمعت نفسي أدمدم . وبعد أن تأثّرت برقته
وشفقته، قلت: "ذلك الحارس . . . لقد ضربني بالسوط. قال إني أستحق ذلك".
عندما نطقت هذه
الكلمات، أدهشني الأنين الطفولي في صوتي وحاجتي إلى العطف والشفقة.
هزّ شمس التبريزي
رأسه، وقال: "لا يحقّ لأحد أن يفعل ذلك.
فكلّ واحد يبحث
في ذاته عن الله. وهناك قاعدة في هذا
الشأن: لقد
خلقنا جميعاً على صورته، ومع ذلك فإننا جميعاً مخلوقات
مختلفة ومميزة. لا يوجد شخصان متشابهان،
ولا يخفق قلبان لهما الإيقاع ذاته. ولو
أراد الله أن نكون متشابهين، لخلقنا متشابهين.
لذلك، فإن عدم احترام الاختلافات وفرض أفكارك على الآخرين، يعني عدم احترام
النظام المقدس الذي أرساه الله".
"حسنٌ"،
قلت، مندهشاً من نفسي بالسهولة في صوتي، "لكن أليس لديكم أنتم الصوفيون شكوك
حوله؟".
ابتسم
شمس التبريزي ابتسامة متعبة، وقال: "نعم.
إن الشكّ شيء جيد. فهو يعني أنك
حيّ ترزق ودائم البحث". قال ذلك
بنبرة كما لو كان يقرأ من كتاب.
"كما
أن المرء لا يصبح مؤمناً بين ليلة وضحاها.
إذ يخيّل إلى المرء أنه مؤمن، ثمّ يحدث شيء في حياته فيصبح ملحداً، ثمّ
يعود ويؤمن ثانية، ثمّ يصبح متشكّكاً، وهكذا دواليك، حتى يبلغ مرحلة معينة. إننا نتردّد باستمرار. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعلنا نمضي إلى
الأمام. ومع كلّ خطوة جديدة، نزداد قرباً
من الحقيقة".
فقلت:
"لو سمعك خريستوس تتحدث بهذه الطريقة، لطلب منك أن تنتبه إلى ما تقوله. فهو يقول ليس كلّ كلمة تلائم كلّ أذن".
"حسناً،
لديه وجهة نظر"، قال شمس التبريزي، وأطلق ضحكة قصيرة، ووثب واقفاً،
"هيا، دعني أرافقك إلى البيت. يجب أن
نهتم بك، ويجب أن تحصل على قسط من النوم".
ساعدني
على النهوض والوقوف على قدميّ، لكنني لم أكن أقوى على السير فرحت أترنح، فحملني
الدرويش على ظهره، وكأنني خفيف الوزن.
"أريد أن
أنبّهك، فرائحتي كريهة"، غمغمت بخجل.
"لا
بأس يا سليمان، لا تقلق".
هكذا،
من دون أن يعبأ بالدم والبول، أو بالرائحة الكريهة، حملني الدرويش عبر أزقة قونية
الضيّقة. ومررنا من أمام بيوت وأكواخ خيّم
عليها سبات عميق. وعوت الكلاب ونبحت
علينا، بصوت عال وبشراسة، من وراء جدران البساتين، لتخبر كلّ الناس بوجودنا.
قلت:
"كنت أتساءل دائماً عن ورود الخمر في أشعار الصوفيين، فهل النبيذ الذي يمتدحه
الصوفيون حقيقي أم مجازي".
"ما
أهمية ذلك يا صديقي؟"، سأل شمس التبريزي قبل أن يضعني أمام بيتي، ومضى يقول:
"هناك قاعدة تفسر ذلك: عندما يدخل عاشق حقيقي لله إلى حانة، فإنها تصبح غرفة
صلاته، لكن عندما يدخل شارب الخمر إلى الغرفة نفسها، فإنها تصبح خمارته. ففي كلّ شيء نفعله، قلوبنا هي المهمة، لا
مظاهرنا الخارجية. فالصوفيون لا يحكمون
على الآخرين من مظهرهم أو من هم، وعندما يحدّق صوفي في شخص ما، فإنه يغمض عينيه
ويفتح عيناً ثالثة –العين التي ترى العالم الداخلي-".
عندما
أصبحت وحيداً في بيتي بعد هذه الليلة الطويلة والمنهمكة، تأملت ما حدث. ومع أنني كنت حزيناً، شعرت بطمأنينة سعيدة في
أعماقي. وللحظة عابرة، لمحتها وتمنيت أن
تبقى هناك إلى الأبد. وفي تلك اللحظة،
عرفت أن الله موجود، وأنه يحبّني.
ومع أن
جسدي كان يؤلمني، لم أعد أشعر بالألم على نحو غريب.
إيلا
نورثامبتون، 3 حزيران (يونيو) 2008
كان لحن
أغنية "فتيان الشاطئ" ينبعث من نوافذ سيارات طلاب الجامعة المشرعة،
بوجوههم التي لوّحتها شمس الصيف الأولى.
راحت إيلا تراقب، غير عابئة بسعادتهم، وعادت بذاكرتها إلى ما جرى في الأيام
القليلة الماضية. فقد وجدت كلبها
"سبيريت" ميتاً في المطبخ، ومع أنها كانت تستعد لهذه اللحظة، فقد غمرها
حزن شديد، وأحست بالضعف والوحدة، كأن فقدان كلبها جعلها تشعر بأنها أصبحت وحيدة في
هذا العالم. ثمّ اكتشفت أن أورلي تعاني من
مرض البوليميا (¹)، وأن جميع زميلاتها في المدرسة تعرفن ذلك. فاعترت إيلا موجة من الشعور بالذنب، وساورتها
شكوك حول علاقتها بابنتها الصغرى، مما جلها تفكر بمراجعة سجلّها كأمّ. لم يكن الشعور بالذنب عنصراً جديداً في مجموعة
مشاعر إيلا، لكن فقدان ثقتها بتربيتها كأمّ، جعلها تشعر بذلك.
البوليميا:
شهوة متواصلة وغير سوية إلى تناول الطعام بكثرة، يتبع ذلك محاولة التخلص منه
بالتقيؤ أو تناول المسهّلات أو الصوم، وغالباً مع شعور بالذنب والاكتئاب.
خلال تلك الفترة،
بدأت إيلا تتبادل كل يوم عدة رسائل إلكترونية مع عزيز ز. زاهارا. رسالتان، ثلاث رسائل، وأحياناً خمس رسائل. كانت تكتب له عن كلّ شيء، ولمفاجأتها، كان يرد
عليها على الفور تقريباً. ولم تفهم إيلا
كيف كان بإمكانه أن يجد الوقت أو حتى وصلة إنترنت لقراءة الرسائل التي تصله
بالبريد الإلكتروني وهو ينتقل مسافراً إلى أماكن بعيدة. وسرعان ما أدمنت على كلماته. وبدأت تفتح بريدها الإلكتروني في كلّ فرصة، أول
شيء في الصباح، ثمّ بعد الفطور، وعندما تعود من نزهتها الصباحية، وعندما تعدّ وجبة
الغداء، وقبل أن تخرج لأداء بعض الأمور المنزلية، بل حتى أثناءها، عندما كانت
تتوقف عند أحد مقاهي الإنترنت. وعندما
كانت تشاهد برامجها التلفزيونية المفضّلة، وتقطع البندورة شرائح في نادي الطهو،
وعندما تتكلم على الهاتف مع صديقاتها، أو تنصت إلى طفليها وهما يتحدثان عن المدرسة
وواجباتهما المدرسية، كانت تبقي حاسوبها المحمول مفتوحاً وتفتح بريدها
الإلكتروني. وعندما لا ترى رسائل جديدة من
عزيز، كانت تعيد قراءة رسائله القديمة.
وفي كلّ مرّة كانت تتلقى فيها رسالة جديدة منه، لم تكن تتمالك نفسها عن
الابتسام، نصف مبتهجة، نصف محرجة مما يحدث.
لأن شيئاً ما كان يحدث.
وسرعان ما جعل
تبادل الرسائل الإلكترونية مع عزيز، لإيلا تنفصل
عن حياتها الرزينة الهادئة بطريقة ما.
وبدأت تتحول من امرأة توجد في لوحة حياتها ألوان كثيرة من الرمادي الباهت
والبني، إلى امرأة ذات لون سري، أحمر براق، مثير.
وقد أحبّته.
لم يكن عزيز
رجلاً صاحب دعابات صغيرة. فهو يعتقد بأن
الذين لم يجعلوا من قلوبهم دليلاً أساسياً يقودهم في الحياة، الذين لا يستطيعون
الانفتاح على الحبّ ويسيرون على هديه، كما تتبع زهرة عبّاد الشمس الشمس، فهم ليسوا
أحياء حقيقيين. (تساءلت إيلا إن كان ذلك
يضعها في قائمة الأشياء التي تفتقد إلى الحيوية؟). فلم يكن عزيز يكتب عن الطقس أو عن آخر فيلم
شاهده، بل كان يكتب عن أشياء أخرى، أكثر عمقاً، كالحياة والموت، والأهم من كل ذلك،
كان يكتب عن الحبّ. ولم تكن إيلا معتادة
على الإفصاح عن مشاعرها، وخاصة لشخص غريب، لكن لعل هذا الغريب هو الذي جعل امرأة
مثلها تبوح بما يجيش في نفسها.
وإن كانت
رسائلهما المتبادلة تشي بمسحة من الغزل، قالت إيلا لنفسها، فهو غزل بريء قد يكون
جيداً لكليهما. فمن الممكن أن يغازل
أحدهما الآخر، وأن يضعا نفسيهما في زوايا قصية في المتاهة اللانهائية من العالم
الافتراضي. ويفضل تبادل الرسائل هذا، كانت
تأمل في أن تستعيد جزءاً من المشاعر التي فقدتها خلال زواجها. فقد كان عزيز من ذلك النوع النادر من الرجال
الذين يمكن أن تقع امرأة في حبّه من دون أن تفقد احترامها لنفسها. ولعله كان يشعر بالسعادة لأنه أصبح في مركز
اهتمام امرأة أمريكية متوسطة العمر. فقد
أدى الإنترنت إلى تضخيم السلوك خارج نطاقه وجعله رقيقاً، مانحاً الفرصة للغزل من
دون أن يعتري المرء إحساس بالذنب (الذي لم ترغب به لأن لديها الكثير منه)،
والمغامرة من دون مجازفة (التي كانت تريدها لأنها لم تختبرها من قبل). كان ذلك مثل تناول طعام لذيذ محرّم من دون أن
يساورها القلق
بسبب السعرات الحرارية الإضافية – فلا عواقب لذلك.
لكن ربما كان من
الكفر أن تكتب امرأة متزوجة لديها أطفال رسائل إلكترونية تشي بالحميمية إلى شخص
غريب، وبسبب الطبيعة الأفلاطونية لعلاقتهما، خلصت إيلا إلى القول بـ :إنه كفر حلو.
إيلا
نورثامبتون، 5 حزيران (يونيو) 2008
عزيزي عزيز،
قلت في إحدى
رسائلك السابقة إن فكرة أننا نستطيع التحكم بمسيرة حياتنا إذا اتخذنا خيارات عقلانية
فكرة سخيفة مثل سمكة تحاول أن تتحكم بالمحيط الذي تسبح فيه. لقد فكّرت بجملتك التالية كثيراً وهي أن:
"الفكرة بأن المرء يعرف ذاته لم تؤد إلى إحداث توقّعات خاطئة فقط، بل أدت إلى
إحباطات في الأماكن التي لا تجاري فيها الحياة توقّعاتنا".
والآن حان الوقت
لكي أعترف: إذ إن لديّ نزعة للتحكم والسيطرة.
على الأقل هذا ما سيقوله لك الذين يعرفونني حق المعرفة. وحتى فترى قريبة كنت أمّاً صارمة، وكانت لديّ
قواعد كثيرة (وصدقني، ليست قواعد جميلة مثل قواعدك الصوفية)، ولم يكن ثمة سبيل
للمساومة معي. وفي إحدى المرات اتهمتني
ابنتي الكبرى بأنني أتبع نهج رجال العصابات.
وقالت إنني أتدخل في صميم حياتهم، ومن خندقي أحاول أن ألتقط كلّ فكرة أو
رغبة خاطئة قد يعربون عنها.
أتذكّر الأغنية (Que Sera, Sera? ليكن ما يكون) حسناً، لا أظن أنها كانت من أغانيّ المفضلة. إذ إن عبارة "ليكن ما يكون" لم تكن
تلائمني مطلقاً، فأنا لا أستطيع أن أسير مع التيار. أعرف أنك رجل متديّن، أما أنا فلست
متديّنة. ومع أننا نحتفل بيوم السبت في
الأسرة بين الحين والآخر، فأنا شخصياً لا أتذكّر آخر مرة صليت فيها. (آه، لقد تذكرت الآن. في مطبخي قبل يومين فقط، لكن هذه لا تعتبر
صلاة، لأنها كانت أشبه بالشكوى إلى ذات أعلى).
وعندما كنت في
الجامعة، مرت فترة أدمنت فيها على الروحانيات الشرقية، وقرأت أشياء عن البوذية
والطاوية. حتى إنني وضعت خططاً مع صديقة
غريبة الأطوار لقضاء شهر في أشرام في الهند، لكن تلك المرحلة من حياتي لم تدم
طويلاً. وبقدر ما كانت تعاليم صوفية جميلة
ومثيرة، فقد خيّل إليّ أنها تعاليم مطاوعة ومذعنة ولا تلائم الحياة المعاصرة، ولم
أغيّر رأيي منذ ذلك الحين.
أرجو ألا أسيء
إليك بنفوري من الدين. أرجو أن تعتبر ذلك
اعترافاً متأخراً من شخص يهتمّ بك.
بحرارة،
إيلا
***
العزيزة إيلا،
المقاتلة في حرب العصابات،
وصلتني رسالتك
وأنا أتهيأ لمغادرة آمستردام إلى ملاوي.
فقد كلفت بالتقاط صور لأناس في قرية ينتشر فيها الإيدز ويوجد فيها عدد كبير
من اليتامى.
الآن، إذا سار
كلّ شيء على ما يرام، فإني سأعود بعد أربعة أيام.
هل يمكنني أن آمل ذلك؟ نعم. هل يمكنني أن أتحكم بذلك؟ لا!
فكلّ ما يمكنني عمله هو أن آخذ معي حاسوبي النقال، وأحاول إيجاد وصلة جيدة
بالإنترنت، وآمل أن أعيش يوماً آخر، أما ما تبقى فليس في يدي. وهذا ما يطلق عليه الصوفيون العنصر الخامس –
الفراغ. العنصر الإلهي الذي لا يمكن
تفسيره،، والذي لا نستطيع نحن البشر أن نفهمه، والذي لا يمكن التحكم به،ومع ذلك
يجب أن ندركه طوال الوقت. فأن لا أؤمن
"بالتقاعس" إن كنت تقصدين ذلك لأنك لا تفعلين شيئاً على الإطلاق، ولا
تبدين اهتماماً عميقاً بالحياة. لكني أؤمن
باحترام العنصر الخامس.
أظن أنّ كلّ واحد
منا يقيم عهداً مع الله. أعرف أنني فعلت
ذلك. فعندما أصبحت صوفياً، وعدت الله أن
أفعل ما يجب أن أفعله بحسب مقدرتي، وأن أترك الباقي له، وله وحده فقط، وقد قبلت
الحقيقة بأنّ هناك أشياء تتجاوز حدودي ومقدرتي.
فلا يمكنني أ أرى إلا بعض الأجزاء، مثل قطع عائمة في فيلم سينمائي، أما
المخطط الأكبر فهو يتجاوز إدراكي.
الآن، تظنين أنني
رجل متدين. لا، لست كذلك.
بل أنا رجل
روحاني، وهو شيء مختلف. فالتدين
والروحانية ليسا الشيء نفسه، وأظن أن الفجوة بين هذين الشيئين لم تكن أعمق مما هي
عليه اليوم. فعندما أنظر إلى العالم، أرى
ورطة تزداد عمقاً. فمن ناحية، نحن نؤمن
بحرية الفرد وقوته بغض النظر عن الله، أو الحكومة، أو المجتمع. ومن نواحٍ عدة، بدأ البشر يزدادون أنانية،
وبدأ العالم يصبح
أكثر مادية. ومن الناحية الأخرى، بدأت
الإنسانية ككل تصبح أكثر روحانية. فبعد
الاعتماد على العقل منذ فترة طويلة، يبدو أننا وصلنا إلى نقطة يجب أن نقرّ فيها
بحدود العقل.
واليوم، كما أن
الحال في العصور الوسطى، هناك انفجار في الاهتمام بالروحانيات. وبدأ عدد أكبر من الناس في الغرب يحاولون
التقرب الروحانيات في غمرة حياتهم المنهمكة بالعمل. لكن بالرغم من نياتهم الطيبة، فإن أساليبهم غير
كافية في معظم الأحيان. فالروحانيات ليست
توابل أخرى لذات الطبق القديم. إنها ليست
شيئاً يمكننا إضافته إلى حياتنا من دون أن ندخل تغييرات رئيسية عليها.
أعرف أنك تحبّين
الطهو. هل تعلمين أن شمس التبريزي قال إن
العالم قِدر ضخم يطهى فيه شيء ضخم؟ لكننا
لا نعرف ما هو حتى الآن. فكلّ ما نفعله،
أو نلمسه، أو نفكر فيه، هو أحد مكونات ذلك الخليط. يجب أن نسأل أنفسنا ماذا نضيف إلى القِدر. فهل نضيف استياء، أو عداوات، أو غضباً، أو
عنفاً؟ أم نضيف حبّاً وانسجاماً؟
ماذا عنكِ أنت،
عزيزتي إيلا؟ ما هي المكونات التي تظنين أنك تضيفينها إلى حساء البشرية
المشترك؟ عندما أفكّر فيك، فإن المكوّن
الذي أضيفه هو ابتسامة عريضة.
مع كلّ الحبّ،
عزيز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق