الثلاثاء، 16 مايو 2017

إليف شافاق - قواعد العشق الأربعون

إليف شافاق


قواعد
العشق الأربعون









ولدت إليف شافاق في ستراسبورغ، فرنسا، العام 1971.  وقد حازت جوائز أدبية عدة، وتعد من أكثر الروائيات في تركيا قراءة.  وقد أطلق عليها أحد النقاد أنها "واحدة من أكثر الأصوات تميّزاً في الأدب التركي والعالمي المعاصر".  ترجمت أعمالها إلى أكثر من ثلاثين لغة، ومنحت وسام فارس التميّز الفخري للفنون والآداب.
أصدرت إليف شفق 11 كتاباً، منها ثماني روايات.  وكتبت الرواية باللغتين التركية والإنكليزية، وهي تمزج التقاليد الغربية والشرقيى، وتحكي عن النساء والأقليات والمهاجرات، والثقافات الفرعية، والشباب والأرواح العالمية.  وتستمد رواياتها من مختلف الثقافات والتقاليد الأدبية، كما أنها تظهر رغبى عميقة في التاريخ والفلسفة والتصوف، والثقافة الشفوية، والسياسات الثقافية.  وتمتاز شفق أيضلً بعينها الثاقبة في الكوميديا السوداء.  وكانت روايتها الثانية التي كتبتها باللغة الإنكليزية "لقيطة إسطنبول"، أكثر الروايات مبيعاً في العام 2006، ورشحت لنيل جائزة أورانج.  ونتيجة لهذه الرواية التي تروي قصة أسرة أرمنية وأسرة تركية من خلال عيون النساء في هاتين الأسرتين، حكم على شفق بالسجن، لكن الحكم أسقط عنها.  وتتناول رواية "قواعد العشق الأربعون" مواضيع العشق، والحب بين الشرق والغرب، والماضي والحاضر، والروحي والدنيوي، كل ذلك من خلال رواية قصة جلال الدين الرومي وشمس التبريزي.  وقد بيع من هذه الرواية أكثر من 000 600 نسخة.

"خالد الجبيلي" حائز إجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها من جامعة حلب، بسورية، ومن معهد اللغويين في لندن.  يعمل حالياً مترجماً ومراجعاً في الأمم المتحدة في نيويورك.  لديع عشران الترجمات في التاريخ والرواية.





أليف شافاق


قواعد
العشق الأربعون


(رواية عن جلال الدين الرومي)















عندما كنت طفلاً، رأيت الله،
رأيت ملائكة،
رأيت أسرار العالمَين العلوي والسفلي.  ظننت أن جميع الرجال رأوا ما رأيته.  لكنّي سرعان ما أدركت أنهم لم يروا ...


شمس التبريزي

استهلال

استهلال



تمسك قطعة من الحجر بين أصابعك، ترفعها ثم تلقيها في مياه دافقة.  قد لا يكون من السهل رؤية ذلك.  إذ ستتشكل مويجة على سطح الماء الذي سقط فيه الحجر، ويتناثر رذاذ الماء، لكن ماء النهر المتدفق يكبحها.  هذا كلّ ما في الأمر.
ارمِ حجراً في بحيرة، ولن يكون تأثيره مرئياً فقط، بل سيدوم فترة أطول بكثير.  إذ سيعكّر الحجر صفو المياه الراكدة، وسيشكّل دائرة في البقعة التي سقط فيها، وبلمح البصر، ستتسع تلك الدائرة، وتتشكّل دائرة إثر دائرة.  وسرعان ما تتوسع المويجات التي أحدثها صوت سقوط الحجر حتى تظهر على سطح الماء الذي يشبه المرآة، ولن تتوقف هذه الدائرة وتتلاشى، إلا عندما تبلغ الدوائر الشاطئ.
إذا ألقيت حجراً في النهر، فإن النهر سيعتبره مجرد حركة أخرى من الفوضى في مجراه الصاخب المضطرب.  لا شيء غير عادي.  لا شيء لا يمكن السيطرة عليه.
أما إذا سقط الحجر في بحيرة، فلن تعود البحيرة ذاتها مرة أخرى.
طوال أربعين عاماً، كانت حياة إيلا روبنشتاين مثل مياه راكدة – سلسلة من العادات والاحتياجات والتفضيلات المتوقّعة.  ومع أنها كانت حياة رتيبة وعادية من نواح عدة، فإن إيلا لم تكن تجدها متعبة مملة.  وخلال العشرين السنة الأخيرة، كانت كلّ رغبة تعتريها، وكلّ شخص تصادقه، وكلّ قرار تتخذه، يحدّق من خلال منظار زواجها.  وكان زوجها، ديفيد، طبيب أسنان ناجحاً، يعمل ساعات طويلة، فجمع الكثير من المال.  كانت تعرف أن علاقتهما لم تكن عميقة، لكنها كانت تقول لنفسها ليس من الضروري أن يحتل الارتباط العاطفي أولوية في قائمة حياة المتزوجين، ولا سيما بالنسبة لزوجين مضت فترة طويلة على زواجهما.  ففي الزواج أشياء أهم بكثير من العاطفة والعشق، كالتفاهم والمودّة والرحمة، وأن أكثر الأشياء الإلهية التي قد يقدم عليها أي زوج، هو الصفح.  أما الحبّ فهو ثانوي مقارنة بكلّ هذه الأشياء.  إلا إذا كان المرء يعيش في ثنايا الروايات أو الأفلام الرومانسية، حيث يصوِّر الأبطال دائماً أشخاصاً أضخم من الحياة، ولا يعدو حبّهم أن يكون سوى أسطورة.
وكان أطفال إيالا يتصدرون قائمة أولوياتها.  فلديهما فتاة جميلة في الجامعة، جانيت، ومراهقان توأمان، أورلي وآفي، ولديهما أيضاً سبيريت، الكلب الذهبي اللون البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة، الذي يرافق إيلا في جولاتها الصباحية، والذي كان أشدّ رفاقها سعادة عندما كان جرواً، لكنه كبر الآن، وازداد وزنه، ولم يعد يسمع، وكاد أن يصبح أعمى.  لا بد أن حياة سبيريت قد شارفت على نهايتها، لكن إيلا تريد أن تعتقد بأنه سيعيش إلى الأبد.  فلم تصادف في حياتها موت أيّ شيء، سواء أكان عادة، أم مرحلة، أم زواجاً، حتى لو برزت أمامها النهاية، جلية وحتمية.

تعيش أسرة روبنشتاين في نورثامبتون، بولاية ماساشوستس، في منزل كبير مشيّد على الطراز الفيكتوري.  ومع أن البيت بحاجة إلى بعض الترميم، فهو لا يزال بيتاً رائعاً، وهو يتألف من خمس غرف نوم وثلاثة حمّامات، تكسوه أرضية خشبية صلبة لامعة، وفيه مرأب  يتسع لثلاث سيارات، وله أبواب زجاجية واسعة، كما يوجد جاكوزي في الحديقة.  ولدى الأسرة تأمين على الحياة، وتأمين على السيارات، وبرامج للتقاعد، وخطط توفير في الجامعة، ولديها حساب مصرفي مشترك.  بالإضافة إلى المنزل الذي يقيمون فيه، لدى الأسرة شقّتان فاخرتان أخريان: شقّة في بوسطن، وأخرى في رود آيلاند.  لقد بذلت هي وديفيد جهداً كبيراً للحصول على كل ذلك.  بيت واسع يضجُّ بالأطفال، أثاث رائع، ومع أن رائحة الفطائر المخبوزة التي تملأ البيت قد تبدو للبعض شيئاً مكرراً، فهي تشكل لهما صورة لحياة مثالية.  لقد أقاما زواجهما على هذه الرؤية المشتركة فحققا الكثير من أحلامهما، إن يم يكن كلّها.
في عيد فالانتاين الأخير، أهداها زوجها قلادة ماسية على شكل قلب، مرفقة ببطاقة كُتب فيها:
إلى عزيزتي إيلا،
المرأة الهادئة الطباع، ذات القلب الطيب، التي تتحلى بصبر قديسة، أشكرك لأنك تقبلينني كما أنا.  أشكرك لأنك زوجتي.
        حبيبك ديفيد


لم تعترف إيلا لديفيد بذلك من قبل، لكنها عندما قرأت بطاقته، أحست بأنها تقرأ نعياً.  قالت لنفسها: هذا ما سيكتبونه عني عندما أموت، وإن كانوا مخلصين، يمكنهم إضافة هذه العبارة أيضاً:
مع أن إيلا كانت قد ركزت جلّ حياتها على زوجها وأطفالها، فهي تفتقر إلى أساليب الحياة التي قد تساعدها على التغلّب على مشاق الحياة وحدها.  فهي ليست من النوع الذي يحب المجازفة، إذ أن تغيير نوع القهوة التي تحتسيها كلّ يوم، يعتبر جهداً كبيراً بالنسبة لها.
ولهذه الأسباب جميعها، لم يستطع أحد، بمن فيهم إيلا نفسها، تفسير حقيقة ما يجري عندما تقدمت بطلب للطلاق في خريف العام 2008، بعد مضي عشرين سنة على زواجها.
***
لكن، كان هناك سبب، إنه الحبّ.
لم يكونان يعيشان في المدينة نفسها، ولا حتى في القارة ذاتها.  ولم تكن تفصلهما أميال كثيرة فقط، بل كانا كذلك مختلفين اختلاف الليل والنهار.  وكان أسلوبا حياتهما مختلفين إلى درجة استحالة أن يتحمّل أحدهما وجود الآخر، فما بالك بأن يحبّ أحدهما الآخر.   لكنّ ذلك حدث فعلاً.  وقد حدث ذلك بسرعة، بسرعة كبيرة لم يتح لإيلا فيه وقت لتدرك حقيقة ما يجري، ولكي تحذر من الحبّ.
دهم الحبّ إيلا بغتة وبعنف كما لو أن أحداً ألقى حجراً من مكان ما في بركة حياتها الساكنة.



إيلا

نورثامبتون، 17 أيار (مايو) 2008
كانت الطيور تغرد خارج نافذة المطبخ في ذلك اليوم الربيعي المعتدل.  وبعد أن استرجعت إيلا المشهد في ذاكرتها، ليس ذلك الجزء من الماضي فقد، خيّل إليها أن لحظة مستمرة لا تزال تجري في مكان آخر في الكون.
كان جميع أفراد الأسرة متحلقين حول المائدة، يتناولون طعام الغداء في عصر يوم السبت.  كان زوجها يملأ صحنه بأفخاذ الدجاج المقلي، طبقه المفضّل، وكان آفي يعبث بسكينه وشوكته كأنهما عَصَوان يقرع فهما طبلاً، بينما كانت أخته التوأم أورلي تحاول أن تعدّ كم لقمة يمكن أن تتناول لتحصل على 650 سعرة حرارية يومياً كي لا تفسد نظام حميتها، وبدت جانيت، التي كانت لا تزال في سنتها الأولى في جامعة ماونت هوليود القريبة، سارحة في أفكارها وهي تدهن كريمة الجبنة البيضاء الطرية على شريحة خبز أخرى. كما كانت تشاركهم الطعام العمّة إستر التي جاءت لتحضّر لهم قالب الكاتو الذي تشتهر بصنعه، ومكثت لتشاركهم طعام الغداء.  ومع أنه كانت لدى إيلا أعمال منزلية كثيرة، فقد فضّلت مشاركتهم، لأنهم غالباً لم يعودوا مؤخراً يتناولون طعامهم معاً، واعتبرت أن هذه فرصة ذهبية ليتجمعوا معاً من جديد إلى المائدة.
"إستر، هل أخبرتك إيلا بالأخبار الجيدة؟". سأل ديفيد فجأة، "لقد وجدت عملاً مهماً".
مع أن إيلا كانت قد تخرّجت في الجامعة وحازت على الإجازة في الأدب الإنكليزي، ومع أنها تحبّ قراءة الروايات، فإنها لم تعمل في مجال اختصاصها بعد تخرجها، سوى عملها على تحرير بعض المقالات القصيرة لبعض المجلات النسائية، ومشاركتها في عدد من نوادي الكتب، وكتابتها بين الحين والآخر مقالات لعدة صحف محلية.  كان ذلك كلّ ما في الأمر.  وكانت تطمح أحياناً إلى أن تصبح ناقدة كتب مشهورة، لكنها تقبّلت، بعد ذلك، الواقع بأن الحياة قد  أخذتها إلى مكان أخر، وجعلتها ربّة منزل مجّدة، تعتني بأطفالها الثلاثة، وتضطلع بمسؤوليات منزلية لا نهاية لها.
لم تكن تتذمّر.  فهي الأمّ والزوجة، المنهمكة غالباً في أعمالها المنزلية، وكانت ترافق الكلب في النزهة الصباحية، ولم تكن مسئولة عن إعالة الأسرة.  ومع أن صديقاتها الأخريات في جامعة سميث من أنصار المساواة بين الرجل والمرأة، لم يوافقنها على اختيارها هذا، فقد رضيت بأن تكون أمّاً لا تبرح البيت، وشعرت بالامتنان لأنها تمكنت هي وزوجها من تحمّل ذلك.  لكنها لم تتخل عن شغفها بالقراءة، ولم تزل تعتبر نفسها قارئة نهمة.
لكن الأمور بدأت تتغير منذ سنوات قليلة.  فقد كبر الأطفال، وبدأوا يظهرون لها أنهم لم يعودوا بحاجة إليها كما كانوا من قبل.  وعندما أدركت إيلا أنه أصبح لديها متسع من وقت الفراغ، ولم يعد يوجد من تنشغل به أو تمضي معه وقتها، بدأت تفكّر بالبحث عن عمل، وقد شجّعها ديفيد على ذلك.  وبالرغم من أنهما ظلاّ يتحدّثان عن هذا الأمر، فإنها نادراً ما سعت إلى اغتنام الفرص التي وجدتها، فعندما كانت تجد عملاً، كان ربّ العمل يقول لها إنهم يبحثون عن شخص أصغر سناً، أو شخص ذي خبرة أوسع.  وخشية من أن تُرفض باستمرار، تجاهلت الأمر.
وفي أيار (مايو) 2008، زالت جميع العوائق التي كانت تحول دون عثورها على عمل طوال هذه السنوات.  فقبل قرابة أسبوعين من عيد ميلادها الأربعين، وجدت نفسها تعمل لصالح وكالة أدبية يقع مقرّها في بوسطن.  فقد عثر لها زوجها على هذه الوظيفة بواسطة أحد زبائنه – أو ربما عن طريق إحدى عشيقاته -.
فقالت إيلا: "إنه ليس عملاً مهماً، فأنا لست سوى قارئة غير متفرغة لأعمال أدبية لصالح وكالة أدبية".
لكن ديفيد بدا عازماً على ألاّ يدعها تقلل من أهمية عملها الجديد، فقال يحثّها: "هيا، قولي لهم إنها وكالة أدبية معروفة"، وعندما لم تفعل، قال موافقاً: "إنها وكالة أدبية مرموقة يا إستر.  يجب أن تري المساعدين الآخرين! الفتيات والفتيان المتخرجون حديثاً من أفضل الجامعات.  وإيلا هي المرأة الوحيدة التي عادت إلى العمل بعد أن كانت ربّة منزل لسنوات طويلة.  أليس هذا شيئاً مهما!؟".
تساءلت إيلا هل يشعر زوجها في أعماقه بالذنب لأنه أبعدها عن العمل طوال تلك السنوات، أم أنه كان يخونها.  لم تتمالك نفسها عن التفكير بهذين الاحتمالين، بسبب حماسته الشديدة في أن تعمل الآن.
كان ديفيد لا يزال مبتسماً، عندما اختتم حديثه: "وهذا ما أسميه الثقة المطلقة بالنفس.  إننا نفتخر بها جميعاً".
"إنها مكافأة.  إنها تستحقها حقاً"، قالت العمّة إستر بصوت عاطفي رقيق وكأن إيلا ستترك المائدة إلى الأبد.
راحوا يحدّقون جميعاً بها بحبّ ومودّة.  ولم يبد آفي ملاحظة متهكمة كعادته، وبدا أن أولي بدأن تهتم لأول مرة بشيء غير مظهرها.  وأرغمت إيلا نفسها على تقدير هذه اللحظة من المودة والرقة، لكنها أحست بإعياء شديد لم يعترها من قبل.  وتمنّت لو أن أحدهم يغيّر الموضوع.
لا بد أن جانيت، ابنتها الكبرى، قد سمعت أمنيتها، لأنها قالت فجأة: "وأنا أيضاً لديّ خبر جيّد".
التفتت الرؤوس جميعها نحوها، وجوه تشع بابتسامة متوقعة.
"لقد قررنا أنا وسكوت أن نتزوج"، أعلنت جانيت، "أعرف ماذا ستقولان! إننا لم ننه دراستنا وما إلى ذلك، لكنكم يجب أن تفهموا أننا مستعدّان لاتخاذ الخطوة الكبيرة التالية".
خيّم صمت يشي بالحرج على المائدة بعد أن تلاشى الدفء الذي كان يحيط بهم منذ لحظة.  تبادلت أورلي وآفي نظرات ساهمة، وتسمّرت العمّة إستر، ويدها مشدودة حول كأس عصير التفاح.  وضع ديفيد شوكته جانباً، كأن شهيته للطعام قد تلاشت فجأة، وحدّق في جانيت بعينيه البنيتين الفاتحتين.  توقف عن الابتسام، وزمّ شفتيه، كأنه تناول جرعة من الخلّ.
"عظيم! كنت أتوقّع أن تشاركوني سعادتي، لكنّي لم أحصل منكم إلا على هذه المعاملة الباردة"، قالت جانيت، وبدأت تنتحب.
" هل قلتِ إنكما ستتزوّجان؟"، سأل ديفيد وكأنه يريد أن أن يتأكد مما قالته جانيت.
"بابا، أعرف أن هذا قد يبدو مبكراً جداً، بكن سكوت اقترح عليّ الزواج منذ عدة أيام وقد وافقت على ذلك".
"لكن لماذا؟"، سألت إيلا.
من نظرة جانيت إليها، عرفت إيلا أن ابنتها لن تكن تتوقع سماع هذا السؤال منها، بل ربما كان عليها أن تسألها: "متى؟" أو: "كيف؟".  وفي كلتا الحالتين، فإن ذلك يعني البدء في البحث عن ثوب الزفاف، أما سؤالها "لماذا؟" فقد فاجأها تماماً.
"لأني أظن أني أحبّه"، قالت جانيت بنبرة تشي بشيء من الاستسلام.
"حبيبتي، إن ما أقصده لم العجلة؟"، أصرّت إيلا، "هل أنت حامل مثلاً؟".
انتفضت العمّة إستر في كرسيها، وتجهّم وجهها، وغزته تعابير تشي بالألم.  تناولت من جيبها قرصاً لإزالة الحموضة، وراحت تمضغه.
"سأصبح خالاً"، قال آفي، ضاحكاً.
أمسكت إيلا يد جانيت وضغطت عليها برفق، وقالت: "يمكنك أن تقولي لنا الحقيقة دائماً.  أنك تعرفين ذلك.  سندعمك مهما كان الأمر".

"ماما، أرجوك كفيّ عن ذلك؟"، انتفضت جانيت، وسحبت يدها قائلة: "لا علاقة لهذا بالحمل.  إنك تحرجينني".
"أحاول أن أساعدك فقط"، ردّت إيلا بهدوء. الهدوء الذي بدأت تكتشف مؤخراً أنه أمر يصعب تحقيقه.
"إنك تريدين إهانتي. من الواضح أنك لا ترين في زواجي من سكوت إلا أن أحمل منه! هل خطر لك أنني قد أكون أحبّه، وأنني أريد أن أتزوج هذا الرجل لأنني أحبّه؟ إننا نلتقي منذ ثمانية أشهر".
فردت إيلا ساخرة: "آه، نعم، وكأنك تستطيعين أن تتعرفي على شخصية رجل خلال ثمانية أشهر! لقد مرّ على زواجي أنا ووالدك عشرون سنة، ومع ذلك، لا يمكننا أن ندّعي أن أحدنا يعرف كلّ شيء عن الآخر. إن ثمانية أشهر لا تعتبر شيئاً في أي علاقة".
"خلق الله الكون في ستة أيام"، قال آفي، مبتسماً، لكن النظرات الباردة التي رمقه بها جميع الجالسين إلى المائدة أعادته إلى صمته.  وعندما خيّم شعور متزايد بالتوتّر، تدخّل ديفيد، مثبّتاً عينيه على ابنته الكبرى، عاقداً حاجبيه، وقال: "حبيبتي، إن ما تحاول أمّك أن تقوله لك هو أن التواعد شيء، والزواج شيء آخر".
فسألته جانيت: "لكن بابا، هل تظن أننا سنتواعد إلى الأبد؟".
أخذت إيلا نفساً عميقاً، وقالت: "بصراحة، كنا نتوقّع أن تجدي شاباً أفضل منه.  إنك لا تزالين صغيرة على إقامة أيّ علاقة جدّية".
"أتعرفين يا أمّي؟" قالت جانيت بصوت منخفض، يكاد لا يسمع، "أظن أنك تسقطين علاقتك على علاقتي.  فبما أنك تزوجتِ في سن صغيرة، وحملتِ عندما كنتِ في عمري، لا يعني أنني سأرتكب الخطأ نفسه".
احمرّ وجه إيلا، وكأن أحداً صفعها على وجهها.  فقد تذكّرت في أعماقها فترة حملها الصعبة التي أفضت إلى ولادة جانيت خديجاً.  وقد استنزفت وليدتها كلّ طاقتها، مما اضطرها إلى الانتظار ست سنوات أخرى حتى تحمل ثانية.
"حبيبتي، كنا سعداء للغاية عندما بدأت تلتقين بسكوت"، قال ديفيد حذراً، محاولاً أسلوباً مختلفاً، "فهو شاب لطيف، لكن من يعرف كيف ستتغير آراؤك بعد تخرجت من الجامعة؟ فقد تختلف اختلافاً تاماً".
هزّت جانيت رأسها قليلاً، وأبدت شيئاً من الإذعان المفتعل، ثمّ سألت: "هل هذا كله لأن سكوت ليس يهودياً؟".
حملق فيها ديفيد غير مصدق ما سمعته أذناه.  فقد كان يفتخر بأنه أب منفتح ومثقّف، ولم يبد قط آراء ولا ملاحظات سلبية تتعلق بالعرق أو الدين أو الجنس في البيت.
بدت دانيت متشبثة برأيها، فالتفتت إلى أمّها، وسألتها: "هل يمكنك أن تنظري في عينيّ مباشرة، وتقولي لي إنك كنت ستعترضين لو كان سكوت شاباً يهودياً اسمه هارون؟"، وتخلل صوت جانيت شيء من المرارة والتهكّم، مما جعل إيلا تخشى وجود أشياء كثيرة تعتمل في صدرها.
"حبيبتي، سأكون صادقة تماماً معك، حتى لو لم يعجبك ما سأقوله.  أعرف كم هو رائع أن يكون المرء شاباً وعاشقاً.  صدقيني.


لكن الزواج من شخص ينتمي إلى خلفية مختلفة مقامرة كبيرة، وأنا وأبوك نريد أن نتأكد من أنك اخترت الرجل المناسب".
"وكيف تعرفين أن الاختبار المناسب لك هو الاختيار المناسب لي؟".
أصاب السؤال إيلا بالذهول بعض الشيء.  فأطلقت تنهيدة، وفركت جبينها، كأن داء الشقيقة سيدهمها.
"أنا أحبّه يا أمّي.  هل يعني هذا لك شيئاً؟ هل تتذكّرين هذه الكلمة من مكان ما؟ إنها تجعل قلبي يخفق بقوة. لا يمكنني أن أعيش من دونه".
سمعت إيلا نفسها تضحك ضحكة مكتومة.  لم يكن في نيتها أن تسخر من مشاعر ابنتها، أبداً، لكن ربما بدت ضحكتها المكتومة، ولأسباب تجهلها تماماً، متوترة للغاية.  فقد تشاجرت كثيراً هي وجانيت، مئات المرات، لكنها أحسّت كأنها تتشاجر مع شيء آخر، شيء أكبر.
"ماما، ألم تحبّي أحداً في حياتك؟"، ردّت جانيت، وفي نبرتها شيء ينم عن قلة احترام.
"توقفي قليلاً! ألن تكفّي عن الاستغراق في أحلام اليقظة وتعودي إلى أرض الواقع؟ لقد أصبحت ...."، واتجهت عينا إيلا نحو النافذة، تبحث عن كلمة مثيرة، حتى خطرت لها أخيراً كلمة "رومانسية!".
"وما الضير في أن أكون رومانسية؟"، سألت جانيت، وفي صوتها نبرة تشي بأنها أهينت.

حقاً ما الضير في أن تكون رومانسية؟ تساءلت إيلا.  منذ متى تزعجها كلمة رومانسية؟ وعندما لم تتمكن من الإجابة عن الأسئلة القابعة عند حواف دماغها، واصلت كلامها، "هيا، يا حبيبتي.  في أيّ قرن تعيشين؟ ضعي هذا في رأسك، إن النساء لا يتزوّجن من يحببن، بل يخترن الرجل الذي سيكون أباً جيداً، وزوجاً يمكنهن الاعتماد عليه.  فالحبّ إحساس جميل يأتي لكنه سرعان ما يتلاشى".
عندما أنهت إيلا كلامها، التفتت نحو زوجها. عقد ديفيد يديه أمامه، ببطء، كأنه يعقدهما عبر الماء، وراح ينظر إليها كأنه يراها الآن لأول مرة في حياته.
فقالت جانيت: "أعرف لماذا تفعلين ذلك، لأنك تغارين لأنني سعيدة وشابة.  إنك ترغبين في أن تجعلي مني ربّة بيت حزينة. إنك تريدين أن أكون مثلك يا أمّي".
اعترى إيلا شعور غريب يحفر في تجويف معدتها، كأن صخرة عملاقة تقبع فيها. فهل هي ربّة منزل غير سعيدة؟ أمّ في منتصف العمر عالقة في شباك زواج فاشل؟ أهكذا يراها أطفالها؟ وزوجها أيضاً؟ وماذا عن الأصدقاء والجيران؟ وفجأة تملكها شعور بأن جميع من حولها يرثي لها.  كان شكّها هذا  مؤلماً للغاية، فانطلقت من فمها تنهيدة.
"]جب أن تعتذري من أمّك"، قال ديفيد، ملتفتاً إلى جانيت متجّهماً.
"لا يهمّ. إني لا أنتظر منها أي اعتذار"، قالت إيلا باكتئاب.
ألقت جانيت نظرة خبيثة على أمّها، ودفعت كرسيها إلى الخلف، وألقت بمنديلها جانباً، وخرجت من المطبخ محتدمة، وبعد لحظات، تبعتها أورلي وآفي بصمت. هل كان سلوكهما هذا نابعاً من تضامنهما غير العادي مع أختهما الكبرى، أم لأنهما شعرا بالملل من كلام الكبار هذا، ثم غادرت العمّة إستر، ملتمسة عذراً غير مقنع، وهي تمضغ آخر حبة مضادة للحموضة.
ظل ديفيد وإيلا جالسين إلى المائدة، وخيّم إحساس بارتباك شديد بينهما.  كان الشيء الذي يؤلم إيلا أنها تواجه هذا الفراغ، الذي لم يكن له علاقة، كما يعرفان، بجانيت أو بأيّ طفل من أطفالهما.
أمسك ديفيد الشوكة التي وضعها جانباً وحدّق فيها لوهلة، وقال: "إذاً هل يمكنني أن أستنتج أنك لم تتزوجي الرجل الذي أحببته؟".
"أرجوك، لم يكن هذا ما قصدته".
"ماذا كنت تقصدين؟"، سأل ديفيد، وهو لا يزال يتحدث إلى الشوكة، "كنت أظن أنك كنت تحبينني عندما تزوّجنا".
"كنت أحبّك، قال إيلا، لكنها أضافت، "آنذاك".
"ومتى توقّفت عن حبي؟"، سأل ديفيد بصوت يخلو من أي تعبير.
نظرت إيلا إلى زوجها بدهشة، مثل امرأة لم تر انعكاس  صورتها قط، لكنها امرأة أمسكت الآن مرآة ورفعتها إلى وجهها.  هل توقّفت عن حبّه؟ كان سؤالاً هذا، لكن الشيء الذي كان يعوزها هو الكلمات.  وكانت تعرف أن أعماقها أنهما هما اللذان يجب أن يعالجا الأمر، لا أطفالهما.  لكنهما بدلاً من ذلك، كانا يبذلان أفضل ما بوسعهما: وهو أن يدعا الأيام تمضي، وأن يهيمن الروتين على حياتهما، وأن يسير الزمن في مجراه من الفتور الحتمي.

أجهشت في البكاء، غير قادرة على إيقاف هذا الحزن الدائم الذي أضحى، من دون علمها، جزءاً من كيانها.  أشاح ديفيد بوجهه المتجهم. فقد كانا يعرفنا أنه لا يحب أن يراها تبكي، بقدر ما كانت تكره أن تبكي أمامه.  ولحسن حظهما، أنقذهما رنين جرس الهاتف.
رفع ديفيد سماعة الهاتف، وقال: "ألو ... نعم، إنها هنا.  انتظري قليلاً من فضلك".
استجمعت إيلا نفسها وبدأت تتكلم، باذلة كل ما بوسعها لكي تبدو في حالة نفسية جيدة، وقالت: "نعم، إيلا تتكلم".
"ألو، هذه ميشيل.  آسفة لإزعاجك في عطلة نهاية الأسبوع"، جاءها صوت امرأة شابّة، "البارحة طلب مني ستيف أن أتصل بك، لكني نسيت. هل بدأت قراءة المخطوط؟".
"آه"، تنهّدت إيلا، بعد أن تذكّرت المهمة التي تنتظرها.  أول عمل ترسله لها الوكالة الأدبية، وهو قراءة رواية كتبها مؤلف أوروبي غير معروف.  وكتابة تقرير شامل عنها.  "أخبريه ألا يقلق.  فقد بدأت قراءتها"، قالت إيلا كاذبة.  فهي المرأة الطموحة والعنيدة، لم تشأ أن تزعج ميشيل من أول عمل طلب منها إنجازه.
"حسناً! كيف تسير الأمور؟".
صمتت إيلا قليلاً، لم تعرف ماذا تقول.  فلم تكن تعرف شيئاً عن المخطوط، سوى أنه مخطوط رواية تاريخية عن حياة الشاعر الصوفي المعروف الرومي، الذي عرفت أيضاً أنه يعتبر "شكسبير العالم الإسلامي".
"إنها رواية صوفية، ضحكت إيلا، آملة أن تغطي كلامها بمزحة.

لكن ميشيل كانت مشغولة، وقالت على نحو قاطع: "حسناً، اسمعي، أظن أن كتابة  تقرير عن رواية كهذه يحتاج إلى وقت أطول مما تتوقعين ...".
سمعت همهمة بعيدة على الهاتف عندما خفت صوت ميشيل. تخيّلت إيلا أنها تقوم بعدة أعمال في آن واحد – تقرأ رسائلها الإلكترونية، تقرأ مراجعة لأحد المؤلفين، تقضم سندويشة سلطة التونا، وتطلي أظافرها – كل ذلك خلال حديثها على الهاتف.
"ألا تزالين هناك؟"، سألت ميشيل بعد دقيقة.
"نعم".
"حسناً.  اسمعي، إن الوقع محترم هنا.  يجب أن أذهب.  تذكري فقط أن الموعد النهائي لتسليم العمل هو بعد ثلاثة أسابيع".
"أعرف"، قالت إيلا بغتة، محاولة أن تبدو أكثر تصميماً، "سيكون العمل جاهزاً في الموعد المحدد".
لكن الحقيقة هي أن إيلا لم تكن واثقة من رغبتها في تقييم هذا المخطوط، فقد كانت في البداية شديدة الحماسة والثقة.  وكانت سعيدة لأنها أول شخص يقرأ رواية لكاتب مغمور لم تنشر بعد، وأن يكون لها دور، مهما كان صغيراً، في تصرير مصير هذا الكاتب.  لكنها لم تعد واثقة الآن من أنها ستتمكن من التركيز على موضوع لا علاقة له بحياتها مثل موضوع الصوفية، تدور أحداثه في زمن يعود إلى القرن الثالث عشر.
لا بد أن ميشيل قد تبينت ترددها، فسألتها: "هل هناك مشكلة؟".
عندما لم تسمع جواباً، ازدادت إصراراً وقالت: "اسمعي، يمكنك أن تقولي لي ما ترغبين في قوله".

بعد برهة من الصمت، قرّرت إيلا أن تقول الحقيقة.
"أظن أنني لست في أفضل حالاتي الذهنية هذه الأيام حتى أركّز على رواية تاريخية.  أقصد أنني لست مهتمّة بالرومي وما إلى ذلك، لكن الموضوع لا يزال غريباً عليّ.  ليتك تعطيني رواية أخرى – شيئاً أكثر ارتباطاً بي".
"يا لها من نظرة غريبة"، قالت ميشيل، "أتظنين أنه يمكنك أن تعملي أفضل لو قرأتِ شيئاً تعرفينه جيداً؟ لا أبداً! أفلأنك تقيمين في هذه الولاية، يخيّل إليك أنك تستطيعين تحرير روايات تدور أحداثها في ولاية ماساشوستس، هل هذا صحيح؟".
"ليس هذا ما أقصده ..."، قالت إيلا، وأدركت على الفور أنها لفظت الجملة ذاتها عدى مرات بعد ظهر اليوم، وألقت نظرة على زوجها لترى هل لاحظ هو أيضاً ذلك، لكن كان من الصعب عليها أن تفسّر قسمات وجه ديفيد.
"في معظم الأحيان، يتعين علينا أن نقرأ كتباً لا علاقة لها بحياتنا.  هذا جزء من عملنا.  فخلال هذا الأسبوع، قرأت كتاباً كتبته امرأة إيرانية كانت تدير بيت دعارة في طهران، فاضطرت إلى الهروب من البلد.  فهل أطلب منها أن ترسل المخطوط إلى ناشر إيراني بدلاً من ذلك؟".
"طبعاً لا"، همهمت إيلا، وأحست بأنها سخيفة ومذنبة.
"ألا يعتبر ربط الناس بأراضٍ وثقافات بعيدة مواطن قوة في الأدب الجيد؟".
"بالتأكيد.  اسمعي، انسي ما قلته لك.  ستجدين تقريراً على طاولتك

قبل الموعد المحدد"، قالت إيلا.  أحست بالكراهية تجاه ميشيل لأنها تعاملها كما لو كانت أشد الأشخاص ضجراً وتبلداً، وكرهت نفسها لأنها تركت ذلك يحدث.
"رائع، هذه هي الروح المطلوبة"، قالت ميشيل كأنها تغني، "لا تسيئي فهمي، لكني أظن أنك يجب أن تتذكري أن العشرات يتمنون الحصول على عملك هذا، وجلهم في نصف عمرك تقريباً.  إن هذا سيبقيك متحمسة للعمل".
عندما أغلقت إيلا السماعة، وجدت ديفيد ينظر إليهما، وقد بدت على وجهه أمارت الجدّ والتحفظ. كان يبدو انه ينتظر أن يبدأ من حيث انتهيا، لكنها لم تعد تريد أن تتحدث عن مستقبل ابنتها، إذا كان ذلك ما كان يقلقهما في المقام الأول.
في وقت لاحق من ذلك اليوم، وجدت نفسها تجلس وحيدة على الشرفة، في كرسيها الهزاز الذي تحب الجلوس عليه، تحدّق في الغروب بلونه الأحمر المائل إلى البرتقالي في نورثامبتون، وبدت لها السماء قريبة جداً منها، ومكشوفة إلى درجة أنها تكاد تستطيع أن تلمسها.  هدأ عقلها الذي بدا أنه تعب من الضجيج الذي كان يدور في داخله: تسديد فواتير بطاقة الائتمان هذا الشهر، وعادات أورلي السيئة في تناول الطعام، ودرجات آفي المتدنية في المدرسة، والعمّة إستر وكعكاتها الحزينة، وصحة كلبها "سبيريت" الآخذة في التدهور، ومخططات زواج جانيت، وعلاقات زوجها الغرامية السرية، وغياب الحبّ من حياتها ... والواحدة تلو الأخرى، أقفلت عليها جميعها في صناديق عقلية صغيرة.  وفي حالتها النفسية تلك، أخرجت إيلا المخطوط ورفعته بيدها كأنها تريد أن تزنه.  كان عنوان الرواية مكتوباً على الغلاف بحبر أزرق غامق: "الكفر الحلو".
عرفت إيلا أن أحداً لا يعرف الكثير عن المؤلف – الذي يدعى أ . ز . زاهارا، ويعيش في هولندا.  وكان مخطوطه قد أرسل إلى الوكالة الأدبية من آمستردام، ووجدت في المغلف بطاقة بريدية، عليها صورة حقول أزهار الزنبق بألوان صفراء وأرجوانية رائعة، وقد كتبت على جانبها الخلفي ملاحظة بخط جميل:
سيدي / سيدتي،
تحيات من آمستردام.  تدور أحداث الرواية المرسلة طيه، في القرن الثالث عشر في قونية بأسيا الصغرى، لكني أظن بصدق أن أحداثها تسري على جميع البلدان والثقافات والقرون.
أرجو أن يتاح لكم الوقت لقراءة رواية "الكفر الحلو"، وهي رواية باطنية تاريخية، عن العلاقة الرائعة التي تربط بين الرومي، أفضل شاعر وأعظم زعيم روحي مبجّل في التاريخ الإسلامي، وشمس التبريزي، الدرويش المميز، المجهول، المليء بالفضائح والمفاجآت.
أرجو أن يرافقكم الحبّ دائماً، وأن يحيط بكم على الدوام.
أ . ز . زاهارا
أحسّت إيلا بأن هذه البطاقة البريدية أثارت فضول الوكيل الأدبي، لكن ليس لدى ستيف الوقت الكافي لقراءة رواية كتبها كاتب هاوٍ، فأعطى المغلف لمساعدته ميشيل التي أعطتها لمساعدتها الجديد.

وبهذه الطريقة أضحت رواية "الكفر الحلو" بين يدي إيلا.  لم تكن تعرف أن هذا الكتاب لن يكون مجرد كتاب عادي، بل كتاب سيغيّر حياتها، وأنه عندما تقرأه، سيعيد كتابة قصة حياتها.
قلّبت إيلا الصفحة الأولى.  كانت هناك ملاحظة عن الكاتب.
أ . ز . زاهارا يعيش في آمستردام مع كتبه، وقططه، وسلاحفه، هذا عندما لا يكون مسافراً في أصقاع الأرض.  إن رواية "الكفر الحلو" هي روايته الأولى، وربما كانت روايته الأخيرة.  فليست لديه النية في أن يصبح روائياً، إذ كتب هذه الرواية من باب الإعجاب المحض، وبدافع من حبه الشديد للشاعر العظيم، الصوفي، الروحي وشمسه العزيزة، شمس التبريزي.
انتقلت عيناها نحو أسفل الصفحة إلى السطر التالي.  وقرأت إيلا شيئاً بدا مألوفاً على نحو غريب:
لأنه على الرغم مما يقوله البعض، فإن العشق ليس مجرد شعور حلو مقدّر له أن يأتي ويذهب بسرعة.
فغرت إيلا فمها عندما أدركت أن هذه العبارة نقيض العبارة التي قالتها لابنتها في المطبخ في ذلك اليوم.  لبثت واقفة للحظة، ترتعش عندما خطرت لها فكرة أن قوة غامضة أو قوة أخرى في هذا الكون، بأنّ هذا الكاتب، أو أي شخص آخر، يتجسّس عليها. لعله كتب هذا الكتاب وهو يعرف سلفاً من هو أول شخص سيقرأ.  لا بد أن الكاتب يعرف أنها ستكون أول قارئة له.  ولسبب مجهول لا تعرفه، وجدت إيلا الفكرة مزعجة ومثيرة في آن معاً.

بأشكال عدة، لا يختلف القرن الحادي والعشرون كثيراً عن القرن الثالث عشر.  وسيدوّن في التاريخ أن هذين القرنين كانا عصر صراعات دينية إلى حد لم يسبق له مثيب، وعصر ساد فيه سوء التفاهم الثقافي، والشعور العام بعدم الأمان والخوف من الآخر.  وفي أوقات كهذه، تكون الحاجة إلى الحبّ أشد من أي وقت مضى.
هبّت ريح مفاجئة نحوها، باردة وقوية، فبعثرت الأوراق على الشرفة: تحوّل جمال الغروب نحو الأفق الغربي، وبدا الهواء كليلاً كئيباً.
ولمّا كان العشق جوهر الحياة وهدفها السامي، كما يذكّرنا الروني، فإنه يقرع أبواب الجميع، بمن فيهم الذين يتحاشون الحبّ – حتى الذين يستخدمون كلمة "رومانسية" كإشارة إلى الفرض والاستهجان.
شعرت إيلا بدهشة كما لو أنها قرأت: "إنه يقرع أبواب الجميع، حتى باب ربّة بيت في منتصف العمر، تعيش في نورثامبتون، تدعى إيلا روبنشتاين".
دفعتها غريزتها إلى وضع المخطوط جانباً، والدخول إلى البيت، ومخابزة ميشيل، لتقول لها إنها لا تستطيع أن تكتب تقريراً عن هذه الرواية.  لكنها بدلاً من ذلك، أخذت نفساً عميقاً، وقلبت الصفحة، وراحت تقرأ.
  

الكفر الحلو

الكفر الحلو

رواية
أ‌.    ز. زاهارا




يقول الصوفيون إن سرّ القرآن يكمن في
سورة الفاتحة،
وسر الفاتحة يكمن في عبارة
بسم الله الرحمن الرحيم
ويكمن جوهر بسم الله الرحمن الرحيم في حرف الباء
حيث توجد نقطة تحت هذا الحرف ....
وتجسّد النقطة تحت حرف الباء الكون
برمته ....
ب
كما يبدأ المثنوي بحرف الباء




مقدمة

كان القرن الثالث عشر، المفعم بالصراعات الدينية، والنزاعات السياسية، والصراعات اللانهائية على السلطة، فترى مضطربة في منطقة الأناضول.  ففي الغرب، احتل الصليبيون القسطنطينية وعاثوا فيها فساداً وهم في طريقهم لاحتلال القدس، فقسمت الامبراطورية البيزنطية.  وفي الشرق، انتشرت جيوش المغول بسرعة كبيرة بقيادة القائد العسكري العبقري جنكيزخان.  وفي الوسط، كانت القبائل التركية المختلفة تتحارب في ما بينها، بينما كان البيزنطيون يحاولون استرجاع أرضهم وثروتهم وقوتهم التي فقدوها.  كانت فترة من الفوضى لم يسبق لها مثيل، حيث كان المسيحيون يقاتلون المسيحين، والمسيحيون يقاتلون المسلمين، والمسلمون يقاتلون المسلمين. فحيثما ولّى المرء وجهه، كان هناك اقتتال وألم وخوف شديد لما يمكن أن يحدث بعد ذلك.  وفي خضم هذه الفوضى، عاش عالم إسلامي جليل، يعرف باسم جلال الدين الرومي، ويُلقّب "بمولانا"، يحيط به آلاف المريدين والمعجبين من المنطقة كلها وما وراءها، وكان يُعتبر منارة للمسلمين جميعاً.
وفي العام 1244 ميلادي، التقى الرومي بشمس – الدرويش الجوّال



ذي التصرفات الغريبة والآراء الهرطقية.  وقد غيّر لقاؤهما هذا حياة كلّ منهما.  وكان هذا اللقاء بداية لصداقة فريدة متينة شبّهها الصوفيون في القرون التالية باتحاد محيطين اثنين.  وبعد لقاء الرومي بهذا الرفيق الاستثنائي، تحوّل من رجل دين عادي إلى شاعر يجيش بالعاطفة، وصوفي ملتزم، وداعية إلى الحبّ، فابتدع رقصة الدراويش، وتحرر من جميع القيود والقواعد التقليدية.  وفي عصر سادته روح التعصب والنزاعات الدينية، دعا إلى روحانية عالمية شاملة، مشرعاً أبوابه أمام جميع البشر من مختلف المشارب والخلفيات. وبدلاً  من أن يدعو إلى الجهاد الخارجي، الذي يعرّف "بالحرب على الكفّار"، الذي دعا إليه الكثيرون في ذلك الزمان، تماماً كما يجري في يومنا هذا – دعا الرومي إلى الجهاد الداخلي، وتمثّل هدفه في جهاد "الأنا"، وجهاد "النفس" وقهرها في نهاية الأمر.
لكن أفكاره لم تلق ترحيباً من جميع الناس، ولم يفتحوا جميعهم قلوبهم للمحبّة.  وأصبحت الرابطة الروحية القوية بين شمس التبريزي والرومي نهباً للشائعات والافتراءات والتهجمات.  وأسيء فهمهما، وأصبحا موضع حسد، وذمّ، وحطّ الناس من قدرهما، وخانهما أقرب المقربين إليهما.  وبعد مضي ثلاث سنوات على لقائهما، انفصلا على نحو مأساوي.
لكن القصّة لم تنته هناك.
في واقع الحال، لم تكن هناك نهاية.  فبعد مضي زهاء ثمانمائة سنة، لا تزال روح شمس وروح الرومي تنبضان بالحياة حتى يومنا هذا، تدوران في وسطنا في مكان ما ...








القاتل

الإسكندرية، تشرين الثاني (نوفمبر) 1252
تحت مياه داكنة في إحدى الآبار، يرقد ميتاً الآن.  وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت عيناه تتبعانني حيثما ولّيت، براقتان، مهيبتان، مثل نجمتين داكنتين، معلقتين على نحو ينذر بالشؤم في أعالي السماء.  فقد أتيت إلى الإسكندرية بأمل أن أستطيع،  إن أنا سافرت إلى مكان بعيد، أن أهرب من هذه الذاكرة الثاقبة وأن أوقف ذلك العويل الذي يتردّد صداه في رأسي، تلك الصيحة الأخيرة التي انطلقت منه قبل أن يصفى دمه، وتجحظ عيناه، وتغلق حنجرته في لهاث غير منته، وداع رجل مطعون بالسكين.  عواء ذئب وقع في مصيدة.
عندما تقتل أحداً، فأن شيئاً منه ينتقل إليك – تنهيدة، أو رائحة، أو إيماءة.  وأنا أدعوها "لعنة الضحيّة".  تلتصق بجسمك وتتغلغل في جلدك، وتسري مباشرة إلى قلبك، وتظل تنغل في داخلك.  ولا يملك أحد ممن يراني في الشارع وسيلة معرفة ذلك، لكني أحمل معي آثار جميع الرجال الذين قتلهم.  أعلّقهم حول رقبتي مثل قلائد خفية، أحسّ بوجودهم فوق لحمي، بإحكام وبثقل. ومع أنني لا أشعر بالراحة، فقد اعتدت العيش مع هذا العبء، وقبلته كجزء من عملي.  ومنذ أن قتل قابيل هابيل، ففي كلّ قاتل، يتنفّس الرجل الذي قتله، هذا ما أعرفه، وهو أمر لا يزعجني.  لم يعد يزعجني. لكن، لماذا اعترتني تلك الرجفة القوية بعد تلك الحادثة السريعة؟
 كلّ شيء مختلفاً هذه المرة، منذ البداية.  فهاكم الطريقة التي وجدت العمل فيها مثلاً، أم هل عليّ أن أقول الطريقة التي وجدني فيها العمل؟ ففي بداية ربيع سنة 1248، كنت أعمل لدى صاحبة مبغى في قونية، خنثى معروفة بشدّة غضبها، وكنت أساعدها في مراقبة العاهرات، وبث الرعب في نفوس الزبائن الذين لا يحسنون التصرف.
أذكر ذلك اليوم بجلاء.  فقد كنت أطارد عاهرة هربت من المبغى بحثاً عن الله.  كانت شابّة جميلة، كادت تحطم قلبي، لأنني إذا ما لحقت بها، كنت أنوي أن أشوّه وجهها بحيث لا يعود رجل يرغب بالنظر إليه.  كنت على وشط الإمساك بهذه المرأة الغبية عندما وجدت رسالة غامضة ملقاة عند عتبة باب بيتي.  ولمّا كنت أمياً لا أجيد القراءة، فقد أخذتها إلى المدرسة، وأعطيتها لأحد الطلاب ليقرأها لي ودفعت له مبلغاً لقاء ذلك.
ثم تبين لي أنها رسالة من مجهول وقّع عليها "عدد من المؤمنين المخلصين".
تقول الرسالة: "لقد عرفنا مصدر موثوق من أنت ومن أين أتيت وأين تعمل.  عضو سابق في فرقة الحشاشين! ونعرف كذلك أن الفرقة لم تعد قوية كما كانت بعد أن مات حسن الصباح وسجن زعماؤك.

ونعرف أنك جئت إلى قونية هرباً من القصاص، وأنك تعيش متنكّراً منذ ذلك الحين".
وذكرت الرسالة أنهم في حاجة ماسة إلى خدماتي، وأنهم سيدفعون لي مبلغاً جيداً من المال.  وقالوا إن عليّ، إن كنت مهتمّاً بالأمر، أن أتوجه إلى حانة مشهورة في ذلك المساء بعد حلول الظلام.  وعندما أصل إلى تلك الحانة، أجلس إلى أقرب طاولة إلى النافذة، مولياً ظهري للباب، مطرق الرأس، وأن أثبّت عينيّ في الأرض.  ثمّ سيأتي إليّ الشخص أو الأشخاص الذين سيستخدمونني، ويقدمون لي كلّ المعلومات التي أحتاج إلى معرفتها.  ويجب عليّ ألاّ أرفع رأسي وأنظر إلى وجوههم عندما يصلون أو عندما يغادرون، أو خلال حديثنا.
كانت رسالة غريبة.  لكنني كنت معتاداً على التعامل مع نزوات الزبائن.  فعلى مرّ السنين، استخدمني أشخاص من جميع الأنواع، وكان معظمهم يرغب في الاحتفاظ بسرية أسمائهم.  وعلّمتني التجربة، أنه في أحيان كثيرة، كلما بذل الزبون جهداً لإخفاء هويته، كان أقرب إلى ضحيّته، لكن لا شأن لي بذلك.  إذ تنحصر مهمّتي.  ومنذ أن غادرت "ألموت" منذ عدة سنوات، كانت تلك هي الحياة التي اخترتها لنفسي.
وفي جميع الأحوال، نادراً ما كنت أطرح أسئلة.  فلماذا أسأل؟  فمعظم الذين أعرفهم لدى كل واحد منهم على الأقل شخص يريد التخلّص منه.  وعندما لا يفعلون شيئاً إزاء ذلك، فهذا لا يعني أنهم محصّنون من الرغبة في قتلهم.  في الواقع، توجد في داخل كلّ شخص رغبة دفينة في قتل أحدهم ذات يوم. والناس لا يدركون ذلك، إلا بعد أن تحدث لهم.  فهم يظنون أنهم عاجزون عن القتل.  لكن المسألة مسألة ضمير فحسب.  ففي بعض الأحيان، تكفي مجرد إيماءة لتأجيج صورة غضبهم. سوء فهم متعمّد، شجار على شيء تافه، أو أن يتواجد المرء في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ، إذ يمكن أن تظهر نزعة تدميرية لدى الأشخاص الذين يكونون أشخاصاً طيبين ومحترمين في الأحوال العادية.  إذ يمكن لأي شخص أن يقتل شخصاً غريباً عامداً متعمداً، وهنا أدخل إلى الصورة.
كنت أنفذ الأعمال القذرة لصالح الآخرين.  حتى الله أدرك الحاجة إلى شخص مثلي في خطته المقدّسة عندما عيّن عزرائيل،  ملاك ويلعنونه ويمقتونه، بينما تظل يدا الله نظيفتين، ويظل اسمه نقياً.  وفي ذلك جور على هذا الملاك.  لكن للمرة الثانية أقول إن العالم كله يسوده الظلم، أليس كذلك؟
عندما هبط الليل، توجهت إلى الحانة.  وشاءت الصدف أن يجلس رجل في وجهه ندبة، إلى الطاولة بالقرب من النافذة، ويغطّ في النوم.  خطر لي أن أوقظه وأطلب منه الانتقال إلى طاولة أخرى.  لكنك لا تعرف ماذا يمكن أن تكون عليه ردة فعل السكارى، لذلك كان عليّ أن أتوخى الحذر، وألاّ الفت الانتباه إليّ.  لذلك، جلست إلى الطاولة الفارغة التالية، قبالة النافذة.

وبعد قليل وصل رجلان، وجلسا إلى جانبيّ لكي لا أرى وجهيهما.  لم أكن بحاجة لأن أنظر إليهما، لأدرك أنهما شابان، وأنهما غير مستعدين لاتخاذ الخطوة التي كانا على وشك اتخاذها.
"لقد جاءتنا توصية عالية لك"، قال أحدهم، لم تكن نبرته حذرة بقدر ما كانت متردّدة، "قيل لنا إنك الأفضل".
بدت طريقة قوله مضحكة، لكنني كتمت ابتسامتي.  لاحظت أنهما كانا خائفين، وهو أمر جيد.  فعندما يكونان خائفين، لن يجرآ على ارتكاب أي خطأ معي.
لذلك قلت: "نعم، أنا الأفضل، لذلك يطلقون عليّ اسم "رأس الواوي".  لم أخذل زبائني قط، مهما بلغت صعوبة تلك المهمّة".
"جيد، قال متنهّداً، "لأن هذه المهمة قد لا تكون سهلة".
وهنا تحدّث الشاب الآخر وقال: "انظر، لقد كسب هذا الرجل لنفسه أعداء كثيرين.  فمنذ أن جاء إلى هذه البلدة، لم يجلب شيئاً سوى المشاكل.  حذّرناه عدة مرات، لكنه لم يستمع إلى قولنا له، وأصبح مشاكساً ومثيراً للمشاكل.  لم يدع أمامنا أي خيار آخر".
كانت الأمور تسير على هذا المنوال باستمرار.  ففي كلّ مرة، يحاول الزبائن تفسير ما سيقدمون عليه، قبل أن نتوصل إلى اتفاق، وكأن موافقتي قد تقلّل من خطورة ما سيقدمون على عمله.
فسألتهما: "فهمت قصدكما.  قولا لي، من هو هذا الشخص؟".  ترددا في ذكر الاسم، وقدما أوصافاً غامضة.
"إنه رجل زنديق لا يمت بصلة  إلى الإسلام.  إنه عنيد، جامح، يكتنفه الرجس والكفر. إنه درويش مارق".

ما إن سمعت الكلمة الأخيرة، حتى سرى في ذراعيَّ إحساس مخيف.  وأخذ عقلي يفكّر بسرعة.  لقد قتلت جميع أنواع البشر، صغاراً وكباراً، وجالاً ونساء، لكنني لم أقتل قط درويشاً، رجلاً مؤمناً.  فأنا أؤمن بالخرافات ولم أكن أرغب في أن أجلب عليّ غضب الله، لأنني على الرغم من كلّ شيء، أؤمن به.
"أظن أني سأرفض طلبكما.  لا أظن أني أريد أن أقتل رجل دين.  ابحثا عن شخص آخر".
وبنهاية قولي هذا، استويت واقفاً متهيئاً للمغادرة.  لكن أحد الرجلين أمسكني من يدي، وقال متوسلاً: "انتظر أرجوك: سيتناسب المبلغ مع الجهد الذي ستبذله.  ومهما بلغ الأجر الذي تتقاضاه، فإننا على استعداد لمضاعفة المبلغ".
"ماذا عن ثلاثة أضعاف؟"، سألتهما، مقتنعاً بأنهما لن يزيدا المبلغ كثيراً.
لكن لدهشتي، وبعد تردد، وقف كلاهما.  عدت وجلست في مقعدي، متوتراً.  فبهذا المبلغ يمكنني أن أسدد مهر عروس وأن أتزوّج أخيراً، ولن يساورني قلق بشأن تدبير أمور معيشتي.  درويشاً أم غير درويش، فأي شخص جدير بأن يقتل لقاء هذا المبلغ.
كيف كان لي أن أعرف أنني ارتكبت في تلك اللحظة أكبر خطأ في حياتي، وأنني سأمضي بقية حياتي نادماً على ما اقترفته يداي؟ كيف يمكنني معرفة أن قتل الدرويش سيكون أمراً في غاية الصعوبة، وأنه حتى بعد مرور فترة طويلة على وفاته، ستتعقبني نظرته الحادة كالسكين في كل مكان؟

مضت الآن أربع سنوات منذ أن طعنته  في ذلك الفناء، وألقيت بجسده في بئر، ورحت أنتظر سماع صوت سقوطه في الماء، وهو ما لم أسمعه أبداً.  يم يصدر أي صوت.  فبدل أن يسقط في الماء، يبدو أنه صعد إلى السماء.  وما زلت لا يغمض لي جفن من دون أن تنتابني كوابيس، وعندما أنظر إلى الماء، أيّ مصدر ماء، لبضع ثوان، يتملك جسدي كله رعب بارد، فأتقيأ.