الكفر الحلو
رواية
أ.
ز. زاهارا
يقول الصوفيون إن سرّ القرآن
يكمن في
سورة الفاتحة،
وسر الفاتحة يكمن في عبارة
بسم الله الرحمن الرحيم
ويكمن جوهر بسم الله الرحمن
الرحيم في حرف الباء
حيث توجد نقطة تحت هذا الحرف
....
وتجسّد النقطة تحت حرف الباء
الكون
برمته ....
ب
كما يبدأ المثنوي بحرف الباء
مقدمة
كان القرن الثالث
عشر، المفعم بالصراعات الدينية، والنزاعات السياسية، والصراعات اللانهائية على
السلطة، فترى مضطربة في منطقة الأناضول.
ففي الغرب، احتل الصليبيون القسطنطينية وعاثوا فيها فساداً وهم في طريقهم
لاحتلال القدس، فقسمت الامبراطورية البيزنطية.
وفي الشرق، انتشرت جيوش المغول بسرعة كبيرة بقيادة القائد العسكري العبقري
جنكيزخان. وفي الوسط، كانت القبائل
التركية المختلفة تتحارب في ما بينها، بينما كان البيزنطيون يحاولون استرجاع أرضهم
وثروتهم وقوتهم التي فقدوها. كانت فترة من
الفوضى لم يسبق لها مثيل، حيث كان المسيحيون يقاتلون المسيحين، والمسيحيون يقاتلون
المسلمين، والمسلمون يقاتلون المسلمين. فحيثما ولّى المرء وجهه، كان هناك اقتتال
وألم وخوف شديد لما يمكن أن يحدث بعد ذلك.
وفي خضم هذه الفوضى، عاش عالم إسلامي جليل، يعرف باسم جلال الدين الرومي،
ويُلقّب "بمولانا"، يحيط به آلاف المريدين والمعجبين من المنطقة كلها
وما وراءها، وكان يُعتبر منارة للمسلمين جميعاً.
وفي العام 1244
ميلادي، التقى الرومي بشمس – الدرويش الجوّال
ذي التصرفات
الغريبة والآراء الهرطقية. وقد غيّر
لقاؤهما هذا حياة كلّ منهما. وكان هذا
اللقاء بداية لصداقة فريدة متينة شبّهها الصوفيون في القرون التالية باتحاد محيطين
اثنين. وبعد لقاء الرومي بهذا الرفيق
الاستثنائي، تحوّل من رجل دين عادي إلى شاعر يجيش بالعاطفة، وصوفي ملتزم، وداعية
إلى الحبّ، فابتدع رقصة الدراويش، وتحرر من جميع القيود والقواعد التقليدية. وفي عصر سادته روح التعصب والنزاعات الدينية،
دعا إلى روحانية عالمية شاملة، مشرعاً أبوابه أمام جميع البشر من مختلف المشارب
والخلفيات. وبدلاً من أن يدعو إلى الجهاد
الخارجي، الذي يعرّف "بالحرب على الكفّار"، الذي دعا إليه الكثيرون في
ذلك الزمان، تماماً كما يجري في يومنا هذا – دعا الرومي إلى الجهاد الداخلي،
وتمثّل هدفه في جهاد "الأنا"، وجهاد "النفس" وقهرها في نهاية
الأمر.
لكن أفكاره لم
تلق ترحيباً من جميع الناس، ولم يفتحوا جميعهم قلوبهم للمحبّة. وأصبحت الرابطة الروحية القوية بين شمس
التبريزي والرومي نهباً للشائعات والافتراءات والتهجمات. وأسيء فهمهما، وأصبحا موضع حسد، وذمّ، وحطّ
الناس من قدرهما، وخانهما أقرب المقربين إليهما.
وبعد مضي ثلاث سنوات على لقائهما، انفصلا على نحو مأساوي.
لكن القصّة لم
تنته هناك.
في واقع الحال،
لم تكن هناك نهاية. فبعد مضي زهاء
ثمانمائة سنة، لا تزال روح شمس وروح الرومي تنبضان بالحياة حتى يومنا هذا، تدوران
في وسطنا في مكان ما ...
القاتل
الإسكندرية، تشرين الثاني (نوفمبر) 1252
تحت مياه داكنة
في إحدى الآبار، يرقد ميتاً الآن. وعلى
الرغم من ذلك، فقد كانت عيناه تتبعانني حيثما ولّيت، براقتان، مهيبتان، مثل نجمتين
داكنتين، معلقتين على نحو ينذر بالشؤم في أعالي السماء. فقد أتيت إلى الإسكندرية بأمل أن أستطيع، إن أنا سافرت إلى مكان بعيد، أن أهرب من هذه
الذاكرة الثاقبة وأن أوقف ذلك العويل الذي يتردّد صداه في رأسي، تلك الصيحة
الأخيرة التي انطلقت منه قبل أن يصفى دمه، وتجحظ عيناه، وتغلق حنجرته في لهاث غير
منته، وداع رجل مطعون بالسكين. عواء ذئب وقع
في مصيدة.
عندما تقتل
أحداً، فأن شيئاً منه ينتقل إليك – تنهيدة، أو رائحة، أو إيماءة. وأنا أدعوها "لعنة الضحيّة". تلتصق بجسمك وتتغلغل في جلدك، وتسري مباشرة إلى
قلبك، وتظل تنغل في داخلك. ولا يملك أحد
ممن يراني في الشارع وسيلة معرفة ذلك، لكني أحمل معي آثار جميع الرجال الذين
قتلهم. أعلّقهم حول رقبتي مثل قلائد خفية،
أحسّ بوجودهم فوق لحمي، بإحكام وبثقل. ومع أنني لا أشعر بالراحة، فقد اعتدت العيش مع هذا العبء، وقبلته
كجزء من عملي. ومنذ أن قتل قابيل هابيل،
ففي كلّ قاتل، يتنفّس الرجل الذي قتله، هذا ما أعرفه، وهو أمر لا يزعجني. لم يعد يزعجني. لكن، لماذا اعترتني تلك الرجفة
القوية بعد تلك الحادثة السريعة؟
كلّ شيء مختلفاً هذه المرة، منذ البداية. فهاكم الطريقة التي وجدت العمل فيها مثلاً، أم
هل عليّ أن أقول الطريقة التي وجدني فيها العمل؟ ففي بداية ربيع سنة 1248، كنت
أعمل لدى صاحبة مبغى في قونية، خنثى معروفة بشدّة غضبها، وكنت أساعدها في مراقبة
العاهرات، وبث الرعب في نفوس الزبائن الذين لا يحسنون التصرف.
أذكر ذلك اليوم
بجلاء. فقد كنت أطارد عاهرة هربت من
المبغى بحثاً عن الله. كانت شابّة جميلة،
كادت تحطم قلبي، لأنني إذا ما لحقت بها، كنت أنوي أن أشوّه وجهها بحيث لا يعود رجل
يرغب بالنظر إليه. كنت على وشط الإمساك
بهذه المرأة الغبية عندما وجدت رسالة غامضة ملقاة عند عتبة باب بيتي. ولمّا كنت أمياً لا أجيد القراءة، فقد أخذتها إلى
المدرسة، وأعطيتها لأحد الطلاب ليقرأها لي ودفعت له مبلغاً لقاء ذلك.
ثم تبين لي أنها
رسالة من مجهول وقّع عليها "عدد من المؤمنين المخلصين".
تقول الرسالة:
"لقد عرفنا مصدر موثوق من أنت ومن أين أتيت وأين تعمل. عضو سابق في فرقة الحشاشين! ونعرف كذلك أن
الفرقة لم تعد قوية كما كانت بعد أن مات حسن الصباح وسجن زعماؤك.
ونعرف أنك جئت إلى قونية هرباً من القصاص، وأنك تعيش
متنكّراً منذ ذلك الحين".
وذكرت الرسالة
أنهم في حاجة ماسة إلى خدماتي، وأنهم سيدفعون لي مبلغاً جيداً من المال. وقالوا إن عليّ، إن كنت مهتمّاً بالأمر، أن
أتوجه إلى حانة مشهورة في ذلك المساء بعد حلول الظلام. وعندما أصل إلى تلك الحانة، أجلس إلى أقرب
طاولة إلى النافذة، مولياً ظهري للباب، مطرق الرأس، وأن أثبّت عينيّ في
الأرض. ثمّ سيأتي إليّ الشخص أو الأشخاص
الذين سيستخدمونني، ويقدمون لي كلّ المعلومات التي أحتاج إلى معرفتها. ويجب عليّ ألاّ أرفع رأسي وأنظر إلى وجوههم
عندما يصلون أو عندما يغادرون، أو خلال حديثنا.
كانت رسالة
غريبة. لكنني كنت معتاداً على التعامل مع
نزوات الزبائن. فعلى مرّ السنين، استخدمني
أشخاص من جميع الأنواع، وكان معظمهم يرغب في الاحتفاظ بسرية أسمائهم. وعلّمتني التجربة، أنه في أحيان كثيرة، كلما
بذل الزبون جهداً لإخفاء هويته، كان أقرب إلى ضحيّته، لكن لا شأن لي بذلك. إذ تنحصر مهمّتي. ومنذ أن غادرت "ألموت" منذ عدة
سنوات، كانت تلك هي الحياة التي اخترتها لنفسي.
وفي جميع
الأحوال، نادراً ما كنت أطرح أسئلة.
فلماذا أسأل؟ فمعظم الذين أعرفهم
لدى كل واحد منهم على الأقل شخص يريد التخلّص منه. وعندما لا يفعلون شيئاً إزاء ذلك، فهذا لا يعني
أنهم محصّنون من الرغبة في قتلهم. في الواقع، توجد في داخل كلّ شخص رغبة دفينة في
قتل أحدهم ذات يوم. والناس لا يدركون ذلك، إلا بعد أن تحدث لهم. فهم يظنون أنهم عاجزون عن القتل. لكن المسألة مسألة ضمير فحسب. ففي بعض الأحيان، تكفي مجرد إيماءة لتأجيج صورة
غضبهم. سوء فهم متعمّد، شجار على شيء تافه، أو أن يتواجد المرء في المكان الخطأ
وفي الوقت الخطأ، إذ يمكن أن تظهر نزعة تدميرية لدى الأشخاص الذين يكونون أشخاصاً
طيبين ومحترمين في الأحوال العادية. إذ
يمكن لأي شخص أن يقتل شخصاً غريباً عامداً متعمداً، وهنا أدخل إلى الصورة.
كنت أنفذ الأعمال
القذرة لصالح الآخرين. حتى الله أدرك
الحاجة إلى شخص مثلي في خطته المقدّسة عندما عيّن عزرائيل، ملاك ويلعنونه ويمقتونه، بينما تظل يدا الله
نظيفتين، ويظل اسمه نقياً. وفي ذلك جور
على هذا الملاك. لكن للمرة الثانية أقول
إن العالم كله يسوده الظلم، أليس كذلك؟
عندما هبط الليل،
توجهت إلى الحانة. وشاءت الصدف أن يجلس
رجل في وجهه ندبة، إلى الطاولة بالقرب من النافذة، ويغطّ في النوم. خطر لي أن أوقظه وأطلب منه الانتقال إلى طاولة
أخرى. لكنك لا تعرف ماذا يمكن أن تكون
عليه ردة فعل السكارى، لذلك كان عليّ أن أتوخى الحذر، وألاّ الفت الانتباه
إليّ. لذلك، جلست إلى الطاولة الفارغة
التالية، قبالة النافذة.
وبعد قليل وصل
رجلان، وجلسا إلى جانبيّ لكي لا أرى وجهيهما.
لم أكن بحاجة لأن أنظر إليهما، لأدرك أنهما شابان، وأنهما غير مستعدين
لاتخاذ الخطوة التي كانا على وشك اتخاذها.
"لقد جاءتنا
توصية عالية لك"، قال أحدهم، لم تكن نبرته حذرة بقدر ما كانت متردّدة،
"قيل لنا إنك الأفضل".
بدت طريقة قوله
مضحكة، لكنني كتمت ابتسامتي. لاحظت أنهما
كانا خائفين، وهو أمر جيد. فعندما يكونان
خائفين، لن يجرآ على ارتكاب أي خطأ معي.
لذلك قلت:
"نعم، أنا الأفضل، لذلك يطلقون عليّ اسم "رأس الواوي". لم أخذل زبائني قط، مهما بلغت صعوبة تلك
المهمّة".
"جيد، قال
متنهّداً، "لأن هذه المهمة قد لا تكون سهلة".
وهنا تحدّث الشاب
الآخر وقال: "انظر، لقد كسب هذا الرجل لنفسه أعداء كثيرين. فمنذ أن جاء إلى هذه البلدة، لم يجلب شيئاً سوى
المشاكل. حذّرناه عدة مرات، لكنه لم يستمع
إلى قولنا له، وأصبح مشاكساً ومثيراً للمشاكل.
لم يدع أمامنا أي خيار آخر".
كانت الأمور تسير
على هذا المنوال باستمرار. ففي كلّ مرة،
يحاول الزبائن تفسير ما سيقدمون عليه، قبل أن نتوصل إلى اتفاق، وكأن موافقتي قد
تقلّل من خطورة ما سيقدمون على عمله.
فسألتهما:
"فهمت قصدكما. قولا لي، من هو هذا
الشخص؟". ترددا في ذكر الاسم، وقدما
أوصافاً غامضة.
"إنه رجل
زنديق لا يمت بصلة إلى الإسلام. إنه عنيد، جامح، يكتنفه الرجس والكفر. إنه
درويش مارق".
ما إن سمعت
الكلمة الأخيرة، حتى سرى في ذراعيَّ إحساس مخيف.
وأخذ عقلي يفكّر بسرعة. لقد قتلت
جميع أنواع البشر، صغاراً وكباراً، وجالاً ونساء، لكنني لم أقتل قط درويشاً، رجلاً
مؤمناً. فأنا أؤمن بالخرافات ولم أكن أرغب
في أن أجلب عليّ غضب الله، لأنني على الرغم من كلّ شيء، أؤمن به.
"أظن أني
سأرفض طلبكما. لا أظن أني أريد أن أقتل
رجل دين. ابحثا عن شخص آخر".
وبنهاية قولي
هذا، استويت واقفاً متهيئاً للمغادرة. لكن
أحد الرجلين أمسكني من يدي، وقال متوسلاً: "انتظر أرجوك: سيتناسب المبلغ مع
الجهد الذي ستبذله. ومهما بلغ الأجر الذي
تتقاضاه، فإننا على استعداد لمضاعفة المبلغ".
"ماذا عن
ثلاثة أضعاف؟"، سألتهما، مقتنعاً بأنهما لن يزيدا المبلغ كثيراً.
لكن لدهشتي، وبعد
تردد، وقف كلاهما. عدت وجلست في مقعدي،
متوتراً. فبهذا المبلغ يمكنني أن أسدد مهر
عروس وأن أتزوّج أخيراً، ولن يساورني قلق بشأن تدبير أمور معيشتي. درويشاً أم غير درويش، فأي شخص جدير بأن يقتل
لقاء هذا المبلغ.
كيف كان لي أن
أعرف أنني ارتكبت في تلك اللحظة أكبر خطأ في حياتي، وأنني سأمضي بقية حياتي نادماً
على ما اقترفته يداي؟ كيف يمكنني معرفة أن قتل الدرويش سيكون أمراً في غاية
الصعوبة، وأنه حتى بعد مرور فترة طويلة على وفاته، ستتعقبني نظرته الحادة كالسكين
في كل مكان؟
مضت الآن أربع
سنوات منذ أن طعنته في ذلك الفناء، وألقيت
بجسده في بئر، ورحت أنتظر سماع صوت سقوطه في الماء، وهو ما لم أسمعه أبداً. يم يصدر أي صوت. فبدل أن يسقط في الماء، يبدو أنه صعد إلى
السماء. وما زلت لا يغمض لي جفن من دون أن
تنتابني كوابيس، وعندما أنظر إلى الماء، أيّ مصدر ماء، لبضع ثوان، يتملك جسدي كله
رعب بارد، فأتقيأ.
Good discussion shared here.
ردحذف